الموسوعة الفقهية

المَطلَبُ الرَّابِعُ: حُكمُ الغالِّ التَّائِبِ قَبلَ قِسمةِ الغَنائِمِ


إذا غَلَّ شَيئًا مِمَّا غَنِمَه المُسلِمونَ -قَلَّ أو كَثُرَ- ثُمَّ تابَ ونَدِمَ قَبلَ قِسمةِ الغَنائِمِ، فإنَّه يَجِبُ عليه رَدُّ ما أخَذَه قَبلَ أن يَقتَسِموا ويَتَفَرَّقَ الجَيشُ.
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
1 - عَن أبي هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه، قال: ((خَرَجنا مَعَ رَسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- يَومَ خَيبَرَ، فلَم نَغنَمْ ذَهَبًا ولا فِضَّةً، إلَّا الأموالَ والثِّيابَ والمَتاعَ، فأهدى رَجُلٌ مِن بَني الضُّبَيبِ -يُقالُ له رِفاعةُ بنُ زَيدٍ- لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم غُلامًا يُقالُ له مِدعَمٌ، فوجَّهَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى وادي القُرى، حَتَّى إذا كان بوادي القُرى، بَينَما مِدعَمٌ يَحُطُّ رَحلًا لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا سَهمٌ عائِرٌ فقَتَلَه، فقال النَّاسُ: هَنيئًا له الجَنَّةُ! فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: كَلَّا والذي نَفسي بيَدِه إنَّ الشَّملةَ التي أخَذَها يَومَ خَيبَرَ مِنَ المَغانِمِ لم تُصِبها المَقاسِمُ لَتَشتَعِلُ عليه نارًا، فلَمَّا سَمِعَ ذلك النَّاسُ جاءَ رَجُلٌ بشِراكٍ أو شِراكَينِ إلى النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- فقال: شِراكٌ مِن نارٍ أو شِراكانِ مِن نارٍ)) [255] أخرجه البخاري (6707) واللفظ له، ومسلم (115). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
فيه تَنبيهٌ على المُعاقَبةِ بهما، إمَّا بنَفسِهما، أي: يُغلى بهما وهما مِن نارٍ، أو هُما سَبَبانِ لعَذابِ النَّارِ، وفيه غِلَظُ تَحريمِ الغُلولِ، وأنَّه لا فرقَ بَينَ قَليلِه وكَثيرِه في التَّحريمِ حَتَّى الشِّراكِ ... وأنَّ مَن رَدَّ شَيئًا مِمَّا غَلَّ يُقبَلُ [256] يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للملا على القاري (6/ 2583). .
2- عن عَبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رَضيَ اللهُ عنهما، قال: ((كانَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا أصابَ غَنيمةً أمَرَ بلالًا فنادى في النَّاسِ، فيَجيئونَ بغَنائِمِهم، فيُخَمِّسُه ويَقسِمُه، فجاءَ رَجُلٌ بَعدَ ذلك بزِمامٍ مِن شَعَرٍ. فقال: يا رَسولَ اللهِ، هذا فيما كُنَّا أصَبناه مِنَ الغَنيمةِ، فقال: أسَمِعتَ بلالًا يُنادي ثَلاثًا؟ قال: نَعَم. قال: فما مَنَعَكَ أن تَجيءَ به؟ فاعتَذَرَ إليه. فقال: كُنْ أنتَ تَجيءُ به يَومَ القيامةِ، فلَن أقبَلَه عنك)) [257] أخرجه أبو داود (2712) واللفظ له، وأحمد (6996)، والحاكم (2619). حسَّنه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (2712)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (804)، وصَحَّح إسنادَه الحاكم، وحسَّنه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (2712). وذهب إلى تصحيحه ابنُ حبان في ((صحيحهـ)) (4809). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
الحَديثُ فيه دَلالةٌ على أنَّه لا يَقبَلُ الإمامُ مِنَ الغالِّ ما جاءَ به بَعدَ وُقوعِ القِسمةِ ولو كان يَسيرًا [258] يُنظر: ((نيل الأوطار)) للشوكاني (7/ 353). .
ثانيًا: من الإجماعِ
نَقَلَ الإجماعَ على ذلك: ابنُ المُنذِرِ [259] قال ابنُ المُنذِرِ: (أجمَعَ كُلُّ مَن أحفَظُ عنه مِن أهلِ العِلمِ على أنَّ على الغالِّ رَدَّ ما غَلَّ إلى صاحِبِ المَقسَمِ، إذا وَجَدَ السَّبيلَ إليه، ولَم يَفتَرِقِ النَّاسُ). ((الأوسط)) (11/ 60).  وقال: (أجمَعوا على أنَّ الغالَّ يَرُدُّ ما غَلَّ إلى صاحِبِ المَقسَمِ). ((الإجماع)) (ص: 80). ، وابنُ عَبدِ البَرِّ [260] قال ابنُ عَبدِ البَرِّ: (أجمَعَ العُلَماءُ على أنَّ على الغالِّ أن يَرُدَّ ما غَلَّ إلى صاحِبِ المَقاسِمِ إن وَجَدَ السَّبيلَ إلى ذلك، وأنَّه إذا فعَلَ ذلك فهيَ تَوبةٌ لَه، وخُروجٌ عَن ذَنبِهـ). ((التمهيد)) (2/ 23، 24). ويُنظر: ((الاستذكار)) لابن عبد البر (5/ 93). ، والقاضي عِياضٌ [261] قال القاضي عياضٌ: (أجمَعَ العُلَماءُ على أنَّ الغالَّ يَرُدُّ ما أغَلَّ، وأخذَ في المَقاسِمِ، ما لم يَفتَرِقِ النَّاسُ). ((إكمال المعلم)) (6/ 234). ، وابنُ قُدامةَ [262] قال ابنُ قُدامةَ: (إذا تابَ الغالُّ قَبلَ القِسمةِ رَدَّ ما أخَذَه في المَقسَمِ بغَيرِ خِلافٍ). ((المغني)) (9/ 308).                    ، وأبو العَبَّاسِ القُرطُبيُّ [263] قال أبو العَبَّاسِ القُرطُبيُّ: (أجمَعَ العُلَماءُ على أنَّ على الغالِّ أن يَرُدَّ الغُلولَ إلى المَقاسِمِ قَبلَ أن يَتَفَرَّقَ النَّاسُ). ((المفهم)) (4/ 92). ، وأبو عَبدِ اللهِ القُرطبيُّ [264] قال أبو عَبدِ اللهِ القُرطُبيُّ: (أجمَعَ العُلَماءُ على أنَّ للغالِّ أن يَرُدَّ جَميعَ ما غَلَّ إلى صاحِبِ المَقاسِمِ قَبلَ أن يَفتَرِقَ النَّاسُ إن وَجَدَ السَّبيلَ إلى ذلك، وأنَّه إذا فعَلَ ذلك فهيَ تَوبةٌ له، وخُروجٌ عَن ذَنبِهـ). ((تفسير القرطبي)) (4/ 260).                 ، والنَّوَويُّ [265] قال النَّوويُّ: (أجمَعَ المُسلِمونَ على تَغليظِ تَحريمِ الغُلولِ وأنَّه مِنَ الكَبائِرِ، وأجمَعوا على أنَّ عليه رَدَّ ما غَلَّه، فإن تَفَرَّقَ الجَيشُ وتَعَذَّرَ إيصالُ حَقِّ كُلِّ واحِدٍ إليه، ففيه خِلافٌ للعُلَماءِ). ((شرح النووي على مسلم)) (12/ 217).                  .
ثالِثًا: أنَّ مِن شُروطِ قَبولِ التَّوبةِ رَدَّ الحُقوقِ إلى أهلِها [266] يُنظر: ((المفهم)) لأبي العباس القرطبي (7/ 71).                .
رابِعًا: لأنَّه حَقٌّ تَعَيَّنَ رَدُّه إلى أهلِه [267] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (9/ 308).                       .

انظر أيضا: