الموسوعة الفقهية

المَطلَبُ الثَّالِثُ: ثُبوتُ حَدِّ الخَمرِ بالقَرائِنِ


اختَلَف الفُقَهاءُ في ثُبوتِ حَدِّ الخَمرِ بالقَرائِنِ [1091] القَرينةُ: هيَ العَلامةُ الدَّالَّةُ على شَيءٍ مَطلوبٍ. يُنظر: ((التعريفات)) للجرجاني (ص: 174)، ((الموسوعة الكويتية)) (34/94). ، على قَولَينِ:
القَولُ الأوَّلُ: لا يَثبُتُ حَدُّ الخَمرِ بالقَرائِنِ، وهو مَذهَبُ الجُمهورِ: الحَنَفيَّةِ [1092] ((البحر الرائق)) لابن نجيم (5/30). ، والشَّافِعيَّةِ [1093] ((نهاية المحتاج)) للرملي (8/16)، ((حاشيتا قليوبي وعميرة)) (4/ 205). ، والحَنابِلةِ [1094] ((المبدع في شرح المقنع)) لبرهان الدين ابن مفلح (7/ 419 - 420)، ((الإنصاف)) للمرداوي (10/234). .
وذلك للآتي:
أوَّلًا: أنَّه لَو وُجِدَ مِنه رائِحةُ الخَمرِ فيُحتَمَلُ أنَّه تَمَضمَض بها، أو ظَنَّها ماءً، أو أكَلَ نَبقًا بالِغًا، أو شَرِبَ شَرابَ تُفَّاحٍ، والحَدُّ يُدرَأُ بالشُّبهةِ [1095] يُنظر: ((المبدع في شرح المقنع)) لبرهان الدين ابن مفلح (7/ 420). .
ثانيًا: أنَّه لَو تَقَيَّأ الخَمرَ فيُحتَمَلُ أنَّه شَرِبَها مُكرَهًا أو مُضطَرًّا، ولا حَدَّ مَعَ الشَّكِّ [1096] يُنظر: ((البحر الرائق)) لابن نجيم (5/30).  .
القَولُ الثَّاني: يَثبُتُ حَدُّ الخَمرِ بالقَرائِنِ، وهو مَذهَبُ المالِكيَّةِ [1097] ((التاج والإكليل)) للمواق (8/ 433)، ((حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير)) (4/354). ، ورِوايةٌ للحَنابِلةِ [1098] ((المبدع في شرح المقنع)) لبرهان الدين ابن مفلح (7/ 420)، ((الإنصاف)) للمرداوي (10/234). ، ونُسِب للشَّافِعيِّ [1099] ( نسبه إليه ابن المنذر. يُنظر: ((الإشراف)) لابن المنذر (7/339). ، واختارَه ابنُ تَيميَّةَ [1100] قال ابنُ تَيميَّةَ: (الحَدُّ واجِبٌ إذا قامَتِ البَيِّنةُ، أوِ اعتَرَف الشَّارِبُ، فإن وُجِدَت مِنه رائِحةُ الخَمرِ، أو رُئيَ وهو يتقايؤها ونَحو ذلك، فقد قيلَ: لا يُقامُ عليه الحَدُّ؛ لاحتِمالِ أنَّه شَرِب ما ليس بخَمرٍ، أو شَرِبها جاهلًا بها، أو مَكروهًا ونَحوَ ذلك، وقيلَ: يُجلَدُ إذا عرف أنَّ ذلك مُسكِرٌ. وهذا هو المَأثورُ عنِ الخُلَفاءِ الرَّاشِدينَ وغَيرِهم مِنَ الصَّحابةِ، كَعُثمانَ، وعَليٍّ، وابنِ مَسعودٍ، وعليه تَدُلُّ سُنَّةُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهو الذي اصطَلَحَ عليه النَّاسُ، وهو مَذهَبُ مالِكٍ، وأحمدَ في غالِبِ نُصوصِه، وغَيرِهما). ((السياسة الشرعية)) (1/146). ، وابنُ القَيِّمِ [1101] قال ابنُ القَيِّمِ: (قَولُه: "إلَّا بالبَيِّناتِ والأيمانِ" يُريدُ بالبَيِّناتِ الأدِلَّةَ والشَّواهِدَ؛ فإنَّه قد صَحَّ عنه الحَدُّ في الزِّنا بالحَبَلِ، فهو بَيِّنةٌ صادِقةٌ، بَل هو أصدَقُ مِنَ الشُّهودِ، وكذلك رائِحةُ الخَمرِ بَيِّنةٌ على شُربِها عِندَ الصَّحابةِ وفُقَهاءِ أهلِ المَدينةِ، وأكثَرِ فُقَهاءِ الحَديثِ). ((إعلام الموقعين)) (1/100). وقال في مَعرِضِ رَدِّه على أصحابِ الحِيَلِ: (وقُلتُم... لَو حَبِلَتِ امرَأةٌ لا زَوجَ لَها ولا سَيِّدَ ووَلَدَت مَرَّةً بَعدَ مَرَّةٍ، لم تُحَدَّ. ولَو تقايأ الخَمرَ كُلَّ يَومٍ لم يُحَدَّ، فتَرَكتُم مَحضَ القياسِ والثَّابِتَ عنِ الصَّحابةِ ثُبوتًا لا شَكَّ فيه مِنَ الحَدِّ بالحَبَلِ ورائِحةِ الخَمرِ). ((إعلام الموقعين)) (1/ 214). ، والشَّوكانيُّ [1102] قال الشَّوكانيُّ: (قَوُله: "وتَكفي شَهادةٌ على الشَّمِّ والقَيءِ ولَو كُلُّ فردٍ على فردٍ". أقولُ: وجهُ هذا أنَّه لا تَفوحُ رائِحةُ الخَمرِ مِن جَوفِ رَجُلٍ إلَّا وقد شَرِبَ الخَمرَ، ولا يَتَقَيَّأُ الخَمرَ رَجُلٌ إلَّا وقد شَرِبَها، هذا مَعلومٌ عَقلًا، وكانتِ الشَّهادةُ على هذينِ الأمرَينِ كالشَّهادةِ على الشُّربِ، ولَكِن لا بُدَّ أن يَكونَ مِن يَشهَدُ على الشَّمِّ والقَيءِ مِمَّن له خِبرةٌ مُتقَنةٌ برائِحةِ الخَمرِ ولَونِها، مَعَ انتِفاءِ أن يوجَدَ شَيءٌ مِنَ المَأكولاتِ أوِ المَشروباتِ الحَلالِ مُشابِهة للخَمرِ لَونًا أو عرفًا، فإن وُجِدَ وادَّعاه الشَّارِبُ كان ذلك شُبهةً يُدرَأُ بها عنه الحَدُّ). ((السيل الجرار)) (ص: 857-858). ، وابنُ عُثَيمين [1103] قال ابنُ عُثَيمين: (والصَّوابُ: أنَّه يُقامُ عليه الحَدُّ برائِحَتِها وبِتَقَيُّئِها إلَّا إذا ادَّعى شُبهةً، بأن قال: إنَّه شَرِبَها مُخطِئًا، أو كان يَظُنُّها شَرابًا مُباحًا، أو قال: إنَّه أُجبِرَ على ذلك، فهنا يُرفَعُ عنهـ). ((شرح صحيح مسلم)) (3/184). ، وبِه صَدرَ قَرارِ هَيئةِ كِبارِ العُلَماءِ بالسُّعوديَّةِ [1104] جاءَ في قَرارِ هَيئةِ كِبارِ العُلَماءِ رَقم 53 وتاريخ 4/ 4/ 1397هـ بشَأنِ حُكمِ شُربِ الخَمرِ وعُقوبةِ شارِبه، الذي صَدَرَ في الدَّورةِ العاشِرةِ لمَجلِسِ هَيئةِ كِبارِ العُلَماءِ بمَدينةِ الرِّياضِ، الآتي: (بَعدَ الرُّجوعِ إلى النُّصوصِ الشَّرعيَّةِ وكَلامِ أهلِ العِلمِ في الأُمورِ المَذكورةِ، قَرَّرَ المَجلِسُ ما يلي: 1- أنَّ عُقوبةَ شارِبِ الخَمرِ الحَدُّ لا التَّعزيرُ بالإجماعِ، كَما قَرَّرَ أنَّه ثَمانونَ جَلدةً، ما عَدا فضيلةَ الشَّيخِ عَبدِ اللَّهِ بنِ قُعود، فيَرى أنَّه أربَعونَ. 2- قَرَّرَ المَجلِسُ بالإجماعِ استيفاءَ الجَلدِ جُملةً واحِدةً وعَدَمَ تَجزِئَتِه. 3- قَرَّرَ المَجلِسُ بالأغلَبيَّةِ ثُبوتَ الحَدِّ بوُجودِ رائِحةِ الخَمرِ أو قَيئِه مَعَ وُجودِ قَرينةٍ أُخرى يَقتَنِعُ بها القاضي. 4- للقاضي أن يُعَزِّرَ مَن تَكَرَّرَ مِنه شُربُ الخَمرِ ثَلاثًا، وأُقيمَ الحَدُّ عليه بَعدَ كُلِّ مَرَّةٍ بما يَراه مِن سَجنٍ وجَلدٍ ونَحوِهما، مَعَ إقامةِ الحَدِّ الواجِبِ). ((التصنيف الموضوعي لتعاميم وزارة العدل خلال 74 عامًا، 1345 1418هـ)) إعداد لَجنةٍ مُتَخَصِّصةٍ بوزارةِ العَدلِ السُّعوديَّةِ (2/ 167، 168). ، وحُكيَ إجماعُ الصَّحابةِ على ذلك [1105] قال ابنُ قُدامةَ بَعدَ ذِكرِه لأثَرِ عُثمانَ رَضِيَ اللهُ عنه في جَلدِ شارِبِ الخَمرِ بموجِبِ القَيءِ: (هذا بمَحضَرٍ مِن عُلَماءِ الصَّحابةِ -رَضِيَ اللهُ عنهم- وسادَتِهم، ولم يُنكَرْ؛ فكان إجماعًا). ((المغني)) (9/ 138). وقال ابنُ القَيِّمِ: (إقامةُ الحُدودِ بالرَّائِحةِ والقَيءِ كَما اتَّفقَ عليه الصَّحابةُ رَضِيَ اللهُ عنهم). ((إعلام الموقعين)) (3/ 16). .
الأدِلَّة:ِ
أوَّلًا: مِنَ الآثارِ
1- عنِ السَّائِبِ بنِ يَزيدَ أنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّاب خَرَجَ عليهم، فقال: (إنِّي وجَدتُ مِن فُلانٍ رِيحَ شَرابٍ، فزَعَمَ أنَّه شَرابُ الطِّلاءِ، وأنا سائِلٌ عَمَّا شَرِبَ، فإن كان مُسكِرًا جَلَدتُه، فجَلَدَه عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه الحَدَّ تامًّا) [1106] أخرجه البخاريُّ مُعَلَّقًا بصيغة الجَزم قَبل حَديث (5598) مُختَصَرًا، وأخرجه مَوصولًا النسائي (5708) واللَّفظُ له صَحَّح إسنادَه ابنُ كَثير في ((مسند الفاروق)) (2/513)، وابن حجر في ((فتح الباري)) (10/66)، والشوكاني في ((نيل الأوطار)) (9/77)، والألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (5708). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
فيه القَضاءُ بالحَدِّ على مَن وُجِدَ به ريحُ الخَمرِ [1107] يُنظر: ((الاستذكار)) لابن عبد البر (24/257).  .
2- عن حُضَينِ بنِ المُنذِرِ، أبو ساسانَ، قال: (شَهِدتُ عُثمانَ بنَ عَفَّانَ وأُتِيَ بالوليدِ قد صلَّى الصُّبحَ ركعتينِ، ثُمَّ قال: أزيدُكم؟! فشَهِد عليه رجُلانِ أحَدُهما حُمرانُ أنَّه شَرِب الخَمرَ، وشَهِدَ آخرُ أنَّه رآه يتقيَّأُ، فقال عُثمانُ: إنَّه لم يتقيَّأْ حتَّى شَرِبَها، فقال: يا عَلِيُّ، قُمْ فاجْلِدْه، فقال عليٌّ: قُمْ يا حَسَنُ فاجلِدْه، فقال الحَسَنُ: وَلِّ حارَّها مَن توَلَّى قارَّها، فكأنَّه وَجَد عليه! فقال: يا عبدَ اللَّهِ بنَ جَعفَرٍ قُمْ فاجلِدْه، فجَلَده وعليٌّ يَعُدُّ حتَّى بَلَغ أربعينَ، فقال: أمسِكْ. ثُمَّ قال: جَلَدَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أربَعينَ، وجَلَدَ أبو بَكرٍ أربَعينَ، وعُمَرُ ثَمانينَ، وكُلٌّ سُنَّةٌ. وهذا أحَبُّ إلَيَّ) [1108] أخرجه مسلم (1707). .
3- عن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: (كُنتُ بحِمصَ فقال لي بَعضُ القَومِ: اقرَأْ علينا. فقَرَأتُ عليهم سورةَ يوسُفَ. قال: فقال رَجُلٌ مِنَ القَومِ: واللهِ ما هَكَذا أُنزِلَت! قال: قُلتُ: ويحَكَ! واللهِ لَقد قَرَأتُها على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. فقال لي: "أحسَنتَ". فبَينَما أنا أُكَلِّمُه إذ وجَدتُ مِنه ريحَ الخَمرِ. قال: فقُلتُ: أتَشرَبُ الخَمرَ وتُكَذِّبُ بالكِتابِ؟! لا تَبرَحُ حتَّى أجلِدَك. قال: فجَلَدتُه الحَدَّ) [1109] أخرجه البخاري (5001)، ومسلم (801) واللفظ له. .
ثانيًا: أنَّ الرَّائِحةَ تَدُلُّ على شُربِه لَها؛ فجَرى مَجرى الإقرارِ [1110] يُنظر: ((المبدع في شرح المقنع)) لبرهان الدين ابن مفلح (7/ 419 - 420).  .
ثالِثًا: أنَّه قد صَحَّ الحَدُّ في الزِّنا بالحَبَلِ، فهو بَيِّنةٌ صادِقةٌ، فكذلك رائِحةُ الخَمرِ بَيِّنةٌ على شُربِها [1111] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (1/ 214).  .

انظر أيضا: