الموسوعة الفقهية

المَطلَبُ الثَّاني: التَّعزيرُ بأخذِ المالِ (المُصادَرةِ)


اختَلَف الفُقَهاءُ في التَّعزيرِ بأخذِ المالِ (المُصادَرةِ)، على قَولَينِ:
القَولُ الأوَّلُ: لا يَجوزُ التَّعزيرُ بأخذِ المالِ (المُصادَرةِ)، وذلك باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ: الحَنَفيَّةِ [2248] ((البحر الرائق)) لابن نجيم (5/ 44)، ((الفتاوى الهندية)) (2/ 167). ، والمالِكيَّةِ [2249] ((حاشية الدسوقي على الشرح الكبير)) (3/ 46)، ((منح الجليل)) لعليش (4/ 533). ويُنظر: ((حاشية البناني على شرح الزرقاني على مختصر خليل)) (8/201). ، والشَّافِعيَّةِ [2250] ((حاشية الشرواني على تحفة المحتاج)) (9/179)، ((حاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج)) (8/ 22)، ((حاشيتا قليوبي وعميرة)) (4/ 206). ، والحَنابِلةِ [2251] ((الفروع)) لابن مفلح (10/ 112)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (6/ 124). ، وحُكيَ الإجماعُ على نَسخِ العُقوبةِ بالمالِ [2252] قال الشَّوكانيُّ: (قد نَقَلَ الطَّحاويُّ والغَزاليُّ الإجماعَ على نَسخِ العُقوبةِ بالمالِ). ((نيل الأوطار)) (4/ 147). .
ثانيًا: أنَّ العُقوبةَ بأخذِ المالِ كانت في ابتِداءِ الإسلامِ ثُمَّ نُسِخَت [2253] يُنظر: ((البحر الرائق)) لابن نجيم (5/ 44)، ((حاشية ابن عابدين)) (4/ 61). وقد نَقَلَ الشَّوكانيُّ عنِ الشَّافِعيِّ أنَّ النَّاسِخَ هو حَديثُ ناقةِ البَراءِ؛ حَيثُ لم يُضاعِفِ النَّبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ الغُرمَ عليه يُنظر: ((نيل الأوطار)) للشوكاني (4/147). .
ثالِثًا: بناءً على الأصلِ الشَّرعيِّ أنَّه لا يَجوزُ لأحَدٍ مِنَ المُسلِمينَ أخذُ مالِ أحَدٍ بغَيرِ سَبَبٍ شَرعيٍّ [2254] يُنظر: ((البحر الرائق)) لابن نجيم (5/ 44).  .
رابِعًا: أنَّ الشَّرعَ لم يَرِدْ بشَيءٍ مِن ذلك عن أحَدٍ يُقتَدى به [2255] يُنظر: ((كشاف القناع)) للبهوتي (6/ 124).  .
القَولُ الثَّاني: يَجوزُ التَّعزيرُ بأخذِ المالِ (المُصادَرةِ)، وهو قَولُ الشَّافِعيِّ في القديمِ [2256] ((حاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج)) (8/ 22). ((حاشيتا قليوبي وعميرة)) (4/ 206). ، وقَولٌ للحَنابِلةِ [2257] ((الفتاوى الكبرى)) لابن تيمية (5/430)، ((الطرق الحكمية)) لابن القيم (ص: 224 -226). ، وقَولُ أبي يوسُفَ مِنَ الحَنَفيَّةِ [2258] فَسَّر الحَنَفيَّةُ التَّعزيرَ بأخذِ المالِ بأنَّه إمساكُ شَيءٍ مِن مالِ المُعَزَّرِ مُدَّةً ليَنزَجِرَ، ثُمَّ يُعيدُه الحاكِمُ إليه. ((البحر الرائق)) لابنِ نَجيم (5/ 44)، ((الفتاوى الهندية)) (2/ 167). ، ورَجَّحَه ابنُ تَيميَّةَ [2259] قال ابنُ تَيميَّةَ: (فَصلٌ: و"التَّعزيرُ بالعُقوباتِ الماليَّةِ" مَشروعٌ أيضًا في مَواضِعَ مَخصوصةٍ في مَذهَبِ مالِكٍ في المَشهورِ عنه، ومَذهَبِ أحمَدَ في مَواضِعَ بلا نِزاعِ عنه، وفي مَواضِعَ فيها نِزاعٌ عنه، والشَّافِعيِّ في قَولٍ، وإن تَنازَعوا في تَفصيلِ ذلك، كَما دَلَّت عليه سُنَّةُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم... ومَن قال: إنَّ العُقوباتِ الماليَّةَ مَنسوخةٌ وأطلَقَ ذلك عن أصحابِ مالِكٍ وأحمَدَ، فقد غَلِطَ على مَذهَبِهما. ومَن قاله مُطلَقًا مِن أيِّ مَذهَبٍ كان فقد قال قَولًا بلا دَليلٍ، ولم يَجِئْ عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شَيءٌ قَطُّ يَقتَضي أنَّه حَرَّمَ جَميعَ العُقوباتِ الماليَّةِ، بَل أخذُ الخُلَفاءِ الرَّاشِدينَ وأكابِرِ أصحابِه بذلك بَعدَ مَوتِه دَليلٌ على أنَّ ذلك مُحكَمٌ غَيرُ مَنسوخٍ). ((مجموع الفتاوى)) (28/110 112).  وقال أيضًا: (والتَّعزيرُ بالمالِ سائِغٌ إتلافًا وأخذًا، وهو جارٍ على أصلِ أحمَدَ؛ لأنَّه لم يَختَلِفْ أصحابُه أنَّ العُقوباتِ في الأموالِ غَيرُ مَنسوخةٍ كُلُّها، وقَولُ الشَّيخِ أبي مُحَمَّدٍ المَقدِسيِّ: ولا يَجوزُ أخذُ مالِ المُعَزَّرِ، فإشارةٌ مِنه إلى ما يَفعَلُه الوُلاةُ الظَّلَمةُ). ((الفتاوى الكبرى)) (5/430). ، وابنُ القَيِّمِ [2260] قال ابنُ القَيِّمِ: (وأمَّا التَّعزيرُ بالعُقوباتِ الماليَّةِ فمَشروعٌ أيضًا في مَواضِعَ مَخصوصةٍ في مَذهَبِ مالِكٍ وأحمدَ، وأحَد قَولَيِ الشَّافِعيِّ، وقد جاءَتِ السُّنَّةُ عن رَسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- وعن أصحابِه بذلك في مَواضِعَ... وهذه قَضايا صَحيحةٌ مَعروفةٌ، وليس يَسهُلُ دَعوى نَسخِها. ومَن قال: إنَّ العُقوباتِ الماليَّةَ مَنسوخةٌ وأطلَقَ ذلك، فقد غَلِطَ على مَذاهبِ الأئِمَّةِ نَقلًا واستِدلالًا، فأكثَرُ هذه المَسائِلِ سائِغٌ في مَذهَبِ أحمَدَ وغَيرِه، وكَثيرٌ مِنها سائِغٌ عِندَ مالِكٍ، وفِعلُ الخُلَفاءِ الرَّاشِدينَ وأكابِرِ الصَّحابةِ لَها بَعدَ مَوتِه -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- مُبطِلٌ أيضًا لدَعوى نَسخِها، والمُدَّعونَ للنَّسخِ ليس مَعَهم كِتابٌ ولا سُنَّةٌ، ولا إجماعٌ يُصَحِّحُ دَعواهم). ((الطرق الحكمية)) (ص: 224 -226). ، وابنُ عُثَيمين [2261] قال ابنُ عُثَيمين: (الفائِدةُ السَّادِسةَ عَشرةَ: جَوازُ التَّعزيرِ بالمالِ؛ لأنَّ هذا القاتِلَ أُلزِمَ بهذه الفِديةِ ليَذوقَ وبالَ أمرِه، فهو نَوعٌ مِنَ التَّعزيرِ، وهذه المَسألةُ اختَلَف العُلَماءُ رَحِمَهمُ اللهُ فيها؛ فمِنهم مَن قال: إنَّه لا تَعزيرَ بالمالِ إلَّا ما جاءَت به الشَّريعةُ فقَط، ولا يُتَجاوَزُ، فالغالُّ مِنَ الغَنيمةِ مَثَلًا يُحرَقُ رَحلُه كُلُّه إلَّا السِّلاحَ، وكاتِمُ الضَّالَّةِ تُضاعَفُ عليه العُقوبةُ، فما ورَدَ به النَّصُّ أخَذنا به، وما لم يَرِدْ به النَّصُّ فإنَّنا لا نُعَزِّرُ بالمالِ؛ لأنَّ المالَ إذا عَزَّرنا به فقد أخَذنا أموالَ النَّاسِ بغَيرِ حَقٍّ، وأموالُ النَّاسِ مُحتَرَمةٌ، ولَكِنَّ الصَّوابَ المَقطوعَ به بلا شَكٍّ أنَّه يَجوزُ التَّعزيرُ بالمالِ). ((تفسير القرآن الكريم سورة المائدة)) (2/ 406). .
الأدِلَّة:ِ
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- عن سَعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عنه: ((أنَّه رَكِبَ إلى قَصرِه بالعَقيقِ، فوجَدَ عَبدًا يَقطَعُ شَجَرًا أو يَخبِطُه، فسَلَبَه، فلَمَّا رَجَعَ سَعدٌ جاءَه أهلُ العَبدِ فكَلَّموه أن يَرُدَّ على غُلامِهم أو عليهم ما أخذَ مِن غُلامِهم، فقال: مَعاذَ اللَّهِ أن أرُدَّ شَيئًا نَفَّلَنيه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأبى أن يَرُدَّ عليهم )) [2262] أخرجه مسلم (1364). .     
وَجهُ الدَّلالةِ:
 إباحَتُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سَلبَ الذي يَصطادُ في حَرَمِ المَدينةِ لمَن وجَدَه دَليلٌ على مَشروعيَّةِ التَّعزيرِ بالمالِ [2263] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (28/110)، ((الطرق الحكمية)) لابن القيم (ص: 225). .
2- عن عَمرِو بنِ شُعَيبٍ عن أبيه عن جَدِّه رَضِيَ اللهُ عنه، عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أنَّه سُئِلَ عنِ الثَّمَرِ المُعَلَّقِ؟ فقال: ما أصابَ مِن ذي حاجةٍ غَيرَ مُتَّخِذٍ خُبنةً [2264] الخُبنةُ: ما تَحمِلُه في حضنِك. يُنظر: ((القاموس المحيط)) للفيروزآبادي (ص: 1193)، ((تاج العروس)) للزبيدي (34/ 477). فلا شَيءَ عليه، ومَن خَرَجَ بشَيءٍ مِنه فعليه غَرامةُ مِثلَيه والعُقوبةُ، ومَن سَرَقَ شَيئًا مِنه بَعدَ أن يُؤويَه الجَرينُ [2265] الجَرينُ: هو المَكانُ الذي يُداسُ فيه الطَّعامُ، والمَوضِعُ الذي تجَفَّفُ فيه الثِّمارُ، والجَمعُ جُرُنٌ. يُنظر: ((لسان العرب)) لابن منظور (13/ 87)، ((المصباح المنير)) للفيومي (1/ 97). فبَلَغَ ثَمَنَ المِجَنِّ فعليه القَطعُ، ومَن سَرَقَ دونَ ذلك فعليه غَرامةُ مِثلَيه والعُقوبةُ )) [2266] أخرجه أبو داود (1710)، والترمذي (1289)، والنسائي (4958) واللفظ له. حَسَّنه الترمذي، وابن القيم في ((تهذيب السنن)) (7/282)، وابن الملقن في ((البدر المنير)) (8/654)، والألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (4958). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
في الحَديثِ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عاقَبَ السَّارِقَ بدَفعِ ضَعفَي ما سَرَقَ، وهذا مِن بابِ العُقوباتِ الماليَّةِ [2267] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (28/110)، ((الطرق الحكمية)) لابن القيم (ص: 225). .
ثالِثًا: ليس هناكَ دَليلٌ على دَعوى النَّسخِ؛ لأنَّه لم يَرِدْ عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شَيءٌ يَقتَضي تَحريمَ جَميعِ العُقوباتِ الماليَّةِ [2268] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (28/ 111)، ((نيل الأوطار)) للشوكاني (4/ 147). .

انظر أيضا: