الموسوعة الفقهية

المَبحَثُ الثَّاني: حُكمُ اليَمينِ القَضائيَّةِ


تُشرَعُ اليَمينُ في جانِبِ المُدَّعى عليه إن أنكَرَ الدَّعوى ولَم يَأتِ المُدَّعي ببَيِّنةٍ على دَعواه في الجُملةِ ( [1497](وقد وقَعَ الخِلافُ بَينَ الفُقَهاءِ فيما تُقبَلُ فيه اليَمينُ. .
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهُما أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لَو يُعطى النَّاسُ بدَعواهم لادَّعى ناسٌ دِماءَ رِجالٍ وأموالَهم، ولَكِنَّ اليَمينَ على المُدَّعى عليهـ)) [1498] أخرجه البخاري (4552)، ومسلم (1711) واللفظ له. ، وفي رِوايةٍ ((لَو يُعطى النَّاسُ بدَعواهم لادَّعى رِجالٌ أموالَ قَومٍ ودِماءَهم، ولَكِنَّ البَيِّنةَ على المُدَّعي، واليَمينَ على مَن أنكَرَ)) [1499] أخرجها ابن أبي عاصم في ((الديات)) (ص: 40)، والبيهقي (21243) واللفظ له. حَسَّنها النووي في ((الأربعون النووية)) (33)، وحَسَّنَها بطُرُقِها وشَواهِدِها شُعَيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((زاد المعاد)) (5/330)، وقال محمد ابنُ عبد الهادي في ((حاشية الإلمام)) (648): إسنادُها حَسَنٌ صَحيحٌ، وذَكَرَ ثُبوتَها الشَّوكانيُّ في ((السيل الجرار)) (2/411). وذهب إلى تَصحيحِها ابنُ المُلَقِّنِ في ((البدر المنير)) (9/450)، والألباني في ((إرواء الغليل)) (2685)، وصَحَّح إسنادَها ابنُ حجر في ((بلوغ المرام)) (421)، والشوكاني في ((الدراري المضية)) (377)، وقال ابن رجب في ((جامع العلوم والحكم)) (2/226): أصلُها في الصَّحيحين. .
2- عَن عَلقَمةَ بنِ وائِلٍ، عَن أبيه، قال: ((جاءَ رَجُلٌ مِن حَضرَمَوتَ ورَجُلٌ مِن كِندةَ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال الحَضرَميُّ: يا رَسولَ اللهِ، إنَّ هذا قد غَلَبَني على أرضٍ لي كانَت لأبي، فقال الكِنديُّ: هيَ أرضي في يَدي أزرَعُها ليس له فيها حَقٌّ، فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم للحَضرَميِّ: ألَكَ بَيِّنةٌ؟ قال: لا، قال: فلَكَ يَمينُه...)) [1500] أخرجه مسلم (139). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
هذه الأحاديثُ صَريحةٌ في تَقريرِ أصلٍ مِن أُصولِ القَضاءِ، وهو أنَّ المُدَّعيَ يُطالَبُ بالبَيِّنةِ لإثباتِ دَعواه، فإن عَجَزَ تَوجَّهَتِ اليَمينُ على المُدَّعى عليه لإنهاءِ الخُصومةِ، وليس للمُدَّعي إلَّا يَمينُ المُدَّعى عليه [1501] يُنظر: ((المفهم)) للقرطبي (5/ 148)، ((إحكام الأحكام)) لابن دقيق (ص: 470)، ((نيل الأوطار)) للشوكاني (8/ 350). .
ثانيًا: من الإجماعِ
نَقَلَ الإجماعَ على ذلك: التِّرمِذيُّ [1502] قال التِّرمِذيُّ: (العَمَلُ على هذا عِندَ أهلِ العِلمِ مِن أصحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وغَيرِهم؛ أنَّ البَيِّنةَ على المُدَّعي، واليَمينَ على المُدَّعى عليهـ). ((سنن الترمذي)) (3/ 619). ، وابنُ المُنذِرِ [1503] قال ابنُ المُنذِرِ: (أجمَعوا على أنَّ البَيِّنةَ على المُدَّعي، واليَمينَ على المُدَّعى عليهـ). ((الإجماع)) (ص: 65، 66). ويُنظر: ((الإقناع)) لابن المنذر (2/ 516)، ((الأوسط)) لابن المنذر (7/ 11). ، وابنُ بَطَّالٍ [1504] قال ابنُ بَطَّالٍ: (الأُمَّةُ مُجمِعةٌ أنَّ البَيِّنةَ على المُدَّعي، واليَمينَ على المُدَّعى عليه في الأموالِ). ((شرح البخاري)) (8/ 5). ، وابنُ العَرَبيِّ [1505] قال ابنُ العَرَبيِّ: (قَواعِدُ الشَّريعةِ أنَّ البَيِّنةَ على مَنِ ادَّعى واليَمينَ على مَن أنكَرَ حُكمًا شَرَعَه اللهُ لحِكمةٍ هيَ مَصلَحةُ الخَلقِ ... ولَيسَ في هذه القاعِدةِ خِلافٌ، وإن كانَ الخِلافُ في تَفاصيلِ الوقائِعِ التي تَتَخَرَّجُ على هذه القاعِدةِ). ((عارضة الأحوذي)) (1/ 207). ، وابنُ رُشدٍ الحفيدُ [1506] قال ابنُ رُشدٍ: (وأن يَبدَأ بالمُدَّعي فيَسألَه البَيِّنةَ إن أنكَرَ المُدَّعى عليه، وإن لَم يَكُنْ له بَينةٌ، فإن كانَ في مالِه وجَبَتِ اليَمينُ على المُدَّعى عليه باتِّفاقٍ). ((بداية المجتهد)) (4/ 255). ، وابنُ قُدامةَ [1507] قال ابنُ قُدامةَ: ("البَيِّنةُ على المُدَّعي، واليَمينُ على المُدَّعى عليه" قال التِّرمِذيُّ: هذا حَديثٌ في إسنادِه مَقالٌ... إلَّا أنَّ أهلَ العِلمِ أجمَعوا على هذا). ((المغني)) (10/128). ، وابنُ المُلَقِّنِ [1508] قال ابنُ المُلَقِّنِ: (الإجماعُ قائِمٌ على ذلك؛ أنَّ البَيِّنةَ على المُدَّعي واليَمينَ على المُدَّعى عليه في الأموالِ، إلَّا ما خُصَّت به القَسامةُ). ((التوضيح لشرح الجامع الصحيح)) (16/ 463). ، والصَّنعانيُّ [1509] قال الصَّنعانيُّ: (البَيِّنةُ على المُدَّعي واليَمينُ على مَن أنكَرَ... وإلى هذا ذَهَبَ سَلَفُ الأُمَّةِ وخَلَفُها، قال العُلَماءُ: والحِكمةُ في كَونِ البَيِّنةِ على المُدَّعي أنَّ جانِبَ المُدَّعي ضَعيفٌ؛ لأنَّه يَدَّعي خِلافَ الظَّاهِرِ، فكُلِّفَ الحُجَّةَ القَويَّةَ، فيَقوى بها ضَعفُ المُدَّعي). ((سبل السلام)) (4/ 132). .
ثالثًا: الأصلُ أنَّ المُدَّعى عليه ذِمَّتُه بَريئةٌ فهو مُتَمَسِّكٌ بالأصلِ؛ ولهذا يُكتَفى بدَفعِ دَعوى المُدَّعي باليَمينِ لقوَّةِ جانِبِه [1510] يُنظر: ((المفهم)) للقرطبي (5/ 148)، ((نيل الأوطار)) للشوكاني (8/ 351)، ((توضيح الأحكام)) لابن بسام (1/ 68). .

انظر أيضا: