المَطلَبُ الثَّاني: الخَمرُ المُتَّخَذُ مِن غَيرِ العِنَبِ
يَحرُمُ شُربُ الخَمرِ المُتَّخَذِ مِن غَيرِ العِنَبِ
[1062] كالتَّمرِ أوِ الحِنطةِ أوِ الشَّعيرِ أو غَيرِها. ؛ قَليلِه أو كَثيرِه، باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ: الحَنَفيَّةِ
[1063] عليه الفتوى عِندَ الحَنَفيَّةِ. ((حاشية ابن عابدين)) (6/456،455). ، والمالِكيَّةِ
[1064] ((الكافي)) لابن عبد البر (1 / 442)، ((الفواكه الدواني)) للنفراوي (2 / 288). ويُنظر: ((المقدمات الممهدات)) لابن رشد الجد (1/442). ، والشَّافِعيَّةِ
[1065] ((روضة الطالبين)) للنووي (10/ 168). ويُنظر: ((المهذب)) للشيرازي (3 / 370)، ((أسنى المطالب)) لزكريا الأنصاري (4 / 158). ، والحَنابِلةِ
[1066] ((الفروع)) لابن مفلح (10 /. 96)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (6 / 116). ، والظَّاهريَّةِ
[1067] قال ابنُ عَبدِ البَرِّ: (وهو مَذهَبُ أهلِ الحِجازِ مِنَ الصَّحابةِ والتَّابِعينَ... وأبو ثَورٍ، وإسحاقُ، وداودُ). ((الاستذكار)) (8 / 21). وقال ابنُ حَزمٍ: (كُلُّ شَيءٍ أسكَرَ كَثيرُه أحَدًا مِنَ النَّاسِ فالنُّقطةُ مِنه فما فوقَها إلى أكثَرِ المَقاديرِ خَمرٌ حَرامٌ: مِلكُه، وبَيعُه، وشُربُه، واستِعمالُه على أحَدٍ. وعَصيرُ العِنَبِ، ونَبيذُ التِّينِ، وشَرابُ القَمحِ، والسيكرانُ، وعَصيرُ كُلِّ ما سِواها ونَقيعُه، وشَرابُه -طُبِخ كُلُّ ذلك أو لم يُطبَخْ- ذَهَبَ أكثَرُه أو أقَلُّه، سَواءٌ في كُلِّ ما ذَكَرنا، ولا فَرقَ). ((المحلى)) (6 / 176). ، وهو قَولُ طائِفةٍ مِنَ السَّلَفِ
[1068] قال ابنُ عَبدِ البَرِّ: (وهو مَذهَبُ أهلِ الحِجازِ مِنَ الصَّحابةِ والتَّابِعينَ، وذَهَبَ إليه مِنَ الفُقَهاءِ أئِمَّةُ الفتوى بالأمصارِ: مالِكٌ، واللَّيثُ، والشَّافِعيُّ، والأوزاعيُّ، وأحمدُ، وأبو ثَورٍ، وإسحاقُ، وداودُ). ((الاستذكار)) (8 / 21). وقال ابنُ حَجَرٍ: (وقال أهلُ المَدينةِ وسائِرُ الحِجازيِّينَ، وأهلُ الحَديثِ كُلُّهم: كُلُّ مُسكِرٍ خَمرٌ، وحُكمُه حُكمُ ما اتُّخِذَ مِنَ العِنَبِ). ((فتح الباري)) (10 / 48). وقال أيضًا: (وقد نَقَلَ ابنُ المُنذِرِ عنِ الشَّافِعيِّ ما يوافِقُ ما نَقَلوا عنِ المُزَنيِّ، فقال: قال: إنَّ الخَمرَ مِنَ العِنَبِ ومِن غَيرِ العِنَبِ: عُمَرُ، وعَليٌّ، وسَعيدُ، وابنُ عُمَرَ، وأبو موسى، وأبو هرَيرةَ، وابنُ عبَّاسٍ، وعائِشةُ، ومِنَ التَّابِعينَ: سَعيدُ بنُ المُسَيِّبِ، وعُروةُ، والحَسَنُ، وسَعيدُ بنُ جُبَيرٍ، وآخَرونَ، وهو قَولُ مالِكٍ، والأوزاعيِّ، والثَّوريِّ، وابنِ المُبارَكِ). ((فتح الباري)) (10 / 49). ، وحُكيَ فيه إجماعُ الصَّحابةِ
[1069] قال القاضي عَبدُ الوهَّابِ: (ولأنَّه إجماعُ الصَّحابةِ). ((المعونة)) (ص: 711). وقال ابنُ بَطَّالٍ: (الخَمرُ: ما خامَرَ العَقلَ، وخَطَبَ بذلك -يَعني عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنه- على مِنبَرِ النَّبِيّ عليه السَّلامُ بحَضرةِ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم مِنَ المُهاجِرينَ والأنصارِ وغَيرِهم، ولم يُنكِرْه أحَدٌ مِنهم؛ فصارَ كالإجماعِ). ((شرح ابن بطال)) (6/ 39). وقال ابنُ عَبدِ البَرِّ: (هؤلاء الصَّحابةُ لا خِلافَ بَينَهم أنَّ الخَمرَ تَكونُ مِن غَيرِ العِنَبِ كَما تَكونُ مِنَ العِنَبِ، وقد أجمَعَتِ الأُمَّةُ ونَقَلَتِ الكافَّةُ عن نَبيِّها صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تَحريمَ خَمرِ العِنَبِ قَليلِها وكَثيرِها، فكذلك كُلُّ ما فعَلَ فِعلَها مِنَ الأشرِبةِ كُلِّها). ((الاستذكار)) (8/ 23). وقال اللَّخميُّ: (وهو قَولُ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم، والصَّدرِ الأوَّلِ، قال القاضي أبو الحَسَنِ ابنُ القَصَّارِ: هو قَولُ عُمَرَ، وعليٍّ، وابنِ عبَّاسٍ، وسَعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ، وابنِ عُمَرَ، وأبي هرَيرةَ، وعائِشةَ. وهذا هو الصَّحيحُ مِنَ القَولِ؛ لوُرودِ النَّصِّ، ولِوُقوعِ اسمِ الخَمرِ عليه، ولأنَّه إجماعُ الصَّحابةِ، ولِلعِلَّةِ الجامِعةِ بَينَه وبَينَ الخَمرِ). ((التبصرة)) (4 / 1613). وقال ابنُ تَيميَّةَ: (وكُلُّ ما يُغَيِّبُ العَقلَ فإنَّه حَرامٌ وإن لم تَحصُلْ به نَشوةٌ ولا طَرَبٌ؛ فإنَّ تَغييبَ العَقلِ حَرامٌ بإجماعِ المُسلِمينَ). ((مجموع الفتاوى)) (34/ 211). وقال أيضًا: (كُلُّ ما يُغَيِّبُ العَقلَ يَحرُمُ باتِّفاقِ المُسلِمينَ). ((مجموع الفتاوى)) (34/ 218). وذَهَبَ أبو حَنيفةَ وبَعضُ المالِكيَّةِ وبَعضُ الشَّافِعيَّةِ إلى أنَّ الخَمرَ هيَ المُتَّخَذةُ مِنَ العِنَبِ فحَسبُ، إذا اشتَدَّ وغَلى وقَذَف بالزَّبَدِ. قال القُرطُبيُّ: (فأمَّا المُستَخرَجُ مِنَ العِنَبِ المُسكِرِ النِّيءِ فهو الذي انعَقدَ الإجماعُ على تَحريمِ قَليلِه وكَثيرِه ولَو نُقطةً مِنه. وأمَّا ما عَدا ذلك فالجُمهورُ على تَحريمِه. وخالَف الكوفيُّونَ في القَليلِ مِمَّا عَدا ما ذُكِرَ). ((تفسير القرطبي)) (6/295). ويُنظر: ((الدر المختار)) للحصكفي (6 / 448)، ((حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني)) (2 / 422)، ((فتح الباري)) لابن حجر (10 / 49). .
الأدِلَّة:ِ أوَّلًا: مِنَ الكتابِ قَولُه تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة: 90] .
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ 1- عن ابنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((كُلُّ مُسكِرٍ خَمرٌ، وكُلُّ مُسكِرٍ حَرامٌ )) [1070] أخرجه مسلم (2003). .
وَجهُ الدَّلالةِ مِنَ الآيةِ والحَديثِ: أنَّ لَفظَ الخَمرِ عامٌّ في كُلِّ مُسكِرٍ، فإخراجُ بَعضِ الأشرِبةِ المُسكِرةِ عن شُمولِ اسمِ الخَمرِ لَها تَقصيرٌ به، وهَضمٌ لعُمومِه
[1071] ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (1 / 168). .
2- عن جابِرٍ رَضِيَ اللهُ عنه:
((أنَّ رَجُلًا قدِمَ مِن جَيشانَ -وجَيشانُ مِنَ اليَمَنِ- فسَألَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن شَرابٍ يَشرَبونَه بأرضِهم مِنَ الذُّرةِ، يُقالُ لَه المِزْرُ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أوَ مُسكِرٌ هو؟ قال: نَعَم، قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: كُلُّ مُسكِرٍ حَرامٌ، إنَّ على اللهِ عَزَّ وجَلَّ عَهدًا لمَن يَشرَبُ المُسكِرَ أن يَسقيَه مِن طينةِ الخَبالِ، قالوا: يا رَسولَ اللهِ، وما طينةُ الخَبالِ؟ قال: عَرَقُ أهلِ النَّارِ، أو عُصارةُ أهلِ النَّارِ )) [1072] أخرجه مسلم (2002). .
وَجهُ الدَّلالةِ: دَلَّتِ الأحاديثُ أنَّ الخَمرَ تَكونُ مِن غَيرِ العِنَبِ كَما تَكونُ مِنَ العِنَبِ، وقد أجمَعَتِ الأُمَّةُ ونَقَلَتِ الكافَّةُ عن نَبيِّها صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تَحريمَ خَمرِ العِنَبِ قَليلِها وكَثيرِها، فكذلك كُلُّ ما فَعَلَ فِعلَها مِنَ الأشرِبةِ كُلِّها
[1073] يُنظر: ((الاستذكار)) لابن عبد البر (8/ 23). .
ثالثًا: مِنَ الآثارِ عن ابنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما، قال: سَمِعتُ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنه على مِنبَرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: (أمَّا بَعدُ، أيُّها النَّاسُ إنَّه نَزَلَ تَحريمُ الخَمرِ، وهيَ مِن خَمسةٍ: مِنَ العِنَبِ، والتَّمرِ، والعَسَلِ، والحِنطةِ، والشَّعيرِ، والخَمرُ ما خامَرَ العَقلَ)
[1074] أخرجه البخاري (4619) واللفظ له، ومسلم (3032). .
وَجهُ الدَّلالةِ: قَولُه: (والخَمرُ ما خامَرَ العَقلَ) يُريدُ أنَّه ليس بمَقصورٍ على هذه الخَمسةِ التي كانت، وأنَّ العِلَّةَ النَّشوةُ وما خامَرَ العَقلَ
[1075] ((شرح الزرقاني على مختصر خليل)) (8/196). .
رابِعًا: أنَّ الصَّحابةَ لمَّا نَزَل تَحريمُ الخَمرِ فَهِموا مِنَ الأمرِ باجتِنابِ الخَمرِ تَحريمَ كُلِّ مُسكِرٍ، ولم يُفرِّقوا بَينَ ما يُتَّخَذُ مِنَ العِنَبِ وبَينَ ما يُتَّخَذُ مِن غَيرِه، بَل سَوَّوا بَينَهما، وحَرَّموا كُلَّ ما يُسكِرُ نَوعُه، ولَم يَتَوقَّفوا ولا استَفصَلوا، ولَم يُشكِلْ عليهم شَيءٌ مِن ذلك، بَل بادَروا إلى إتلافِ ما كان مِن غَيرِ عَصيرِ العِنَبِ، وهم أهلُ اللِّسانِ، وبلُغَتهم نَزَلَ القُرآنُ، فلو كان عِندَهم فيه تَرَدُّدٌ لتوقَّفوا عنِ الإراقةِ حتَّى يَستَكشِفوا ويَستَفصِلوا ويَتَحَقَّقوا التَّحريمَ لِما كان تقَرَّر عِندَهم مِنَ النَّهيِ عن إضاعةِ المالِ، فلمَّا لم يَفعَلوا ذلك وبادَروا إلى الإتلافِ عَلِمنا أنَّهم فَهِموا التَّحريمَ نَصًّا
[1076] ((فتح الباري)) لابن حجر (10 / 49). .
خامِسًا: أنَّها سُمِّيَت خَمرًا لمُخامَرَتِها العَقلَ، فكُلُّ شَرابٍ يُسكِرُ فهو خَمرٌ
[1077] ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (6 / 44). .
سادِسًا: أنَّ العَرَبَ إنَّما سَمَّتِ الخَمرَ بهذا الاسمِ؛ لوُجودِ الإسكارِ والشِّدَّةِ المُطرِبةِ، فوجَبَ إجراءُ العِلَّةِ حَيثُ وُجِدَت، وعَلِمنا أنَّها عِلَّةٌ بالطَّريقِ الذي به نَعلَمُ العِلَلَ، وهو وُجودُ الحُكمِ بوُجودِها، وارتِفاعُه بارتِفاعِها
[1078] ((الإشراف على نكت مسائل الخلاف)) للقاضي عبد الوهاب (2 / 926). .
انظر أيضا:
عرض الهوامش