الموسوعة الفقهية

المَطلَبُ الأوَّلُ: التَّعزيرُ بإتلافِ المالِ


اختَلَف الفُقَهاءُ في التَّعزيرِ بإتلافِ المالِ [2224] كإتلافِ آلاتِ المَلاهي وأوعيةِ الخُمورِ. ، على قَولَينِ:
القَولُ الأوَّلُ: لا يَجوزُ التَّعزيرُ بإتلافِ المالِ، وهو مَذهَبُ الشَّافِعيَّةِ [2225] ((حاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج)) (8/ 22)، ((حاشيتا قليوبي وعميرة)) (4/ 206).. ، والحَنابِلةِ [2226] ((الفروع)) لابن مفلح (10/ 112). ((كشاف القناع)) للبهوتي (6/ 124). ، وقَولٌ للمالِكيَّةِ [2227] ((حاشية الدسوقي على الشرح الكبير)) (3/ 46). ((منح الجليل)) لعليش (4/ 533). .
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
عن أبي هرَيرةَ قال: ((خَرَجنا مَعَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَومَ خَيبَرَ، فلم نَغنَمْ ذَهَبًا ولا فِضَّةً، إلَّا الأموالَ والثِّيابَ والمَتاعَ، فأهدى رَجُلٌ مِن بَني الضُّبَيبِ، يُقالُ له رِفاعةُ بنُ زَيدٍ، لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم غُلامًا يُقالُ له مِدعَمٌ، فوجَّهَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى وادي القُرى، حتَّى إذا كان بوادي القُرى بَينَما مِدعَمٌ يَحُطُّ رَحلًا لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، إذا سَهمٌ عائِرٌ فقَتَله، فقال النَّاسُ: هَنيئًا له الجَنَّةُ! فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: كَلَّا، والذي نَفسي بيَدِه إنَّ الشَّملةَ التي أخَذَها يَومَ خَيبَرَ مِنَ المَغانِمِ، لم تُصِبها المَقاسِمُ، لتَشتَعِلُ عليه نارًا! فلمَّا سَمِعَ ذلك النَّاسُ جاءَ رَجُلٌ بشِراكٍ -أو شِراكَينِ- إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: شِراكٌ مِن نارٍ -أو: شِراكانِ مِن نارٍ )) [2228] أخرجه البخاري (6707) واللفظ له، ومسلم (115). .                          
وَجهُ الدَّلالةِ:
الحَديثُ دَليلٌ على أنَّ الغالَّ لا يَجِبُ عليه حَرقُ مَتاعِه؛ لأنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يُحرِقْ رَحلَ الذي أخَذَ الشَّملةَ ولا مَتاعَه، ولا أحرَقَ مَتاعَ صاحِبِ الخَرَزاتِ، ولَو كان حَرقُ مَتاعِه واجِبًا لفَعلَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حينَئِذٍ، ولَو فعَلَه لنُقِل ذلك في الحَديثِ [2229] يُنظر: ((التمهيد)) لابن عبد البر (2/3).  .
ثانيًا: أنَّ العُقوبةَ بإتلافِ المالِ كانت في ابتِداءِ الإسلامِ، ثُمَّ نُسِخَت [2230] يُنظر: ((البحر الرائق)) لابن نجيم (5/ 44)، ((حاشية ابن عابدين)) (4/ 61). .
ثالِثًا: لا يَجوزُ لأحَدٍ مِنَ المُسلِمينَ أخذُ مالِ أحَدٍ بغَيرِ سَبَبٍ شَرعيٍّ، ويَتَوجَّهُ عَدَمُ إتلافِه [2231] يُنظر: ((البحر الرائق)) لابن نجيم (5/ 44). ((كشاف القناع)) للبهوتي (6/ 124).  .
رابِعًا: لأنَّ الشَّرعَ لم يَرِدْ بشَيءٍ مِن ذلك عن أحَدٍ يُقتَدى به [2232] يُنظر: ((كشاف القناع)) للبهوتي (6/ 124).  .
خامِسًا: لأنَّ الواجِبَ التَّأديبُ، والأدَبُ لا يَكونُ بالإتلافِ [2233] يُنظر: ((كشاف القناع)) للبهوتي (6/ 124).  .
القَولُ الثَّاني: يَجوزُ التَّعزيرُ بإتلافِ المالِ، وهو مَذهَبُ الحَنَفيَّةِ [2234] والفتوى على قَولِ أبي يوسُفَ ومُحَمَّدِ بنِ الحَسَنِ في عَدَمِ ضَمانِ إتلافِ آلاتِ اللَّهوِ تَعزيرًا. أمَّا إذا كان الإتلافُ بإذنِ الإمامِ فلا يُضمَنُ باتِّفاقِ المَذاهِبِ، ويُفهَمُ مِن عَدَمِ ضَمانِها جَوازُ إتلافِها. ((البناية شرح الهداية)) للعَينيِّ (11/269،270)، ((حاشية ابن عابدين)) (4/65). ، وقَولٌ للمالِكيَّةِ في بَعضِ الصُّورِ [2235] كإراقةِ اللَّبَنِ المَغشوشِ، وإحراقِ المَلاحِفِ والثِّيابِ الرَّديئةِ المَغشوشةِ. ((حاشية الدسوقي على الشرح الكبير)) (3/ 46). ((منح الجليل)) لعليش (4/ 533). ، وقَولٌ للحَنابِلةِ [2236] ((الفروع)) لابن مفلح (10/ 293)، ((الإنصاف)) للمرداوي (4/ 185). ويُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (28/110 - 112)، ((الطرق الحكمية)) لابن القيم (ص: 224 -226). ، ورَجَّحَه ابنُ تَيميَّةَ [2237] قال ابنُ تَيميَّةَ: (فَصلٌ: و"التَّعزيرُ بالعُقوباتِ الماليَّةِ" مَشروعٌ أيضًا في مَواضِعَ مَخصوصةٍ في مَذهَبِ مالِكٍ في المَشهورِ عنه، ومَذهَبِ أحمَدَ في مَواضِعَ بلا نِزاعِ عنه، وفي مَواضِعَ فيها نِزاعٌ عنه، والشَّافِعيِّ في قَولٍ، وإن تَنازَعوا في تَفصيلِ ذلك، كَما دَلَّت عليه سُنَّةُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم... ومَن قال: إنَّ العُقوباتِ الماليَّةَ مَنسوخةٌ وأطلَقَ ذلك عن أصحابِ مالِكٍ وأحمَدَ، فقد غَلِطَ على مَذهَبِهما. ومَن قاله مُطلَقًا مِن أيِّ مَذهَبٍ كان فقد قال قَولًا بلا دَليلٍ، ولم يَجِئْ عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شَيءٌ قَطُّ يَقتَضي أنَّه حَرَّمَ جَميعَ العُقوباتِ الماليَّةِ، بَل أخذُ الخُلَفاءِ الرَّاشِدينَ وأكابِرِ أصحابِه بذلك بَعدَ مَوتِه دَليلٌ على أنَّ ذلك مُحكَمٌ غَيرُ مَنسوخٍ). ((مجموع الفتاوى)) (28/110 - 112). ، وابنُ القَيِّمِ [2238] قال ابنُ القَيِّمِ: (وأمَّا التَّعزيرُ بالعُقوباتِ الماليَّةِ فمَشروعٌ أيضًا في مَواضِعَ مَخصوصةٍ في مَذهَبِ مالِكٍ وأحمدَ، وأحَد قَولَيِ الشَّافِعيِّ، وقد جاءَتِ السُّنَّةُ عن رَسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- وعن أصحابِه بذلك في مَواضِعَ... وهذه قَضايا صَحيحةٌ مَعروفةٌ، وليس يَسهُلُ دَعوى نَسخِها. ومَن قال: إنَّ العُقوباتِ الماليَّةَ مَنسوخةٌ وأطلَقَ ذلك، فقد غَلِطَ على مَذاهبِ الأئِمَّةِ نَقلًا واستِدلالًا، فأكثَرُ هذه المَسائِلِ سائِغٌ في مَذهَبِ أحمَدَ وغَيرِه، وكَثيرٌ مِنها سائِغٌ عِندَ مالِكٍ، وفِعلُ الخُلَفاءِ الرَّاشِدينَ وأكابِرِ الصَّحابةِ لَها بَعدَ مَوتِه -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- مُبطِلٌ أيضًا لدَعوى نَسخِها، والمُدَّعونَ للنَّسخِ ليس مَعَهم كِتابٌ ولا سُنَّةٌ، ولا إجماعٌ يُصَحِّحُ دَعواهم). ((الطرق الحكمية)) (ص: 224 -226). .
الأدِلَّة:ِ
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- عن عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((رَأى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم علَيَّ ثَوبَينِ مُعَصفَرَينِ [2239] المُعَصفَرُ، أي: المَصبوغُ بالعُصفُرِ، وهو نَوعٌ مِنَ النَّباتِ يُستَخرَجُ به صبغٌ أصفَرُ أو أحمَرُ، تُصبَغُ به الثِّيابُ؛ ليُعطيَ مَنظَرًا ورائِحةً طَيِّبةً، كالزَّعفرانِ. يُنظر: ((المصباح المنير)) للفيومي (214)، ((المعجم الوسيط)) لمجمع اللغة العربية بالقاهرة (2/ 605). ، فقال: أأمُّك أمَرَتك بهذا؟ قُلتُ: أغسِلُهما، قال: بَل أَحرِقْهما )) [2240] أخرجه مسلم (2077). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
في قَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((بَل أحرِقْهما)) دَليلٌ على جَوازِ العُقوبةِ بإتلافِ المالِ [2241] يُنظر: ((سبل السلام)) للصنعاني (1/461). .
2- عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أنَّه حَرَقَ نَخلَ بَني النَّضيرِ )) [2242] أخرجه البخاري (2326) واللفظ له، ومسلم (1746). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
 في الحَديثِ دَلالةٌ على أنَّ التَّعزيرَ بالإتلافِ جائِزٌ [2243] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (28/110)، ((الطرق الحكمية)) لابن القيم (ص: 225). .
3- عن سَلَمةَ بنِ الأكوَعِ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((خَرَجنا مَعَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى خَيبَرَ... ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تعالى فتَحَها عليهم، فلمَّا أمسى النَّاسُ مَساءَ اليَومِ الذي فُتِحَت عليهم أوقَدوا نيرانًا كَثيرةً، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ما هذه النِّيرانُ؟ على أيِّ شَيءٍ توقِدونَ؟ قالوا: على لحمٍ، قال: على أيِّ لحمٍ؟ قالوا: لحمُ حُمُرِ الإنسيَّةِ، قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أهريقوها واكسِروها، فقال رَجُلٌ: يا رَسولَ اللهِ، أو نُهريقُها ونَغسِلُها؟ قال: أو ذاكَ )) [2244] أخرجه البخاري (4196) واللفظ له، ومسلم (1802). .                                    
وَجهُ الدَّلالةِ:
في قَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أهريقوها واكسِروها)) دَلالةٌ على جَوازِ التَّعزيرِ بالإتلافِ؛ لأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أمَرَ بكَسرِ القُدورِ التي طُبِخَ فيها لُحومُ الحُمُرِ [2245] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (28/110)، ((الطرق الحكمية)) لابن القيم (ص: 225). .
ثانيًا: مِنَ الآثارِ
1- عن صَفيَّةَ بنتِ أبي عُبَيدٍ، قالت: وجَدَ عُمَرُ في بَيتِ رَجُلٍ مِن ثَقيفٍ خَمرًا، وقد كان جَلَدَه في الخَمرِ، فحَرقَ بَيتَه، وقال: (ما اسمُك؟ قال: رُوَيشِدٌ، قال: بَل أنتَ فُوَيسِقٌ!) [2246] أخرجه عبد الرزاق (10051). صَحَّحه ابنُ القيم في ((الطرق الحكمية)) (226)، وذكَرَ ثبوتَه ابنُ تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (29/294). .
2- عنِ الحارِثِ، قال: (شَهدَ قَومٌ على رَجُلٍ عِندَ عَليِّ بنِ أبي طالِبٍ أنَّه يَصطَنِعُ الخَمرَ في بَيتِه فيَشرَبُها ويَبيعُها، فأمَرَ بها فكُسِرَت، وحَرَقَ بَيتَه وأنهَبَ مالَه، ثُمَّ جَلَدَه ونَفاهـ) [2247] أخرجه ابن بطة كما في ((الآداب الشرعية)) لابن مفلح (1/218). صَحَّحه ابنُ القيم في ((الطرق الحكمية)) (226)، وذكَرَ ثبوتَه ابنُ تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (29/294). .

انظر أيضا: