الموسوعة الفقهية

المَسألةُ الأولى: أثَرُ الرُّجوعِ عَنِ الشَّهادةِ بَعدَ الاستيفاءِ إذا كانَ الكَذِبُ عَن عَمدٍ


اختَلَفَ الفُقَهاءُ إذا كانَ الرُّجوعُ عَنِ الشَّهادةِ بَعدَ الاستيفاءِ إذا كانَ الكَذِبُ عَن عَمدٍ، على قَولَينِ:
القَولُ الأوَّلُ: يُقتَصُّ مِنَ الشُّهودِ إذا كانَ الرُّجوعُ عَنِ الشَّهادةِ بَعدَ الاستيفاءِ عَن عَمدٍ، وهو مَذهَبُ الشَّافِعيَّةِ [1260] ((روضة الطالبين)) للنووي (11/ 297)، ((تحفة المحتاج)) لابن حجر الهيتمي (8/ 382). ، والحَنابِلةِ [1261] ((التنقيح المشبع)) للمرداوي (ص: 419)، ((الإقناع)) للحجاوي (4/ 450). ، وقَولٌ للمالِكيَّةِ [1262] ((حاشية الدسوقي على الشرح الكبير)) (4/ 207)، ((منح الجليل)) لعليش (8/ 504). ، وقال به بعضُ السَّلَفِ [1263] قال ابنُ المُنذِرِ: (قال أبو بَكرٍ: ومِمَّن قال إنَّه إذا قال: عَمَدتُ، فعليه القَوَدُ، وإذا قال: أخطَأتُ فالدِّيةُ: ابنُ شُبرُمةَ، وابنُ أبي لَيلى، والشَّافِعيُّ، وأبو عُبَيدٍ). ((الأوسط)) (7/367)، وقال ابنُ قُدامةَ: (وبهذا قال ابنُ شُبرُمةَ، وابنُ أبي لَيلى، والأوزاعيُّ، والشَّافِعيُّ، وأبو عُبَيدٍ). ((المغني)) (10/ 220). ، وحُكِيَ إجماعُ الصَّحابةِ على ذلك [1264] قال الماوَرديُّ: (لَو عَلِمتُ أنَّكُما تَعَمَّدتُما لَقَطَعتُكُما" فجَعَلَ الجَهلَ لَهما بالشَّهادةِ موجِبًا لإضافةِ الحُكمِ إلَيهما، وأخذِهما بموجِبِها. ووافَقَه على ذلك مَن عاصَرَه، فصارَ مَعَ ما تَقدَّمَ عَن أبي بَكرٍ وعُمَرَ إجماعًا). ((الحاوي الكبير)) (12/ 73). وقال ابنُ قُدامةَ: (إنَّ عَليًّا رَضيَ اللهُ عنه شَهِدَ عِندَه رَجُلانِ على رَجُلٍ بالسَّرِقةِ فقَطَعَه، ثُمَّ عادا فقالا: أخطَأنا، ليس هذا هو السَّارِقَ، فقال عَليٌّ: لَو عَلِمتُ أنَّكُما تَعَمَّدتُما لَقَطَعتُكُما، ولا مُخالِفَ لَه في الصَّحابةِ؛ فيَكونُ إجماعًا). ((المغني)) (10/ 220).         
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: مِنَ الآثارِ
عَن عامِرٍ الشَّعبيِّ (أنَّ رَجُلَينِ أتَيا عَليًّا رَضيَ اللهُ عنه، فشَهِدا على رَجُلٍ أنَّه سَرَقَ، فقَطَعَ عَليٌّ رَضيَ اللهُ عنه يَدَه، ثُمَّ أتَياه بآخَرَ، فقالا: هذا الذي سَرَقَ وأخطَأنا على الأوَّلِ، فلَم يُجِز شَهادَتَهما على الآخَرِ، وغَرَّمَهما ديةَ يَدِ الأوَّلِ، وقال: لَو أعلَمُكُما تَعَمَّدتُما لَقَطَعتُكُما) [1265] أخرجه الشافعي في ((الأم)) (7 / 191)، والبيهقي (16071)، واللفظ لهما، والدارقطني (3394)، وعبد الرزاق (18461) باختلافٍ يسيرٍ. وعلَّقه البخاري في ((صحيحهـ)) بصيغة الجزم قبل حديث (6897). في سَماعِ الشَّعبيِّ مِن عَليٍّ كَلامٌ، إلَّا أنَّه ثَبَتَ لقاؤُه لَه، والسَّماعُ مِنه في الجُملةِ. وهو مِمَّن لَه عِنايةٌ بفِقهِ عَليٍّ وأصحابِه، قال ابنُ القَيِّمِ في ((أحكام أهل الذمة)) (2/ 476): (وهو من أعلَمِ النَّاسِ بحديثِ عَليٍّ، وأعلَمِهم بثقاتِ أصحابِهـ). ويُنظر: ((الصارم المسلول)) لابن تيمية (2 / 126). وللأثَرِ طُرُقٌ أُخرى، وإن كانَ فيها مَقالٌ، لَكِن مَجموعُها يَدُلُّ على شُهرةِ الواقِعةِ عَن عَليٍّ، وتَلَقِّي العُلَماءِ لَها بالقَبولِ عنه. وصحَّحه البيهقي في ((الخلافيات)) (5586)، وصَحَّح إسنادَه ابنُ الملقن في ((البدر المنير)) (8 / 396)، وابن حجر في ((تلخيص الحبير)) (4 / 1319). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
قَولُه: (لَو أعلَمُ أنَّكُما تَعَمَّدتُما لَقَطَعتُكُما) دَليلٌ على أنَّ العَمدَ يوجِبُ القِصاصَ [1266] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (10/ 220). .
ثانيًا: أنَّهم تَسَبَّبوا إلى قَتلِه أو قَطعِه، بما يُفضي إليه غالِبًا؛ فلَزِمَهمُ القِصاصُ [1267] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (12/ 73)، ((المغني)) لابن قدامة (10/ 220). .
القَولُ الثَّاني: لا قِصاصَ على الشُّهودِ إذا كانَ الرُّجوعُ عَنِ الشَّهادةِ بَعدَ الاستيفاءِ، وعليهمُ الدِّيةُ، وهو مَذهَبُ الحَنَفيَّةِ [1268] ((المبسوط)) للسرخسي (17/ 22)، ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (4/ 250). ، والمالِكيَّةِ [1269] ((حاشية الدسوقي على الشرح الكبير)) (4/ 207)، ((منح الجليل)) لعليش (8/ 504). .
وذلك للآتي:
أوَّلًا: أنَّ القِصاصَ يَعتَمِدُ المُساواةَ، ولا مُساواةَ بَينَ المُباشَرةِ والسَّبَبِ [1270] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (17/ 22). .
ثانيًا: أنَّه لَوِ اقتُصَّ مِمَّن قُطِعَت يَدُه في سَرِقةٍ لَقُطِعَت يَدانِ، واليَدانِ لا يُقطَعانِ بيَدٍ واحِدةٍ، فإذا امتَنَعَ وُجوبُ القَوَدِ عليهما ضَمِنا ديةَ اليَدِ [1271] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (17/ 22). .

انظر أيضا: