الموسوعة الفقهية

الفَرعُ الثَّاني: حُكمُ الجَمعِ بَينَ الرَّجمِ والجَلدِ للزَّاني المُحْصَنِ


لا يُجمَعُ بَينَ الرَّجمِ والجَلدِ للزَّاني المُحْصَنِ، بَل يُرجَمُ فقَط، باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ: الحَنَفيَّةِ [299] ((المبسوط)) للسرخسي (9/ 30)، ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (3/ 174). ، والمالِكيَّةِ [300] ((كفاية الطالب الرباني مع حاشية العدوي)) (2/ 321)، ((الشرح الكبير)) للدردير (4/ 319). ، والشَّافِعيَّةِ [301] ((تحفة المحتاج)) لابن حجر الهيتمي (9/ 108)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (7/ 426). ، والحَنابِلةِ [302] ((المبدع في شرح المقنع)) لبرهان الدين ابن مفلح (7/ 381)، ((الإنصاف)) للمرداوي (10/ 170). ، وحُكيَ الإجماعُ على ذلك [303] قال أبو بَكرٍ الجَصَّاصُ: (فُقَهاءُ الأمصارِ مُتَّفِقونَ على أنَّ المُحصَنَ يُرجَمُ ولا يُجلَدُ). ((أحكام القرآن)) (3/ 380). وقال ابنُ بَطَّالٍ: (رَجمُ الثَّيِّبِ بلا جَلدٍ، وعلى هذا فُقَهاءُ الأمصارِ). ((شرح صحيح البخاري)) (8/ 440). وقال عَلاءُ الدِّينِ السَّمَرقَنديُّ: (ولا يُجمَعُ بَينَ الجَلدِ والرَّجمِ بالاتِّفاقِ). ((تحفة الفقهاء)) (3/ 140). وقال ابنُ الهُمامِ: (أمَّا جَلدُ عليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه شراحةَ ثُمَّ رَجمُها؛ فإمَّا لأنَّه لم يَثبُتْ عِندَه إحصانُها إلَّا بَعدَ جَلدِها، أو هو رَأيٌ لا يُقاوِمُ إجماعَ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم). ((فتح القدير)) (5/ 241). وقال الزَّيلعيُّ: (لا يُجمَعُ بَينَ الجَلدِ والرَّجمِ على المُحْصَنِ بالإجماعِ). ((تبيين الحقائق)) (3/ 174). والمَسألةُ فيها خِلافٌ، قال ابنُ قُدامةَ: (أنَّه يُجلَدُ، ثُمَّ يُرجَمُ، في إحدى الرِّوايَتَينِ، فَعَل ذلك عليٌّ رَضِيَ اللهُ عنه. وبه قال ابنُ عبَّاسٍ، وأُبَيُّ بنُ كَعبٍ، وأبو ذَرٍّ. ذَكَرَ ذلك عَبدُ العَزيزِ عنهما، واختارَه. وبه قال الحَسَنُ، وإسحاقُ، وداودُ، وابنُ المُنذِرِ. والرِّوايةُ الثَّانيةُ: يُرجَمُ ولا يُجلَدُ. رُويَ عن عُمَرَ وعُثمانَ أنَّهما رَجَما ولم يَجلِدا). ((المغني)) (9/37). ويُنظر: ((الإنصاف)) للمرداوي (10/ 170). .
الأدِلَّة:ِ
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- عَن أبي هُرَيرةَ وزَيدِ بنِ خالِدٍ الجُهَنيِّ رَضيَ اللهُ عنهما أنَّهما قالا: ((إنَّ رَجُلًا مِنَ الأعرابِ أتى رَسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم، فقال: يا رَسولَ اللهِ، أنشُدُك اللَّهَ إلَّا قَضَيتَ لي بكِتابِ اللهِ. فقال الخَصمُ الآخَرُ -وهو أفقَهُ مِنه-: نَعَم، فاقضِ بَينَنا بكِتابِ اللهِ، وأْذَنْ لي. فقال رَسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم: قُلْ، قال: إنَّ ابني كان عَسيفًا على هذا، فزَنى بامرَأتِه، وإنِّي أُخبِرتُ أنَّ على ابني الرَّجمَ، فافتَدَيتُ مِنه بمِائةِ شاةٍ ووليدةٍ، فسَألتُ أهلَ العِلمِ فأخبَروني أنَّما على ابني جَلْدُ مِائةٍ، وتَغريبُ عامٍ، وأنَّ على امرَأةِ هذا الرَّجمَ. فقال رَسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم: والذي نَفسي بيَدِه لأقضيَنَّ بَينَكُما بكِتابِ اللهِ، الوليدةُ والغَنَمُ رَدٌّ، وعلى ابنِك جَلدُ مِائةٍ وتَغريبُ عامٍ، واغْدُ يا أُنَيسُ إلى امرَأةِ هذا، فإنِ اعتَرَفت فارجُمْها، قال: فغَدا عليها فاعتَرَفَت، فأمَر بها رَسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم فرُجِمَت )) [304] أخرجه البخاري (6827، 6828)، ومسلم (1697، 1698) واللفظ له. .
وَجهُ الدَّلالةِ:
في الحَديثِ دَلالةٌ على أنَّ الزَّانيَ المُحْصَنَ إنَّما عليه الرَّجمُ فقطـ؛ لأنَّه لم يَقُلْ: اجلِدْها ثُمَّ ارجُمْها [305] يُنظر: ((الاستذكار)) لابن عبد البر (7/ 478). .
2- عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((أتى رَجُلٌ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو في المَسجِدِ، فناداه فقال: يا رَسولَ اللهِ، إنِّي زَنَيتُ، فأعرَضَ عنه، حتَّى رَدَّدَ عليه أربَعَ مَرَّاتٍ، فلمَّا شَهِدَ على نَفسِه أربَعَ شَهاداتٍ دَعاه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: أبكِ جُنونٌ؟ قال: لا، قال: فهل أحصَنتَ؟ قال: نَعَم، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: اذهَبوا به فارجُموه )) [306] أخرجه البخاري (6815) واللفظ له، ومسلم (1691). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
في الحَديثِ دَلالةٌ على أنَّ الزَّانيَ المُحْصَنَ إنَّما عليه الرَّجمُ فقطـ [307] يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (11/ 193).  .
3- قِصَّةُ الغامِديَّةِ التي جاءَت إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقالت: ((يا رسولَ اللهِ، إنِّي قد زنَيتُ فطهِّرْني، وإنَّه ردَّها، فلمَّا كان الغَدُ قالت: يا رسولَ اللهِ، لِمَ ترَدُّني؟ لعلَّك أن ترُدَّني كما رددْتَ ماعِزًا! فواللهِ إنِّي لحُبلى، قال: إمَّا لا فاذهَبي حتَّى تَلدي، فلمَّا ولَدَت أتَته بالصَّبيِّ في خِرقةٍ، قالت: هذا قد ولَدْتُه، قال: اذهَبي فأرضِعيه حتَّى تفطِميه، فلمَّا فطمَتْه أتَته بالصَّبيِّ في يدِه كِسرةُ خُبزٍ، فقالت: هذا يا نَبيَّ اللهِ قد فطَمْتُه، وقد أكَل الطَّعامَ، فدفَع الصَّبيَّ إلى رجُلٍ مِن المُسلِمينَ، ثُمَّ أمَر بها، فحُفِر لها إلى صَدرِها، وأمَر النَّاسَ فرجَموها...)) الحَديث [308] أخرجه مسلم (1695). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
لم يُذكَرْ في شَيءٍ مِن رِواياتِ الحَديثِ أنَّه جَلَد ماعِزًا، وكذلك الغامِديَّةُ؛ فدَلَّ تَركُ ذِكرِه على عَدَمِ وُقوعِه، ودَلَّ عَدَمُ وُقوعِه على عَدَمِ وُجوبِه [309] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (12/ 120). .
4- عن عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: قال عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ وهو جالسٌ على مِنبَرِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ اللَّهَ قد بَعَثَ مُحَمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالحَقِّ، وأنزَل عليه الكِتابَ، فكان مِمَّا أنزَل عليه آيةُ الرَّجمِ، قَرَأناها ووعَيناها وعَقَلناها. فرَجَمَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ورَجَمنا بَعدَه، فأخشى إن طال بالنَّاسِ زَمانٌ أن يَقولَ قائِلٌ: ما نَجِدُ الرَّجمَ في كِتابِ اللهِ، فيَضِلُّوا بتَركِ فريضةٍ أنزَلها اللهُ، وإنَّ الرَّجمَ في كِتابِ اللهِ حَقٌّ على مَن زَنى إذا أحصَنَ مِنَ الرِّجالِ والنِّساءِ، إذا قامَتِ البَيِّنةُ، أو كان الحَبَلُ أوِ الاعتِرافُ )) [310] أخرجه البخاري (6830)، ومسلم (1691) واللفظ له. .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنه ذَكَرَ الرَّجمَ، ولو كان الجَلدُ واجِبًا مَعَ الرَّجمِ لذُكِر [311] يُنظر: ((أحكام القرآن)) للجصاص (5/ 97). .     
ثانيًا: مِنَ الآثارِ
1- عنِ الزُّهريِّ: (أنَّ أبا بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه وعُمَرَ رَجَما ولم يَجلِدا) [312] أخرجه ابن حزم في ((المحلى)) (11/233). .           
2- عن ابنِ عُمَرَ قال: (إنَّ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنه رَجَمَ ولم يَجلِدْ) [313] أخرجه ابن حزم في ((المحلى)) (11/233). وأخرجه الطبري في ((مسند عمر)) (1236) عن نافِعٍ: (أنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ رَجَمَ امرَأةً ولم يَجلِدْها بالشَّامِ). وأخرجه عبد الرزاق (13357) عن إبراهيمَ قال: (ليسَ على المَرجومِ جَلدٌ، بَلغَنا أنَّ عُمَرَ رجَمَ ولم يَجلِدْ). .       
وَجهُ الدَّلالةِ:
الآثارُ صَريحةٌ في أنَّهما رَضِيَ اللهُ عنهما لم يَجلِدا الزَّانيَ المُحْصَنَ [314] يُنظر: ((المحلى بالآثار)) لابن حزم (12/ 175).  .
ثالثًا: لأنَّ الجَلدَ يَعرى عنِ المَقصودِ مَعَ الرَّجمِ؛ لأنَّ زَجرَ غَيرِه يَحصُلُ بالرَّجمِ؛ إذ هو في العُقوبةِ أقصاها، وزَجرُه لا يَحصُلُ بَعدَ هَلاكِه [315] يُنظر: ((فتح القدير)) لابن الهمام (5/ 241).  .
رابعًا: القاعِدةُ الفِقهيَّةُ تَقولُ: إنَّ ما أوجَبَ أعظَمَ الأمرَينِ بخُصوصِه لا يوجِبُ أهونَهما بعُمومِه؛ فزِنا المُحصَنِ أوجَبَ أعظَمَ الأمرَينِ -وهو الرَّجمُ- بخُصوصِ كَونِه زِنا مُحْصَنٍ، فلا يوجِبُ أهونَهما -وهو الجَلدُ- بعُمومِ كَونِه زِنًا [316] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 149). .

انظر أيضا: