الموسوعة الفقهية

المَبحَثُ الثَّالِثُ: التَّعزيرُ بالقَتلِ


اختَلَف الفُقَهاءُ في حُكمِ التَّعزيرِ بالقَتلِ، على قَولَينِ:
القَولُ الأوَّلُ: يَجوزُ التَّعزيرُ بالقَتلِ في بَعضِ الحالاتِ [2200] كَقَتلِ الجاسوسِ المُسلِمِ، وقَتلِ مَن تَكَرَّرَت مِنه الجَرائِمُ، إذا كان جِنسُها يوجِبُ القَتلَ، وقَتلِ مَن لا يَندَفِعُ شَرُّه إلَّا بالقَتلِ. ، وهو مَذهَبُ الحَنَفيَّةِ [2201] نَصَّ الحَنَفيَّةُ على جَوازِ التَّعزيرِ بالقَتلِ، كقَتلِ مَن لا يَزولُ فسادُه إلَّا بالقَتلِ، كقَتلِ السَّارِقِ إن تَكَرَّرَ مِنه، وقَتلِ مَن تَكَرَّرِ مِنه خَنقُ النَّاسِ. ((البحر الرائق)) لابنِ نَجيم (5/45) و (6/234)، ((حاشية ابن عابدين)) (4/62). ، والمالِكيَّةِ [2202] نَصَّ المالِكيَّةُ على قَتلِ الجاسوسِ، والدَّاعيةِ إلى البِدعةِ المُفرِّقِ لجَماعةِ المُسلِمينَ؛ فإنَّه يُستَتابُ، فإن تابَ وإلَّا قُتِلَ. ((التاج والإكليل)) للمواق (4/ 553)، ((منح الجليل)) لعليش (9/ 358). ويُنظر: ((تبصرة الحكام)) لابن فرحون (2/ 297). ، وقَولٌ للحَنابِلةِ [2203] نَصَّ بَعضُ الحَنابِلةِ على جَوازِ التَّعزيرِ بالقَتلِ للحاجةِ، كقَتلِ المُبتَدِعِ الدَّاعي إلى البِدعةِ، وقَتلِ مَن تَكَرَّر شُربُه للخَمرِ ما لم يَنتَهِ بدونِه، والعائِنِ إذا كان يَقتُلُ بعَينِه غالِبًا. ((المبدع في شرح المقنع)) لبرهان الدين ابن مفلح (9/100)، ((الإنصاف)) للمرداوي (10/ 249)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (6/126). ، ورَجَّحَه ابنُ تَيميَّةَ [2204] قال ابنُ تَيميَّةَ: (وقد يُستَدَلُّ على أنَّ المُفسِدَ إذا لم يَنقَطِعْ شَرُّه إلَّا بقَتلِه فإنَّه يُقتَلُ؛ لِما رَواه مُسلِمٌ في صَحيحِه عن عَرفَجةَ الأشجَعيِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: مَن أتاكُم وأمرُكُم جَميعٌ على رَجُلٍ واحِدٍ، يُريدُ أن يَشُقَّ عَصاكُم، أو يُفرِّقَ جَماعَتَكُم، فاقتُلوهـ). ((السياسة الشرعية)) (ص 99). ، وابنُ القَيِّمِ [2205] قال ابنُ القَيِّمِ: (وقد تَقدَّمَ الخِلافُ في أكثَرِه، وأنَّه يَسوغُ بالقَتلِ إذا لم تَندَفِعِ المَفسَدةُ إلَّا به، مِثلُ قَتلِ المُفرِّقِ لجَماعةِ المُسلِمينَ، والدَّاعي إلى غَيرِ كِتابِ اللهِ وسُنَّةِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. وفي "الصَّحيحِ" عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "إذا بويِعَ لخَليفتَينِ فاقتُلوا الآخِرَ مِنهما". وقال: "مَن جاءَكُم وأمرُكُم على رَجُلٍ واحِدٍ، يُريدُ أن يُفرِّقَ جَماعَتَكُم، فاضرِبوا عُنُقَه بالسَّيفِ كائِنًا مَن كان".... وأبعَدُ الأئِمَّةِ مِنَ التَّعزيرِ بالقَتلِ: أبو حَنيفةَ، ومَعَ ذلك فيجوزُ التَّعزير به للمَصلَحةِ، كَقَتلِ المُكثِرِ مِنَ اللِّواطِ، وقَتلِ القاتِلِ بالمُثقلِ). ((الطرق الحكمية)) (1/223). ، وابنُ عُثَيمين [2206] قال ابنُ عُثَيمين: (ما صَحَّ الحَديثُ به عن عبدِ اللهِ بنِ عَمرِو بنِ العاصِ رَضِيَ اللهُ عنهما: «إذا شَرِبَ فاجلِدوه»، وذَكَرَ ذلك ثَلاثًا، ثُمَّ قال: «فإن شَرِب الرَّابِعةَ فاقتُلوه»، وهذا دَليلٌ على أنَّه عُقوبةٌ تَتَدَرَّجُ حتَّى تَصِلَ إلى القَتلِ، ولَو كان حَدًّا مَحدودًا لَكان الحَدُّ فيه لا يَتَغَيَّرُ، وهذا هو الرَّاجِحُ عِندي، وهو ظاهرُ كَلامِ ابنِ القَيِّمِ في "إعلامِ الموقِّعينَ"، وهو أنَّه تَعزيرٌ، لَكِن لا يَنقُصُ عن أقَلِّ تَقديرٍ ورَدَت به السُّنَّةُ، وأمَّا الزِّيادةُ فلا حَرَجَ في الزِّيادةِ إذا رَأى الحاكِمُ المَصلَحةَ في ذلك). ((الشرح الممتع)) (14/295). وقال في قَولِه تعالى: (أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفُ نُعَذِّبُه العَذابَ الذي يَكونُ تَعزيرًا، وعَذابُ التَّعزيرِ يَرجِعُ إلى رَأيِ الحاكِمِ، إمَّا بالقَتلِ أو بغَيرِهـ). ((تفسير سورة الكهف)) (ص: 128). .
الأدِلَّة:ِ
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
عن عَرفَجةَ الأشجَعيِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((مَن أتاكُم وأمرُكُم جَميعٌ على رَجُلٍ واحِدٍ، يُريدُ أن يَشُقَّ عَصاكُم، أو يُفرِّقَ جَماعَتَكُم، فاقتُلوهـ)) [2207] أخرجه مسلم (1852). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أمَرُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بقَتلِ مَن يُريدُ تَفريقَ الجَماعةِ دَليلٌ على أنَّ المُفسِدَ إذا لم يَنقَطِعْ شَرُّه إلَّا بقَتلِه فإنَّه يُقتَلُ [2208] يُنظر: ((السياسة الشرعية)) لابن تيمية (ص 93)، ((الطرق الحكمية)) لابن القيم (1/223). .
القَولُ الثَّاني: لا يَجوزُ التَّعزيرُ بالقَتلِ، وهو قَولُ ابنِ حَزمٍ [2209] قال ابنُ حَزمٍ: (وقالت طائِفةٌ: أكثَرُ التَّعزيرِ عَشَرةُ أسواطٍ فأقَلُّ، لا يَجوزُ أن يُتَجاوَزَ به أكثَرُ مِن ذلك،  وهو قَولُ اللَّيثِ بنِ سَعدٍ، وقَولُ أصحابِنا... فنَظَرنا في قَولِ مَن أسقَطَ التَّعزيرَ جُملةً، ومَن رَأى أنَّه يُزادُ فيه عَشر جَلَداتٍ؛ إذ لم يَبقَ غَيرُ هَذَين القَولَينِ؛ إذ سائِرُ الأقوالِ قد سَقَطَ التَّعَلُّقُ بها جُملةً واحِدةً. فوجَدنا المَنعَ مِنه جُملةً، كَما جاءَ عن عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ، وعن عَطاءٍ هو كان الأصلَ؛ لقَولِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «إنَّ دِماءَكُم وأموالَكُم وأعراضَكُم وأبشارَكم عليكُم حَرامٌ». لَكِن لَمَّا قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «مَن رَأى مِنكُم مُنكَرًا فليُغَيِّرْه بيَدِه إنِ استَطاعَ، فإن لم يَستَطِعْ فبِلِسانِه» كان ذلك مُطلَقًا لتَغييرِ المُنكَرِ باليَدِ، فكان هذا أمرًا مُجمَلًا، لا نَدري كَيفيَّةَ ذلك التَّغييرِ باليَدِ كَيف هو؟ لأنَّ التَّغييرَ باليَدِ يَكونُ بالسَّيفِ وبِالحَجَرِ، ويَكونُ بالرُّمحِ، ويَكونُ بالضَّربِ، وهذا لا يُقدَمُ عليه إلَّا ببَيانٍ مِنَ اللهِ تعالى على لسانِ رَسولِه عليه السَّلامُ. ثُمَّ نَظَرنا في قَولِ مالِكٍ فوجَدناه أبعَدَ الأقوالِ مِنَ الصَّوابِ؛ لأنَّه لم يَتَعَلَّقْ بقُرآنٍ ولا بسُنَّةٍ، ولا بدَليلِ إجماعٍ، ولا بقَولِ أحَدٍ مِنَ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم، ولا برَأيٍ سَديدٍ، فنَظَرنا في ذلك فوجَدنا: ما نا عَبدُ الرَّحمَنِ بنُ عَبدِ اللَّهِ بنِ خالِدٍ نا إبراهيمُ بنُ أحمَد نا الفَربريُّ نا البخاريُّ نا عَبدُ اللَّهِ بنُ يوسُفَ نا اللَّيثُ هو ابنُ سَعدٍ، ني يَزيدُ بنُ أبي حَبيبٍ عن بكيرِ بنِ عَبدِ اللَّهِ عن سُلَيمانَ بنِ يَسارٍ عن عَبدِ الرَّحمَنِ بنِ جابِرِ بنِ عَبدِ اللَّهِ بنِ أبي بُردةَ، قال: كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: «لا يُجلَدُ فوقَ عَشرِ جَلَداتٍ إلَّا في حَدٍّ مِن حُدودِ اللهِ تعالى»، فكان هذا بَيانًا جَليًّا لا يَحِلُّ لأحَدٍ أن يَتَعَدَّاهـ). ((المحلى)) (12/222-224). ، وهو مُقتَضى مَذهَبِ الشَّافِعيَّةِ [2210] لم يَذكُرِ الشَّافِعيَّةُ القَتلَ بوَصفِه إحدى العُقوباتِ التَّعزيريَّةِ، ونَصَّ بَعضُهم على إدامةِ حَبسِ مَن يُكثِرُ الجِنايةَ، حتَّى يَموتَ. ((تحفة المحتاج)) لا بن حجر الهيتمي (9/ 110)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (8/ 22). ، ومُقتَضى مَذهَبِ الحَنابِلةِ [2211] نَصَّ الحَنابِلةُ على عَدَمِ جَوازِ القَطعِ والجَرحِ في التَّعزيرِ، فالقَتلُ مِن بابِ أَولى. ((الفروع)) لابن مُفلِح (10/112). ؛ وذلك لأنَّ الواجِبَ في التَّعزيرِ الأدَبُ، والتَّأديبُ لا يَكونُ بالإتلافِ [2212] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (9/178). .

انظر أيضا: