الموسوعة الفقهية

المَسألةُ الثَّانيةُ: القَضاءُ في المَسجِدِ


اختَلَفَ الفُقَهاءُ في حُكمِ القَضاءِ في المَسجِدِ، على قَولَينِ:
القَولُ الأوَّلُ: يَجوزُ القَضاءُ في المَسجِدِ بلا كَراهةٍ، وهو مَذهَبُ الجُمهورِ: الحَنَفيَّةِ [579] ((كنز الدقائق)) للنسفي (ص: 460)، ((حاشية ابن عابدين)) (5/372). ، والمالِكيَّةِ [580] نَصَّ المالِكيَّةُ على استِحبابِ القَضاءِ في المَسجِدِ، ولَهم في ذلك طَريقَتانِ: الأولى: استِحبابُ الجُلوسِ في رِحابِ المَسجِدِ، وكَراهَتُه في داخِلِه، وهيَ المُعتَمَدُ في المَذهَبِ، الثَّانيةُ: استِحبابُ الجُلوسِ في نَفسِ المَسجِدِ، وهيَ ظاهِرُ المُدَوَّنةِ. ((الكافي)) لابن عبد البر (2/955)، ((الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي)) (4/137). ، والحَنابِلةِ [581] ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (8/163)، ((الإقناع)) للحجاوي (4/379). ، ووَجهٌ عِندَ الشَّافِعيَّةِ [582] ((العزيز شرح الوجيز)) للرافعي (12/460). ، وحُكِيَ إجماعُ الصَّحابةِ على ذلك [583] قال ابنُ قُدامةَ: (ولا يُكرَهُ القَضاءُ في المَساجِدِ، فعَلَ ذلك شُرَيحٌ، والحَسَنُ، والشَّعبيُّ، ومُحارِبُ بنُ دِثارٍ، ويَحيى بنُ يَعمرَ، وابنُ أبي لَيلى، وابنُ خلدةَ -قاضٍ لعُمَرَ بنِ عَبدِ العَزيزِ رَضيَ اللهُ عنهُ- ورويَ عَن عُمَرَ وعُثمانَ وعَليٍّ أنَّهم كانوا يَقضونَ في المَسجِدِ. وقال مالِكٌ: القَضاءُ في المَسجِدِ مِن أمرِ النَّاسِ القديمِ. وبه قال مالِكٌ، وإسحاقُ، وابنُ المُنذِرِ...، ولَنا: إجماعُ الصَّحابةِ بما قد رُوِّيناه عنهم). ((المغني)) (10/41). .
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- عَن سَهلِ بنِ سَعدٍ رَضيَ اللهُ عنه: ((أنَّ رَجُلًا قال: يا رَسولَ اللهِ، أرَأيتَ رَجُلًا وجَدَ مَعَ امرَأتِه رَجُلًا، أيَقتُلُه؟ فتَلاعَنا في المَسجِدِ وأنا شاهِدٌ)) [584] أخرجه البخاري (423) واللفظ له، ومسلم (1492). .
2- عَن كَعبِ بنِ مالِكٍ رَضيَ اللهُ عنه: ((أنَّه تَقاضى ابنَ أبي حَدْرَدٍ دَينًا كانَ له عليه في المَسجِدِ، فارتَفَعَت أصواتُهما حَتَّى سَمِعَها رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو في بَيتِه، فخَرَجَ إليهما حَتَّى كَشَفَ سِجْفَ حُجرَتِه، فنادى: يا كَعبُ. قال: لَبَّيكَ يا رَسولَ اللهِ، قال: ضَعْ مِن دَينِكَ هذا. وأومَأ إليه: أيِ الشَّطرَ، قال: لَقد فعَلتُ يا رَسولَ اللهِ، قال: قُمْ فاقضِهـ)) [585] أخرجه البخاري (457) واللفظ له، ومسلم (1558). .
3- عَن أبي هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه، قال: ((أتى رَجُلٌ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو في المَسجِدِ، فناداه فقال: يا رَسولَ اللهِ، إنِّي زَنَيتُ، فأعرَضَ عنه حَتَّى رَدَّدَ عليه أربَعَ مَرَّاتٍ، فلَمَّا شَهِدَ على نَفسِه أربَعَ شَهاداتٍ، دَعاه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: أبِكَ جُنونٌ؟ قال: لا، قال: فهَل أحصَنتَ؟ قال: نَعَم، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: اذهَبوا به فارجُموهـ)) [586] أخرجه البخاري (6815) واللفظ له، ومسلم (1691). .
ثانيًا: مِنَ الآثارِ
عَن طارِقِ بنِ شِهابٍ، قال: (أُتيَ عُمَرُ برَجُلٍ في شَيءٍ، فقال: أخرِجاه مِنَ المَسجِدِ فاضرِباهـ) [587] أخرجه البُخاريُّ مُعَلَّقًا بصيغةِ الجَزمِ قَبلَ حَديثِ (7167)، وأخرجه موصولًا عبد الرزاق (1706) واللفظ له، وابن شبة في ((تاريخ المدينة)) (1/36). صحَّحه ابنُ حزم في ((المحلى)) (11/123)، وصحَّح إسنادَه على شرط الشيخين ابنُ حجر في ((فتح الباري)) (13/167)، والصنعاني في ((سبل السلام)) (4/49). .
وجهُ الدَّلالةِ مِنَ الأحاديثِ والآثارِ:
دَلَّت هذه الأحاديثُ والآثارُ على جَوازِ القَضاءِ في المَسجِدِ؛ لأنَّ النَّبيَّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ كانَ يَقضي في المَسجِدِ، وكَذلك الصَّحابةُ مِن بَعدِه [588] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (10/41)، ((البحر الرائق)) لابن نجيم (6/302). .
ثالثًا: أنَّه لا يوجَدُ مانِعٌ مِنَ القَضاءِ في المَسجِدِ؛ لأنَّ القَضاءَ قُربةٌ وطاعةٌ وإنصافٌ بَينَ النَّاسِ [589] يُنظر: ((شرح المنتهى)) لابن النجار (11/215). .
القَولُ الثَّاني: يُكرَهُ القَضاءُ في المَسجِدِ، وهو مَذهَبُ الشَّافِعيَّةِ [590] ((العزيز شرح الوجيز)) للرافعي (12/460)، ((روضة الطالبين)) للنووي (11/138). ، واختيارُ الألبانيِّ [591] قال الألبانيُّ: (قَولُ الشَّافِعيِّ هو الأقرَبُ إلى النَّظَرِ؛ لأنَّه لا يَدفَعُ ما ذَكَرنا مِنَ السُّنَّةِ، كما أنَّه لا يَلزَمُ مِنهُ أيُّ مَحذورٍ في المَسجِدِ، بخِلافِ ما لَو أُعِدَّ للقَضاءِ؛ فإنَّه حينَئِذٍ مِنَ الصَّعبِ تَنزيهُه مِنَ الغَوغاءِ والضَّوضاءِ). ((الثمر المستطاب)) (2/811). ؛ وذلك لأنَّ المَسجِدَ مُنَزَّهٌ عَن رَفعِ الأصواتِ، وحُضورِ الحُيَّضِ والكُفَّارِ وغَيرِهم مِمَّن يَحضُرونَ مَجلِسَ القَضاءِ [592] يُنظر: ((روضة الطالبين)) للنووي (11/138). .

انظر أيضا: