المَسألةُ الثَّانيةُ: تَأجيلُ حَدِّ الجَلدِ للمَريضِ الذي يُرجى بُرؤُه
اختَلَف الفُقَهاءُ في تَأجيلِ حَدِّ الجَلدِ للمَريضِ الذي يُرجى بُرؤُه، على قَولَينِ:
القَولُ الأوَّلُ: يُؤَجَّلُ حَدُّ الجَلدِ للمَريضِ الذي يُرجى بُرؤُه، وهو مَذهَبُ الجُمهورِ: الحَنَفيَّةِ
[714] ((المبسوط)) للسرخسي (9/ 100)، ((الفتاوى الهندية)) (3 / 147). ، والمالِكيَّةِ
[715] ((التاج والإكليل)) للمواق (8/ 398 - 325)، ((منح الجليل)) لعليش (9/ 72- 73). ، والشَّافِعيَّةِ
[716] ((تحفة المحتاج)) لابن حجر الهيتمي (9/ 118)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (7/ 434). ، وظاهِرُ قَولِ الخِرَقيِّ مِنَ الحَنابِلةِ
[717] ((المغني)) لابن قدامة (9/48). .
الأدِلَّة:ِأوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِأنَّ عَليًّا رَضِيَ اللهُ عنه خَطَب فقال: يا أيُّها النَّاسُ أقيموا على أرِقَّائِكُمُ الحَدَّ، مَن أحصَنَ مِنهم ومَن لم يُحصِنْ؛ فإنَّ أمَةَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم زَنَت فأمَرَني أن أجلِدَها، فإذا هيَ حَديثُ عَهدٍ بنِفاسٍ، فخَشِيتُ إن أنا جَلَدتُها أن أقتُلَها، فذَكَرتُ ذلك للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: (أحسَنتَ)
[718] أخرجه مسلم (1705). ، وفي رِوايةٍ زادَ في الحَديثِ: (اترُكْها حتَّى تَماثَلَ)
[719] أخرجها مسلم (1705). .
وَجهُ الدَّلالةِ:في الحَديثِ دَلالةٌ على أنَّ الجَلدَ يُؤَجَّلُ عنِ المَريضِ الذي يُرجى بُرؤُه؛ لأنَّ النَّبيَّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أقَرَّ عَليًّا على تَأجيلِه جَلدَ النُّفَساءِ
[720] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (9/ 100). .
ثانيًا: مِنَ الآثارِأنَّ الصَّحابةَ رَضِيَ اللهُ عنهم قالوا لعُمَرَ رضِيَ اللهُ عنه حينَما هَمَّ بجَلدِ قُدامةَ: (لا نَرى أن تَجلِدَه ما كان مَريضًا، فسَكَت عُمَرُ رضِيَ اللهُ عنه عن ذلك أيَّامًا، ثُمَّ أصبَحَ يَومًا وقد عَزَمَ على جَلدِه، فقال لأصحابِه: ما تَرَونَ في جَلدِ قُدامةَ؟ قالوا: لا نَرى أن تَجلِدَه ما دامَ وَجِعًا. فقال عُمَرُ رضِيَ اللهُ عنه: لَأن يَلقى اللَّهَ تَحتَ السِّياطِ أحَبُّ إليَّ مِن أن يَلقاه في عُنُقي)
[721] أخرجه عبد الرزاق (17076)، وابن شبة في ((تاريخ المدينة)) (2/842)، والبيهقي (17579). صَحَّح إسنادَه ابن حجر في ((فتح الباري)) (13/151). وَجهُ الدَّلالةِ:إنكارُ الصَّحابةِ على عُمَرَ يَدُلُّ على تَأخيرِ الحَدِّ عنِ المَريضِ
[722] يُنظر: ((كشف المشكل من حديث الصحيحين)) لابن الجوزي (1/ 120). .
ثالِثًا: أنَّه لَو أقامَ الحَدَّ على المَريضِ رُبَّما يَنضَمُّ ألَمُ الجَلدِ إلى ألَمِ المَرَضِ فيُؤَدِّي إلى الإتلافِ، والحَدُّ إنَّما يُقامُ على وجهٍ يَكونُ زاجِرًا لا مُتلِفًا
[723] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (9/ 100)، ((التاج والإكليل)) للمواق (8/ 398). .
رابِعًا: أنَّ القَصدَ الرَّدعُ لا القَتلُ
[724] يُنظر: ((تحفة المحتاج)) لابن حجر الهيتمي (9/ 118)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (7/ 434). .
القَولُ الثَّاني: لا يُؤَجَّلُ حَدُّ الجَلدِ للمَريضِ الذي يُرجى بُرؤُه
[725] ولَكِن يُحَدُّ بسَوطٍ يُؤمَنُ مَعَه التَّلَفُ، فإن كان لا يُطيقُ الضَّربَ وخُشيَ عليه مِنَ السَّوطِ أُقيمَ عليه الحَدُّ بأطرافِ الثِّيابِ وبِالغُصنِ الصَّغيرِ وشِمراخِ النَّخلِ. والشِّمراخُ: هو الغُصنُ الذي عليه البُسرُ أوِ الرُّطَبُ. يُنظر: ((لسان العرب)) لابن منظور (11/10)، ((المصباح المنير)) للفيومي (1/322). ، وهو مَذهَبُ الحَنابِلةِ
[726] ((كشاف القناع)) للبهوتي (6/ 82)، ((مطالب أولي النهى)) للرحيباني (6/ 164). ، وقَولُ ابنِ حَزمٍ
[727] قال ابنُ حَزمٍ: (المَريضُ إذا أصابَ حَدًّا مِن زِنًا أو قَذفٍ أو خَمرٍ، لا بُدَّ فيه مِن أحَدِ أمرَينِ لا ثالِثَ لَهما: إمَّا أن يُعَجَّلَ له الحَدُّ، وإمَّا أن يُؤَخَّرَ عنه؟ فإن قالوا: يُؤَخَّرُ، قُلنا لَهم: إلى مَتى؟ فإن قالوا: إلى أن يَصِحَّ، قُلنا لَهم: ليس لهذا أمَدٌ مَحدودٌ، وقد تَتَعَجَّلُ الصِّحَّةُ، وقد تُبطِئُ عنه، وقد لا يَبرَأُ، فهذا تَعطيلٌ للحُدودِ، وهذا لا يَحِلُّ أصلًا؛ لأنَّه خِلافُ أمرِ اللهِ تعالى في إقامةِ الحُدودِ، فلم يَبقَ إلَّا تَعجيلُ الحَدِّ، كَما قُلنا نَحنُ، ويُؤَكِّدُ ذلك قَولُ اللهِ تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [آل عمران: 133] ، فصَحَّ أنَّ الواجِبَ أن يُجلَدَ كُلُّ واحِدٍ على حَسَبِ وُسعِه الذي كَلَّفه اللَّهُ تعالى أن يَصبِرَ له، فمَن ضَعُف جِدًّا جُلِدَ بشِمراخٍ فيه مِائةُ عُثكولٍ جَلدةً واحِدةً، أو فيه ثَمانونَ عِثكالًا، وكذلك يُجلَدُ في الخَمرِ، وإنِ اشتَدَّ ضَعفُه بطَرَفِ ثَوبٍ على حَسَبِ طاقةِ كُلِّ أحَدٍ، ولا مَزيدَ. وبِهذا نَقولُ ونَقطَعُ أنَّه الحَقُّ عِندَ اللهِ تعالى بيَقينٍ، وما عَداه فباطِلٌ عِندَ اللهِ تعالى). ((المحلى بالآثار)) (12/ 91). ، وقال به بَعضُ السَّلَفِ
[728] وهو قَولُ إسحاقَ، وأبي ثَورٍ. يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (9/48). ، وحُكيَ إجماعُ الصَّحابةِ على ذلك
[729] قال ابنُ قُدامةَ: (لأنَّ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنه أقامَ الحَدَّ على قُدامةَ بنِ مَظعونٍ في مَرَضِه، ولم يُؤَخِّرْه، وانتَشَرَ ذلك في الصَّحابةِ، فلم يُنكِروه، فكان إجماعًا). ((المغني)) (9/48). .
الأدِلَّة:ِأوَّلًا: مِنَ الكتابِقَولُه تعالى:
وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [آل عمران: 133] .
وَجهُ الدَّلالةِ:جاءَت هذه الآيةُ بالأمرِ بالمُسارَعةِ إلى طاعةِ اللهِ، فدَلَّ ذلك على تَعجيلِ الحَدِّ للمَريضِ، وأنَّ الواجِبَ أن يُجلَدَ كُلُّ واحِدٍ على حَسَبِ ما يُطيقُه
[730] يُنظر: ((المحلى بالآثار)) لابن حزم (12/ 91). .
ثانيًا: مِنَ الآثارِأنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّاب أُتيَ برَجُلٍ يَشرَبُ الخَمرَ وهو مَريضٌ، فقال: أقيموا عليه الحَدَّ؛ فإنِّي أخافُ أن يَموتَ
[731] أخرجه مسدد كما في ((إتحاف الخيرة المهرة)) للبوصيري (4/257)، وابن حزم في ((المحلى)) (11/173) واللفظ له. صَحَّح إسنادَه البوصيري في ((إتحاف الخيرة المهرة)) (4/257). وَجهُ الدَّلالةِ:دَلَّ هذا الأثَرُ على أنَّ المَريضَ يُضرَبُ ضَربًا لا يَموتُ مِنه؛ لأنَّ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنه أشفقَ مِن أن يَموتَ المَريضُ قَبلَ أن يُقامَ عليه الحَدُّ، فيَكونَ مُعَطِّلًا له، وأشفَقَ مِن أن يُصيبَه مَوتٌ مِنه
[732] يُنظر: ((المحلى بالآثار)) لابن حزم (12/ 87). .
ثالِثًا: لأنَّ الحَدَّ يَجِبُ على الفورِ، ولا يُؤَخَّرُ ما أوجَبَه اللهُ بغَيرِ حُجَّةٍ
[733] يُنظر: ((كشاف القناع)) للبهوتي (6/ 82)، ((مطالب أولي النهى)) للرحيباني (6/ 164). .
رابِعًا: أنَّ التَّأجيلَ ليس له أمَدٌ مَحدودٌ؛ لأنَّ الصِّحَّةَ قد تَتَأخَّرُ وقد لا يَبرَأُ، فيُؤَدِّي ذلك إلى تَعطيلِ الحَدِّ، وفي ذلك مُخالَفةٌ لأمرِ اللهِ تعالى في إقامةِ الحُدودِ
[734] يُنظر: ((المحلى بالآثار)) لابن حزم (12/ 89). .