الموسوعة الفقهية

المبحث السابع: الغُرم على دَين الميِّت


اختلَف أهلُ العلم في قضاءِ دَينِ الميِّتِ مِنَ الزَّكاة، على قولينِ:
القول الأوّل: لا يجوزُ قضاءُ دَين الميِّتِ مِنَ الزَّكاةِ، وهو مذهبُ الحنفيَّة ((المبسوط)) للسرخسي (2/186)، ((الفتاوى الهندية)) لمجموعة علماء برئاسة نظام الدين البلخي (1/188). ، والحَنابِلَة ((الإنصاف)) للمرداوي (3/ 166)، ويُنظر: ((مسائل الإمام أحمد رواية أبي داود السجستاني)) (ص: 121)، ((المغني)) لابن قدامة (2/498). ، وبه قال ابنُ المواز من المالكيَّة ((الذخيرة)) للقرافي (3/148). ، ووجْهٌ للشافعيَّة ((المجموع)) للنووي (6/211). ، واختاره أبو عُبَيدٍ القاسِمُ بنُ سلام قال أبو عُبيد: (وإنَّما افتَرَق الحيُّ والميِّت أن يكون الميِّتُ غارمًا؛ لأنَّ الدَّينَ الذي أدانه قد تحوَّل على غَيرِه، وهو الوارِثُ، فإنْ كان على الميِّتِ وفاءٌ بِدَينِه كان في ميراثِه، وكان ذلك عليه دون الصَّدَقةِ، وإنْ لم يكُن له مالٌ، فليس على وارِثِه شيءٌ وليس بغارِمٍ؛ لأنَّه هو الذي أدان هذا الدَّينَ، وقد أجمعتِ العلماءُ أنْ لا يُعطَى من الزَّكاة في دَينِ ميِّتٍ). ((الأموال)) (ص: 725). ، وابنُ عُثيمين قال ابنُ عُثيمِين: (الصحيحُ: أنَّه لا يُقضى دَينُ الميِّتِ منها، وقد حكاه أبو عُبيدٍ في الأموال وابن عَبدِ البَرِّ إجماعًا، لكنَّ المسألةَ ليستْ إجماعًا؛ ففيها خلافٌ، إلَّا أنَّه في نظرنا خلافٌ ضعيف، والعجيبُ أنَّ شيخَ الإسلامِ ابنَ تيميَّة- رَحِمَه الله- جوَّز أن تُقضى ديونُ الأمواتِ مِنَ الزَّكاةِ، وحكاه وجهًا في مذهَبِ الإمامِ أحمَدَ، واستدلَّ بقَولِه تعالى: وَالْغَارِمِينَ، فلم يعتبرِ التَّمليك، وإنَّما اعتبَرَ إبراءَ الذمَّة، فالميِّتُ أوْلى بإبراءِ الذِّمَّةِ مِنَ الحي، لكِنَّ القولَ الأوَّلَ أرجَحُ، فلا يُقضى دَينُ الميِّتِ مِنَ الزَّكاةِ). ((الشرح الممتع)) (6/235).
وذلك للآتي: 
أوَّلًا: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم كان لا يَقضي دُيونَ الأمواتِ مِنَ الزَّكاة، ولو كان قضاءُ الدَّينِ عن الميِّت مِنَ الزَّكاة جائزًا، لفعَلَه صلَّى الله عليه وسلَّم ((الشرح الممتع)) لابن عُثيمين (6/236).
ثانيًا: أنَّ الغارِمَ هو الميِّتُ، ولا يمكِنُ الدَّفعُ إليه، وإنْ دفَعَها إلى غريمِه، صار الدفْعُ إلى الغريمِ لا إلى الغارِمِ ((المغني)) لابن قدامة (2/498).
ثالثًا: أنَّ الظَّاهِرُ مِن إعطاءِ الغارِمِ، أنْ يُزال عنه ذلُّ الدَّينِ، وهذا المعنى لا يتحقَّقُ بدفْعِ الزَّكاة في دَينِ الميِّتِ ((الشرح الممتع)) لابن عُثيمين (6/235).
رابعًا: أنَّه لو فُتِحَ هذا البابُ لعطَّل قضاءَ ديونِ كثيرٍ مِنَ الأحياء؛ لأنَّ العادةَ أنَّ النَّاسَ يعطِفون على الميِّتِ أكثَرَ ممَّا يعطِفون على الحيِّ، والأحياءُ أحقُّ بالوفاءِ مِنَ الأموات ((الشرح الممتع)) لابن عُثيمين (6/236).
خامسًا: أن ذِمَّةَ الميِّت قد خَرِبَت بموتِه، فلا يُسمَّى غارمًا ((الشرح الممتع)) لابن عُثيمين (6/236).
سادسًا: أنَّ فَتْحَ هذا البابِ يفتَح بابَ الطَّمَع والجَشَع مِنَ الوَرَثة، فيُمكِنُ أن يجحَدوا مالَ الميِّتِ، ويقولوا: هذا مَدينٌ ((الشرح الممتع)) لابن عُثيمين (6/236).
القول الثاني: يجوز قضاءُ دَينِ الميِّتِ مِنَ الزَّكاةِ، وهو مذهبُ المالكيَّة ((منح الجليل)) لعليش (2/ 90)، ويُنظر: ((الذخيرة)) للقرافي (3/148)، ((شرح مختصر خليل)) للخرشي (2/218). ، ووجهٌ للشافعيَّة ((البيان في مذهب الإمام الشافعي)) للعمراني (3/424)، ((المجموع)) للنووي (6/211). ، وهو اختيارُ ابنِ تيميَّة قال ابنُ تيميَّة: (أمَّا الدَّينُ الذي على الميِّتِ، فيجوزُ أن يُوفَّى مِنَ الزَّكاة في أحَدِ قولي العلماءِ، وهو إحْدى الرِّوايتينِ عن أحمد؛ لأنَّ الله تعالى قال: وَالْغَارِمِينَ ولم يقل: وللغارِمينَ، فالغارِمُ لا يُشتَرَط تمليكُه على هذا، وهذا يُجَوِّزُ الوفاءَ عنه، وأنْ يُملَّك لوارِثِه ولغَيرِه) ((الفتاوى الكبرى)) (4/189). ، وبه أفتت اللَّجنةُ الدَّائمةُ بالسعوديَّة سُئِلت اللَّجنةُ الدَّائمةُ برئاسة ابن باز: (رجلٌ مات وعليه دَين ولم يُخلِّفْ مالًا؛ فهل يجوز دفْع الزَّكاةِ لوفاءِ دَينِه؟ فأجابت اللجنة: الأصْلُ في الشريعةِ الإسلاميَّة أنَّ مَن مات مِن أفراد المسلمينَ المُلتزمين لتعاليمِ دِينهم، وعليه دَينٌ لَحِقَه في تعاطي أمورٍ مُباحةٍ، ولم يترُكْ له وفاءً، أن يُشرَعَ قضاؤه عنه مِن بَيتِ مال المسلمينَ؛ لِمَا روى البخاريُّ ومسلم وغيرُهما- رَحِمَهم الله- أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((ما مِن مؤمنٍ إلَّا وأنا أوْلَى النَّاسِ به في الدُّنيا والآخِرَة؛ اقرَؤُوا إن شئتم: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ **الأحزاب: 6**، فأيُّما مُؤمِنٍ ترَك مالًا فلْيَرِثْه عَصَبتُه مَن كانوا، فإن ترَك دَينًا أو ضَيَاعًا، فليأتِني وأنا مَولاه)). فإذا لم يتيسرْ قضاؤه من بيتِ المالِ، جاز أن يُقضى دَينُه مِنَ الزَّكاةِ إذا لم يكُن الدَّافِعُ هو المُقتَضي) ((فتاوى اللَّجنة الدَّائمة - المجموعة الأولى)) (10/33-34). ، وبه صدَر قرارُ مَجمَعِ الفقهِ الإسلاميِّ التابِعِ لمنظَمَّة المؤتَمِرِ الإسلاميِّ في قرارات مَجمَع الفقه الإسلامي: (وديونُ الميِّتِ إن لم يكن له ترِكةٌ يُوفَّى منها دَينُه، وهذا إذا لم يتمَّ دَفعُها مِن بيتِ المالِ- الخزانة العامَّة-) قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي المنعقد في دورته الثامنة عشرة في بوتراجايا (ماليزيا) من 24 إلى 29 جمادى الآخرة 1428هـ، الموافق 9 م 13 تموز (يوليو) 2007 م. قرار رقم: 165 (3/18).
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الكِتابِ
قولُ اللهِ تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة: 60]
وجه الدَّلالة:
أنَّ عمومَ الآيةِ يَشمَلُ قضاءَ الدَّينِ عنِ الغارِمِ، ولم يُفرَّقْ فيها بين الحيِّ والميِّتِ ((المجموع)) للنووي (6/211)، ((البيان في مذهب الإمام الشافعي)) للعمراني (3/425).
ثانيًا: أنَّه يجوزُ التبرُّعُ بقضاءِ دَينه، فجاز له قضاءُ دَينِه من الزَّكاة، كالحيِّ ((المجموع)) للنووي (6/211)، ((البيان في مذهب الإمام الشافعي)) للعمراني (3/425).
ثالثًا: أنَّ دَينَ الميِّتِ أحقُّ مِن دَين الحيِّ في أخْذِه مِنَ الزَّكاةِ؛ لأنَّه لا يُرجى قضاؤُه بخِلاف الحيِّ ((منح الجليل)) لعليش (2/90)، ((شرح مختصر خليل)) للخرشي (2/218).

انظر أيضا: