مقالات وبحوث مميزة

نَقضُ دعوى انتِسابِ الأشاعِرةِ لأهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ1

علويُّ بنُ عبدِالقادِر السَّقَّاف

المشرفُ العام على مؤسَّسةِ الدُّررِ السَّنيَّة

13 ربيع الثَّاني 1447هـ

 

الحَمدُ للَّهِ الذي أنعَمَ على أهلِ الإيمانِ بالإيمانِ، وعلى أهلِ السُّنَّةِ بالسُّنَّةِ، فهَداهُم للحَقِّ، وثَبَّتَهم على الصِّراطِ المُستَقيمِ، ووفَّقَهم لاتِّباعِ كِتابِه وسُنَّةِ نَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على فَهمِ سَلَفِ الأُمَّةِ، لا يُحَرِّفونَ النُّصوصَ، ولا يُقدِّمونَ العُقولَ على الوحيِ، ولا يُخالِفونَ ما أجمَعَ عليه السَّلَفُ، وصَلَّى اللهُ على نَبيِّنا مُحَمَّدٍ، الذي بَلَّغَ الرِّسالةَ، وأدَّى الأمانةَ، ونَصَحَ الأُمَّةَ، وتَرَكَها على البَيضاءِ، لَيلُها كَنَهارِها لا يَزيغُ عَنها إلَّا هالِكٌ، وعلى آلِه الأطهارِ، وصَحابَتِه الأخيارِ، ومَن تَبِعَهم بإحسانٍ واقتَفى أثَرَهم إلى يَومِ الدِّينِ.

أمَّا بَعدُ:

فإنَّ مُصطَلَحَ (أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ) مُصطَلحٌ شرعيٌّ، دَلَّت عليه النُّصوصُ، واشتَهَر في كلامِ الأئِمَّةِ، وهو لقبٌ لا يَسعَدُ به إلَّا من التزم السُّنَّةَ تمسُّكًا واتِّباعًا، ولَزِم الجماعةَ اعتقادًا وافتراقًا عن أهلِ الأهواءِ والبِدَعِ. وأحقُّ النَّاسِ بهذا الاسمِ هم الصَّحابةُ والتَّابعون ومن سار على طريقتِهم مِن سَلَفِ الأمَّةِ، ولا يجوزُ إطلاقُه على من لا يستحقُّه.

وقد نازع متأخِّرو الأشاعِرةِ في هذا المُصطَلَحِ، فادَّعَوه لأنفُسِهم، وسعَوا إلى سَلبِه ممَّن هم أحقُّ به وأليقُ بهم وصفًا وواقِعًا، ومِنَ السَّهلِ أن يَدَّعيَ أيُّ مُدَّعٍ دَعوى، ومِن أعجَبِ دَعاوى هذا الزَّمَنِ دَعوى انتِسابِ الأشاعِرةِ إلى أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ وهُم يُخالِفونَهم فيما أجمَعوا عليه مُخالَفةً صَريحةً!     

وقد جاء هذا المقالُ ليَتَناولَ هذه الدَّعوى بميزانِ التَّحقيقِ والإنصافِ(2)، ويَعرِضَها على مَوازينِ العِلمِ التي لا يَختَلِفُ عليها عاقِلانِ، ولا يَتَنازَعُ فيها مُنصِفانِ؛ ليُبَيِّنَ وجهَ الحَقِّ فيها، ويُمَيِّزَ بَينَ ما هو مَنهَجٌ سَلَفيٌّ راسِخٌ، وما هو انتِسابٌ وادعاءٌ لا يَقومُ على بُرهانٍ.

فأهلُ السُّنَّةِ والجَماعةِ هُمُ السَّلَفُ الصَّالِحُ: الصَّحابةُ رِضوانُ اللهِ عليهم والتَّابِعونَ وتابِعو التَّابِعينَ، هؤلاء هُمُ السَّلَفُ في المقامِ الأوَّلِ، ولا يُمكِنُ لأحَدٍ إنكارُ ذلك لا الأشاعرةُ ولا غيرُهم، فهُم أهلُ القُرونِ الأولى المُفَضَّلةِ التي قال عَنهُم رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((خَيرُ النَّاسِ قَرني، ثُمَّ الذينَ يَلونَهم، ثُمَّ الذينَ يَلونَهم))(3)، فإن لَم يَكُنْ هؤلاء هُم أهلَ السُّنَّةِ والجَماعةِ، فمَن يَكونونَ إذًا؟!

وعليه، فمَن وافَقَهم استَحَقَّ اسمَ "أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ"، ومَن خالَفَهم وخالَفَ ما أجمَعوا عليه فهو دَعيٌّ، مَهما زَعَمَ، وأبرَق وأرعَد.

فليس مِنَ العَدلِ ولا الإنصافِ أن يُنسَبَ إلى السَّلَفِ مَن خالَفَهم في أُصولِهم ومُعتَقداتِهم، فدَعوى انتِسابِ الأشاعِرةِ إلى مَنهَجِ السَّلَفِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ -مَعَ ما في مَذهَبِهم مِن مُخالَفةٍ صَريحةٍ لما أجمَعَ عليه الصَّحابةُ والتَّابِعونَ وأئِمَّةُ الدِّينِ- ليْستْ إلَّا دَعوى مُجَرَّدةً، عاريةً عن البُرهانِ، لا تَقومُ على بَيِّنةٍ، ولا يُسنِدُها نَقلٌ صَحيحٌ، ولا فهمٌ مُستَقيمٌ.

ولا تَزالُ هذه الدَّعوى تُرَدَّدُ في أوساطِهم العِلميَّةِ، ولا يَزالونَ يُؤَلِّفونَ الكُتُبَ، ويُلقونَ الخُطَبَ والدُّروسَ والمُحاضَراتِ، ويُقيمونَ المُؤتَمَراتِ؛ ليُثبِتوا لأتباعِهم وللعامَّةِ أنَّهم هُم وحدَهم أهلُ السُّنَّةِ والجَماعةِ رَغمَ مُخالَفَتِهم لأُصولٍ أجمَعَ عليها أهلُ السُّنَّةِ والجَماعةِ!!.

 فالأشاعِرةُ يُخالِفونَ السَّلَفَ في مَسائِلَ عَديدةٍ مِن مَسائِلِ التَّوحيدِ والعَقيدةِ، وقدِ اختَرتُ ثَلاثًا مِن أبرَزِ تلك المَسائِلِ لإخضاعِها لميزانِ العَدلِ والإنصافِ، ولأدلَّةِ الكتابِ والسُّنَّةِ وإجماعِ السَّلَفِ، وهيَ: مَسألةُ الإيمانِ، ومَسألةُ عُلوِّ اللهِ تعالى، ومَسألةُ كَلامِه سُبحانَه؛ لكَونِها مِن أظهَرِ المَسائِلِ التي وقَعَ فيها الخِلافُ بَينَهم وبَينَ مَن مَضى مِنَ القُرونِ المُفَضَّلةِ.

وسيَتَبَيَّنُ للقارِئِ المُنصِفِ -مِن خِلالِ نُصوصِ الكِتابِ والسُّنَّةِ، وإجماعِ السَّلَفِ مِن أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ، وأقوالِ أئِمَّتِهمُ الرَّاسِخينَ في العِلمِ- مِقدارُ التَّبايُنِ الواضِحِ بين ما قرَّره هؤلاء الأئمةُ الربَّانيون وبَينَ ما قَرَّرَه أئِمَّةُ الأشاعِرةِ في كُتُبِهمُ المُعتَمَدةِ التي تُدَرَّسُ ويُقَرَّرُ مَضمونُها في حَلَقاتِهمُ العِلميَّةِ لَيلًا ونَهارًا. وسيَظهَرُ له أنَّ بَينَ المَنهَجَينِ تَبايُنًا لا يَقبَلُ الجَمعَ، ولا يُمكِنُ التَّوفيقُ بَينَهما.

فدَعوى الانتِسابِ إلى السَّلَفِ لا تُقبَلُ بمُجَرَّدِ الادِّعاءِ، فكيف يَصِحُّ في ميزانِ العَدلِ والإنصافِ أن يَكونَ مَن خالَفَ إجماعَ السَّلَفِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ أحَقَّ بهذا الاسمِ، ومَن وافَقَهم لا يُنسَبُ إلَيهم؟ هذا قَلبٌ للحَقائِقِ، ومُفارَقةٌ لا يَقبَلُها عَقلٌ، ولا يُقِرُّها نَقلٌ، ولا يَقولُ بها إلَّا مَنِ اختَلَّ في قَلبِه ميزانُ الفَهمِ!

وقد كَتَبتُ هذا نُصحًا وبَيانًا للمسلمين، ورَغبةً في جَمعِ الكَلِمةِ على الحَقِّ، ورَدِّ النَّاسِ إلى مَنهَجِ السَّلَفِ الذي هو الصِّراطُ المُستَقيمُ، الذي لا نَجاةَ إلَّا بسُلوكِه.

أولًا: مسألةُ الإيمانِ

يعتقدُ الأشاعِرةُ أنَّ الإيمانَ هو التَّصْديقُ فحسب، وهذا خِلافُ ما أجمَعَ عليه السَّلَفُ أهلُ السُّنَّةِ والجَماعةِ، وفيما يَلي أقوالُ علمائهم وأئمتِهم من كُتُبِهم المعتمدةِ عِندهم، ثُمَّ ذِكرُ الأدِلَّةِ مِنَ الكِتابِ والسُّنَّةِ والإجماعِ التي تُخالفُ ما هم عليه:

(أ) أقوالُ علماءِ الأشاعِرةِ وأئمتِهم في مسألةِ الإيمانِ

1- قال أبو بكرٍ الباقِلَّانيُّ (403هـ): (الإيمانُ باللهِ عَزَّ وجَلَّ هو: التَّصْديقُ بالقَلْبِ...)(4).

2- وقال الجُوَيْنيُّ (478هـ): (حَقيقةَ الإيمانِ التَّصْديقُ باللهِ تَعالى، فالمُؤمِنُ باللهِ مَن صَدَّقَه)(5).

3- وقال الشَّهْرَسْتانيُّ (548هـ): (الإيمانُ هو التَّصْديقُ بالجَنانِ. وأمَّا القَوْلُ باللِّسانِ والعَمَلُ بالأرْكانِ ففُروعُه)(6).

4- وقال الغَزاليُّ (505هـ): (الإيمانُ هو التَّصْديقُ المَحْضُ)(7).

5- وقال الآمِديُّ (631هـ): (الإيمانَ باللهِ تَعالى هو تَصْديقُ القَلْبِ به)(8).

وجميعُ علماءِ الأشاعرةِ المعاصرينَ اليومَ يعتقدون أنَّ الإيمانَ هو التَّصْديقُ.

(ب) الأدِلَّةُ مِن كِتابِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ على أنَّ الإيمانَ قَولٌ وعَمَلٌ

قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} (البقرة: 143)، والمَعنى: لا يُضِيعُ صَلاتَهمُ التي كانوا يُصَلُّونَها تِجاهَ بَيتِ المَقدِسِ، وهذا قَولُ عامَّةِ المُفَسِّرينَ، وبوَّب له البُخاريُّ: (بَاب الصَّلَاة مِنْ الْإِيمَانِ، وَقَوْلُ اللَّهِ تعالى {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} يَعْنِي صَلَاتَكُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ).

وقال الإمامُ أحمَدُ: جَعَلَ صَلاتَهم إيمانًا، فالصَّلاةُ مِنَ الإيمانِ(9).

(ج) الأدِلَّةُ مِنَ السُّنَّةِ:

1- عن أبي هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنهُ رَضيَ اللهُ عنهُ قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((الإيمانُ بِضعٌ وسَبعون أو بِضعٌ وسِتُّون شُعبةً، فأفضَلُها قَولُ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأدناها إماطةُ الأذى عن الطَّريقِ، والحياءُ شُعبةٌ مِن الإيمانِ))(10)

فالإيمانُ هُنا قَولٌ وعَمَلٌ، وليس مُجَرَّدَ التَّصديقِ، حيثُ جَعَل قَولَ اللِّسان: (لا إلهَ إلَّا اللهُ) إيمانًا، وجَعَل عمَلَ الجوارحِ (إماطةُ الأذى عن الطَّريقِ) إيمانًا، وكذا الحياءُ جَعَلَه من الإيمانِ، وهو مِن عَمَلِ القَلبِ.

2- وعَن أنَسِ بنِ مالكٍ رَضيَ اللهُ عنهُ قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:) (لَا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ، حتَّى يُحِبَّ لأخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ))(11). فسمَّى الحبَّ إيمانًا، وهو مِن عَمَلِ القَلبِ.

(د) إجماعُ السَّلَفِ على أنَّ الإيمانَ قَولٌ وعَمَلٌ

1- قال يحيى بنُ سَعيدٍ القَطَّانُ (198هـ): (كُلُّ مَن أدركتُ مِن الأئِمَّةِ كانوا يقولون: الإيمان قَولٌ وعَمَلٌ، يَزيدُ ويَنقُصُ)(12).

2- وقال أحمَدُ بنُ حَنبلٍ (241هـ): (الإيمانُ قَولٌ وعَمَلٌ يَزيدُ ويَنقُصُ ... هذا ما اجتمع عليه السَّلَفُ من العُلَماءِ في الآفاقِ)(13).

3- وقال البُخاريُّ (256هـ): (لقيتُ أكثَرَ مِن ألْفِ رجُلٍ مِن العُلَماءِ بالأمصارِ، فما رأيتُ أحدًا يختَلِفُ في أنَّ الإيمانُ قَولٌ وعَمَلٌ، ويَزيدُ ويَنقُصُ)(14).

4- وقال ابنُ عبدِ البَرِّ (463هـ): (أجمَعَ أهلُ الفِقهِ والحديثِ على أنَّ الإيمانَ قَولٌ وعَمَلٌ، ولا عَمَلَ إلَّا بنِيَّةٍ، والإيمانُ عندَهم يَزيدُ بالطَّاعةِ، ويَنقُصُ بالمعصيةِ)(15).

هذا مُعتَقَدُ السَّلَفِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ في الإيمانِ، وهو ما أجمعَوا عليه. أمَّا الأشاعرةُ فعندهم الإيمانَ هو التَّصْديقُ بالقَلْبِ فحَسبُ، وبهذا يَكونون قد خالَفوا إجماعَ السَّلَفِ، فكَيفَ تَصِحُّ نِسبَتُهم إليهم؟!.

ثانيًا: صِفةُ العُلُوِّ والفَوقيَّةِ للهِ تعالى

إنَّ مِن أعظَمِ المسائِلِ الَّتي خالفَ فيها الأشاعِرةُ مذهَبَ السَّلفِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ: صفةَ عُلوِّ اللهِ تعالى؛ فأهلُ السُّنَّةِ والجَماعةِ قاطِبةً يُثبِتونَ للَّهِ العُلوَّ، ويَعتَقِدونَ أنَّه في السَّماءِ، بَل عَوامُّ النَّاسِ ذَوي الفِطَرِ السَّليمةِ يَعتَقِدونَ ذلك، أمَّا الأشاعِرةُ فقدِ ابتَدَعوا قَولًا لَم يَقُلْ به أحَدٌ قَبلَهم، وهو أنَّه سُبحانَه لا داخِلَ العالَمِ ولا خارِجَه، ولا فوقَ ولا تحتَ.

وهنا سَأنقُلُ أقوالَ أئِمَّةِ الأشاعِرةِ في إنكارِ عُلوِّ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، وإنكارِ أنَّه في السَّماءِ، وذلك مِن كُتُبِهمُ المُعتَمَدةِ عِندَهم، ثُمَّ سَأسرُدُ الأدِلَّةَ مِنَ الكِتابِ والسُّنَّةِ والإجماعِ على إثباتِ العُلوِّ للَّهِ عَزَّ وجَلَّ وأنَّه في السَّماءِ سُبحانَه وتَجَلَّت أسماؤُه، وسيَكتَشِفُ القارِئُ بنَفسِه البَونَ الشَّاسِعَ بَينَ عَقيدةِ ومَنهَجِ السَّلَفِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ حَقًّا وعَقيدةِ الأشاعِرةِ.

(أ) أقوالُ أئمَّةِ الأشاعرةِ في صِفةِ العُلُوِّ والفَوقيَّةِ للهِ تعالى

1- قال القُشَيْريُّ (465هـ) عن الله تبارك وتعالى: (لا له جِهةٌ ولا مَكانٌ، ولا يَجْري عليه وَقْتٌ وزَمانٌ)(16).

وقال في تَفْسيرِ قَوْلِ الله تَعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} [الملك: 16]: ({مَنْ فِي السَّمَاءِ}: أرادَ بهم المَلائِكةَ الَّذين يَسكُنونَ السَّماءَ!)(17).

2- وقال الغَزاليُّ (505هـ): (أَدِلَّةُ العُقولِ دَلَّت على اسْتِحالةِ المَكانِ، والجِهةِ ... على الله سُبْحانَه؛ فوَجَبَ التَّأويلُ بأَدِلَّةِ العُقولِ)(18).

3- وقال الفَخرُ الرَّازيُّ (606هـ): (الباري سُبحانَه وتعالى موجودٌ لا داخِلَ العالَمِ ولا خارِجًا عنه، ولا متَّصِلًا بالعالَمِ ولا منفَصِلًا عنه)(19).

4- وقال الجُرْجانيُّ (816هـ): (اللهُ تعالى ليس في جهةٍ من الجِهاتِ ولا في مكانٍ من الأمكِنةِ)(20).

5- وقال سعيد فودة (معاصر): (العُلُوُّ الثَّابِتُ للهِ عندَ أهلِ الحَقِّ ليس على طريقِ كَونِ اللهِ في جِهةِ العُلُوِّ، أي: عاليًا على خَلقِه بالمسافةِ؛ لأنَّ هذا لا يكونُ إلَّا بينَ الأجسامِ)(21).

وقال أيضًا: (كَذَب مَن قال: إنَّ اللهَ تعالى في جِهةِ الفَوقِ، مدَّعيًا أنَّ الفَوقَ أشرَفُ الجِهاتِ)(22).

هذه أقوالُهم عن عُلوِّ اللهِ عَزَّ وجَلَّ وفَوقيَّتِه، وهذه عَقيدَتُهم، فهُم يُنكِرونَ أنَّ اللهَ فوقَ مَخلوقاتِه وأنَّه في السَّماءِ، ولا يوجَدُ أشعَريٌّ واحِدٌ يَعتَقِدُ ذلك رَغمَ استِفاضةِ الأدِلَّةِ مِنَ الكِتابِ والسُّنَّةِ وكَثرةِ أقوال السَّلَفِ في ذلك ووُضوحِها وُضوحَ الشَّمسِ في رائِعةِ النَّهارِ.

(ب) أدِلَّةُ عُلوِّ اللهِ على خَلقِه وأنَّه في السَّماءِ مِن كِتابِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ

لا توجَدُ صِفةٌ مِن صِفاتِ اللهِ تعالى ذُكِرَت في القُرآنِ الكَريمِ كَما ذُكِرَت صِفةُ العُلوِّ، وبآياتٍ واضِحاتٍ صَريحاتٍ وبألفاظٍ مُختَلِفةٍ تُعَبِّرُ عَنِ العُلوِّ والفَوقيَّةِ؛ فتارةً الرَّفعُ والعُروجُ والصُّعودُ إليه، وتارةً النُّزولُ والهُبوطُ مِنهُ، وأصرَحُ مِن ذلك كُلِّه أنَّه سُبحانَه في السَّماءِ، وفي القُرآنِ الكَريمِ عَشَراتُ الآياتِ التي تَدُلُّ على عُلوِّ اللهِ وفَوقيَّتِه، وأنَّه سُبحانَه في السَّماءِ، ثُمَّ يُنكِرُ الأشاعِرةُ كُلَّ ذلك!

وسأكتفي هنا بثلاث آيات فقط:

1- قول الله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} (الملك: 16).

2- وقوله: { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]

3- {وَآَمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ} [البقرة: 41]

وفي القُرآنِ الكَريمِ أكثَرُ مِن مِئةِ آيةٍ ذَكَرَت أنَّه نَزَلَ مِن عِندِ اللهِ (نَزَلَ، وأنزَلنا، ونَزَّلَ، وأنزَلناهُ، وأُنزِلَت....)، وفي سورةِ البَقَرةِ وحدَها عِشرونَ آيةً.

(ج) الأدِلَّةُ مِنَ السُّنَّةِ:

1- عن أبي سَعيدٍ الخُدريِّ رَضيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ألا تَأمَنونِي وأنا أمينُ مَن في السَّماءِ، يَأتِينِي خَبَرُ السَّمَاءِ صَباحًا ومَساءً...)).

2- حَديثُ مُعاويةَ بنِ الحَكَمِ السُّلَميِّ رَضيَ اللهُ عنهُ، وفيه أنَّه ضَرَبَ جاريةً لَه فأرادَ أن يُعتِقَها: (... فأتَيْتُ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ فَعَظَّمَ ذلكَ عَلَيَّ، قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، أفلا أُعْتِقُهَا؟ قالَ: ائْتِنِي بهَا فأتَيْتُهُ بهَا، فَقالَ لَهَا: أيْنَ اللَّهُ؟ قالَتْ: في السَّمَاءِ، قالَ: مَن أنَا؟ قالَتْ: أنْتَ رَسولُ اللهِ، قالَ: أعْتِقْهَا، فإنَّهَا مُؤْمِنَةٌ.([23])(

4- عن أنَسٍ رَضيَ اللهُ عنه رَضيَ اللهُ عنه، قال: ((...فكانت زينبُ تَفخَرُ على أزواجِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، تقولُ: زوَّجكنَّ أهاليكنَّ، وزوَّجني اللهُ تعالى من فوقِ سَبعِ سَمواتٍ))(25).

هل هناك ما هو أصرحُ من هذه الأحاديث لإثباتِ أنَّ الله في السَّماء؟! ولو لم يَكُنْ إلَّا رَفعُ اليَدَينِ إلى السَّماءِ عِندَ الدُّعاءِ لَكَفى دَليلًا؛ لأنَّ الدُّعاءَ عِبادةٌ لا تُصرَفُ وتُوَجَّهُ إلَّا إلى اللهِ عَزَّ وجَلَّ(26)، وأدِلَّةُ السُّنَّةِ في رَفعِ اليَدَينِ إلى السَّماءِ كَثيرةٌ لا تُحصى.

(د) إجماعُ عُلَماءِ السَّلَفِ على عُلُوِّ اللهِ وفوقيَّتِه، وأنَّه سُبحانَه في السَّماءِ

1- قال الإمامُ عُثمانُ بنُ سَعيدٍ الدَّارِميُّ (280هـ): (وقد اتَّفَقَتِ الكَلِمةُ مِنَ المُسلِمينَ والكافِرينَ أنَّ اللهَ في السَّماءِ)(27).

2- وقال الحافِظُ أبو نُعَيمٍ الأصبهانيُّ (ت:430هـ) في كتابِه «الاعتقاد»: (طريقتُنا طريقةُ السَّلَفِ المتَّبِعينَ للكِتابِ والسُّنَّةِ وإجماعِ الأمَّةِ، وممَّا اعتقدوه: ... أنَّ اللهَ بائنٌ مِن خَلقِه، والخَلقُ بائنون منه، لا يَحُلُّ فيهم ولا يمتزِجُ بهم، وهو مستوٍ على عرشِه في سمائِه من دونِ أرضِه)(27).

3- وقال ابنُ عبدِ البَرِّ (463هـ) بعدَ ذِكرِ حديثِ النُّزولِ: (فيه دليلٌ على أنَّ اللهَ عزَّ وجَلَّ في السَّماءِ على العرشِ من فوقِ سَبعِ سَمواتٍ، كما قالت الجماعـةُ)(28).

هؤلاء هُمُ سَلَفُ هذه الأُمَّةِ مِنَ الصَّحابةِ والتَّابِعينَ وأتباعِ التَّابِعينَ، ولا يُنكِرُ أحَدٌ أنَّهم هُم أهلُ السُّنَّةِ والجَماعةِ، ليس أحَدٌ مِنهُم إلَّا ويُثبِتُ للَّهِ العُلوَّ وأنَّه في السَّماءِ بذاتِه، فهَل يَستَطيعُ أشعَريٌّ واحِدٌ أن يَأتيَ بقَولٍ واحِدٍ لأحَدٍ مِنهُم يُنكِرُ فيه عُلوَّ اللهِ سُبحانَه وتَعالى، ويَنفي أنَّه في السَّماءِ بذاتِه؟!

فكَيفَ يَنسُبونَ أنفُسَهم للسَّلَفِ ولأهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ وهُم قد خالَفوا أهلَ السُّنَّةِ والجَماعةِ، بل خالَفوا إجماعَهم؟! هذه مُغالَطةٌ ومُكابَرةٌ، ولِلأسَفِ انطَلَت على بَعضِ مَن لا عِلمَ عِندَه بأقوالِ السَّلَفِ.

ثالثًا: صِفةُ الكَلامِ للهِ عزَّ وجَلَّ

تَفَرَّدَ الأشاعِرةُ بإثْباتِ الكَلامِ النَّفْسيِّ للهِ سُبْحانَه وتعالى، ولا يُثبِتونَ ما أثْبَتَه أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ مِن أنَّ اللهَ يَتَكلَّمُ متى شاءَ بصَوْتٍ وحَرْفٍ، بلْ كَلامُه سُبْحانَه عنْدَ الأشاعرةِ بلا صوتٍ يُسمع ولا حرفٍ يقرأ.!

وهنا سَأنقُلُ أقوالَ أئِمَّةِ الأشاعِرةِ في صِفةِ الكَلامِ للهِ عَزَّ وجَلَّ مِن كُتُبِهم، ثُمَّ سَأسرُدُ الأدِلَّةَ مِنَ الكِتابِ والسُّنَّةِ والإجماعِ على إثباتِ هذه الصِّفةِ للَّهِ سُبحانَه وتَعالى، وسيكتَشِفُ القارِئُ بنَفسِه البَونَ الشَّاسِعَ بَينَ أقوالِ السَّلَفِ ومُعتَقَدِهم في كلامِ الله وأقوالِ الأشاعِرةِ ومُعتَقدِهم.

(أ) أقوالُ أئمَّةِ الأشاعرةِ في صِفةِ كَلامِ الله

1- قال الباقِلَّانيُّ (403هـ): (يَجِبُ أن يُعلَمَ أنَّ اللهَ تَعالى لا يَتَّصِفُ كَلامُه القَديمُ بالحُروفِ والأصْواتِ)(30).

2- وقال طاهِرُ بنُ مُحَمَّدٍ الأسْفَرايِينيُّ (429هـ): (كَلامُ اللهِ تَعالى ليس بحَرْفٍ ولا صَوْتٍ)(31).

3- وقال أبو المَعالي الجُوَيْنيُّ (478هـ): (الكَلامَ عنْدَ أهْلِ الحَقِّ مَعنًى قائْمٌ بالنَّفْسِ ليس بحَرْفٍ ولا صَوْتٍ)(32).

4- وقال أبو حامِدٍ الغَزاليُّ (505هـ): (موسى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سَمِعَ كَلامَ اللهِ بغَيْرِ صَوْتٍ ولا حَرْفٍ(33)!)(34).

5- وقال الفَخْرُ الرَّازيُّ (606هـ) عن كلامِ الله عزَّ وجلَّ: (وهو ليس بحَرْفٍ ولا صَوْتٍ)(35).

6- وقال الآمِدِيُّ (631هـ): (مَعْنى كَوْنِه مُتَكلِّمًا عنْدَ أصْحابِنا: أنَّه قامَ بذاتِه كَلامٌ، قَديمٌ، أزَلِيٌّ نَفْسانيٌّ، أَحَديٌّ الذَّاتِ، ليس بحُروفٍ، ولا أصْواتٍ)(36).

7- وقال الصَّاويُّ (1241هـ): (تَكْليمُ اللهِ لموسى على الجَبَلِ كان بالكَلامِ النَّفْسيِّ على التَّحْقيقِ عنْدَ الأشاعِرةِ)([36]).

هذه هي أقوالُ أئمَّةِ الأشاعرةِ ومُعتقَدُهم أنَّ كلامَ اللهِ كلامٌ نَفسيٌّ، ليس بحَرفٍ يُكتَبُ، ولا صَوتٍ يُسمَعُ، وهذا الكَلامُ لا يَقولُه ولا بحَرفٍ واحِدٍ مِنهُ أحَدٌ مِنَ السَّلَفِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ وأصحابِ القُرونِ الثَّلاثةِ المُفَضَّلةِ مِنَ الصَّحابةِ والتَّابِعينَ وأتباعِ التَّابِعينَ، فهَل يَصِحُّ بَعدَ ذلك أن يَنسُبَ الأشاعِرةُ أنفُسَهم لَهم وهُم لا يوافِقونَهم ولا في حَرفٍ واحِدٍ مِن كَلامِهم في صِفةٍ مِن أعظَمِ صِفاتِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، بَلِ السَّلَفُ على النَّقيضِ مِن ذلك كُلِّه؟!

ثانيًا: الأدِلَّةُ مِنَ الكِتابِ والسُّنَّةِ والإجماع على أنَّ اللهَ يَتَكَلَّمُ بصَوتٍ مَسموعٍ وحَرفٍ مَقروءٍ

الأدِلَّةُ مِنَ الكِتابِ والسُّنَّةِ على أنَّ اللهَ يَتَكَلَّمُ بصَوتٍ مَسموعٍ كَثيرةٌ جِدًّا، وجاءَت بألفاظٍ مُتَعَدِّدةٍ؛ فتارةً بالقَولِ، وتارةً بالنِّداءِ، وتارةً بالتَّكليمِ، وتارةً بالتَّحاوُرِ والسُّؤالِ والجَوابِ، وكُلُّها تَدُلُّ على أنَّ كَلامَ اللهِ مَسموعٌ.

أمَّا ما تَزعَمُه الأشاعِرةُ مِن أنَّ كَلامَ اللهِ كَلامٌ نَفسيٌّ، فهذا لا تَعرِفُه العَرَبُ، وما في النَّفسِ لا يُسَمَّى كَلامًا.

(أ) الأدِلَّةُ مِنَ الكِتابِ:

1- قال اللهُ تعالى: { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا} [النساء: 164].

2- قال اللهُ تعالى: { وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ} [البقرة: 75].

3- قال اللهُ تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة: 6].

والآياتُ كثيرةٌ جدًا تجدْها في الأصْل.

(ب) الأدِلَّةُ مِنَ السُّنَّةِ:

مِن أصرَحِ الأدِلَّةِ التي تُفَرِّقُ بَينَ الكَلامِ والحَديثِ النَّفسيِّ ما رَواهُ أبو هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه، عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قَالَ: «إنَّ اللهَ تجاوَزَ عن أمَّتي ما حدَّثَت به أنفُسَها ما لم تعمَلْ أو تتكَلَّمْ»([37]).

وفيه التَّفريقُ بَينَ الحَديثِ النَّفسيِّ والكَلامِ، وأنَّ الحَديثَ النَّفسيَّ ليس بكَلامٍ، ولا يُحاسَبُ المَرءُ عليه.

ومِن أدِلَّةِ التَّفريقِ بَينَ الكَلامِ والحَديثِ النَّفسيِّ -أو ما يُسَمِّيه الأشاعِرةُ الكَلامَ النَّفسيَّ- قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «إنَّ هذه الصَّلاةَ لا يَصلُحُ فيها شَيءٌ مِن كَلامِ النَّاسِ، إنَّما هو التَّسبيحُ والتَّكبيرُ وقِراءةُ القُرآنِ»([38]).، فالكَلامُ يُبطِلُ الصَّلاةَ، لَكِنَّ حَديثَ النَّفسِ لا يُبطِلُها؛ فدَلَّ ذلك على التَّفريقِ بَينَهما.

1- عن أبي هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه، وفيه: «...فيأتيهم اللهُ فيقولُ: أنا ربُّكم، فيقولون: هذا مكانُنا حتَّى يأتيَنا ربُّنا، فإذا جاء ربُّنا عرَفْناه، فيأتيهم اللهُ فيقولُ: أنا ربُّكم، فيقولون أنت ربُّنا، فيدعوهم فيُضرَبُ الصِّراطُ بَينَ ظَهرانَي جَهنَّمَ... الحديث» ([39]).

وهذا الجَوابُ مِنهُم بقَولِهم: أنتَ رَبُّنا، دَليلٌ صَريحٌ على أنَّهم سَمِعوا رَبَّهم سُبحانَه وهو يَقولُ لَهم: أنا رَبُّكُم.

2- وعَنه رَضيَ اللهُ عنهُ أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «يتعاقَبون فيكم ملائِكةٌ باللَّيلِ وملائكةٌ بالنَّهارِ، ويجتَمِعون في صلاةِ العَصرِ وصلاةِ الفَجرِ، ثمَّ يَعرُجُ الذين باتوا فيكم فيسألُهم وهو أعلَمُ بكم، فيقولُ: كيف تركتُم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يُصَلُّون، وأتيناهم وهم يُصَلُّون».

وهذا دَليلٌ صَريحٌ على أنَّ المَلائِكةَ سَمِعوا رَبَّهم وهو يَسألُهم: كَيفَ تَرَكتُم عِبادي؟ فقالوا: تَرَكناهُم وهُم يُصَلُّونَ...

وفيه دَليلٌ على أنَّ هذا في وقتٍ مُعَيَّنٍ حادِثٍ، وهذا ما تُنكِرُه الأشاعِرةُ!!

3- وعَن أبي سَعيدٍ الخُدريِّ رَضيَ اللهُ عنهُ عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «يَقولُ اللهُ تَعالى يا آدَمُ، فيَقولُ: لَبَّيكَ، وسَعدَيكَ، والخَيرُ في يَدَيكَ. فيَقولُ: أخرِجْ بَعثَ النَّارِ، قال: وما بَعثُ النَّارِ؟ قال: مِن كُلِّ ألفٍ تِسعَمِائةٍ وتِسعةً وتِسعينَ... الحَديثَ»(42).

وهُنا خِطابٌ مِنَ اللهِ وأمرٌ مِنهُ لآدَمَ عليه السَّلامُ دونَ واسِطةٍ، سَمِعَه آدَمُ فاستَفسَرَ مِن رَبِّه، وأجابَه رَبُّه سُبحانَه وتَعالى بما يَليقُ به.

والأحاديثُ كثيرةٌ جدًا تجدْها في الأصْل.

(ج) الأدِلَّةُ مِنَ الإجماعِ:

1- قال أبو نَصرٍ السِّجزيُّ (444هـ): (الإجماعُ مُنعَقِدٌ بَينَ العُقَلاءِ على كَونِ الكَلامِ حَرفًا وصَوتًا)(43).

2- وقال قِوَامُ السُّنَّةِ (535هـ): (مَذهَبُ أهلِ السُّنَّةِ جَميعًا أنَّ القُرآنَ كَلامُ اللهِ آيةً آيةً، وكَلِمةً كَلِمةً، وحَرفًا حَرفًا في جَميعِ أحوالِه، حيثُ قُرِئَ وكُتِبَ وسُمِعَ)([43]).

3- وقال الموفَّقُ ابنُ قُدامةَ (620هـ): (فإن قيلَ: فما الدَّلالةُ على الصَّوتِ في كَلامِ اللهِ تَعالى؟ قُلنا: الكِتابُ والسُّنَّةُ والإجماعُ ... وأمَّا الإجماعُ: فإنَّنا أجمَعنا على أنَّ موسى سَمِعَ كَلامَ اللهِ تَعالى مِنهُ بغَيرِ واسِطةٍ، والصَّوتُ هو ما سُمِعَ)(45)

وبِهذا يَتَبيَّنُ بوُضوحٍ أنَّ اللهَ سُبْحانَه قدْ تَكلَّمَ بالقُرْآنِ بحُروفِه، وسَمِعَه مِنه جِبْريلُ عليه السَّلامُ، وأَسمَعَه جِبْريلُ مُحَمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأَسمَعَه مُحَمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أُمَّتَه، هذا هو مَذهَبُ السَّلَفِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ، وقد تَقدَّمَتِ الأدِلَّةُ مِنَ الكِتابِ والسُّنَّةِ وإجماعِ السَّلَفِ على ذلك. أمَّا الأشاعِرةُ فقد خالَفوا ذلك كُلَّه، فوَصَفوا اللهَ بالكَلامِ النَّفسيِّ الذي ابْتَدَعوا القَوْلَ به ولم يقلْ به أحدٌ قبلهم، وأنكَروا أن يَتَكَلَّمَ اللهُ بصَوتٍ مَسموعٍ، وأنكَروا الحَرفَ، فخالَفوا بذلك أدِلَّةَ القُرآنِ والسُّنَّةِ، وما أجمع عليه السَّلَفُ الصَّالحُ أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ.

*******

الخُلاصَةُ

وبَعدَ هذا العَرضِ المُوجَزِ، والنَّقلِ الموَثَّقِ، يتبَيَّنُ للقارئِ المنصِفِ أنَّ دعوى انتسابِ الأشاعرةِ لمنهَجِ السَّلَفِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ لا تصِحُّ عندَ التَّحقيقِ، بل هي دعوى تصطَدِمُ بصريحِ النَّقلِ، وتُناقِضُ إجماعَ السَّلَفِ، وتُخالِفُ أصولَهم التي أجمعوا عليها، لا سيَّما في مسائِلِ الإيمانِ، وعُلُوِّ اللهِ على خَلقِه، وكلامِه سُبحانَه.

أقولُ هذا بيانًا للحَقِّ، ونُصحًا لمن ألقى السَّمعَ وهو شهيدٌ. فإنَّ الحَقَّ إنَّما يُعرَفُ بالدَّليلِ -والأدِلَّةُ بَينَ يديك-، ولا يُنالُ بالانتسابِ والادِّعاءِ، بل بالاتِّباعِ والاهتداءِ.

فاتَّقوا اللهَ في أصولِ دينِكم، وانظُروا في عقيدةِ سَلَفِ هذه الأمَّةِ من الصَّحابةِ والتَّابعينَ وأئمَّةِ القُرونِ المفضَّلةِ؛ فإنَّهم ما خاضوا في الكلامِ، ولا حرَّفوا الصِّفاتِ، ولا أرجؤوا في الإيمانِ، بل آمَنوا باللهِ على ما وَصَف به نفسَه، وأثبتوا ما أثبَتَه لنفسِه من غيرِ تفويضٍ ولا تأويلٍ ولا تعطيلٍ، ومن غيرِ تمثيلٍ ولا تكييفٍ.

فأيُّ طريقٍ أهدى من طريقِهم؟ وأيُّ فهمٍ أزكى من فَهمِهم؟ وأيُّ نورٍ أوضَحُ من نورِهم؟!

اللَّهمَّ اهدِنا وسائِرَ المسلِمين للحَقِّ، ووَفِّقْنا لاتِّباعِ سبيلِ المؤمنين،

واحشُرْنا مع الذين أنعَمتَ عليهم من النَّبيِّينَ والصِّدِّيقينَ والشُّهَداءِ والصَّالحين.

وصلَّى اللهُ وسَلَّم على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِه وصَحبِه أجمعين.

 

 

[1] أصل هذا المقال كتاب بعنوان: (نَقضُ دعوى انتِسابِ الأشاعِرةِ لأهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ بدلالةِ الكتابِ والسُّنَّةِ والإجماع) لتحميل الكتاب اضغط هنا

(2)  >ومن بابِ الإنصاف: القولُ بأنَّ منهم علماء شريعة لهم جهودٌ مشكورةٌ في شتَّى العلوم الشرعيَِة رغم خطئهم في بعض أبوابِ الاعتقاد وقد أوضحتُ الموقف منهم في مقال بعنوان: (عُلماءُ الأشاعِرةِ بَينَ جِنايةِ الغُلاةِ وواجِبِ الإنصافِ)

(3) أخرجه البخاري (6429)، ومسلم (2533) من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه.

(4) ((الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به)) (ص: 22).

(5) ((الإرشاد إلى قواطع الأدلَّة في أصول الاعتقاد)) (ص: 415).

(6)((المِلَل والنِّحَل)) (1/101).

(7)((قواعد العقائد)) (ص: 249).

(8) يُنظر: ((أبكار الأفكار في أصول الدين)) (5/9، 18).

(9) يُنظر: السنة للخلال (2/588).

(10) أخرجه البخاري (9) مختصرًا، ومسلم (35) واللفظ له.

(11) أخرجه البخاري (13) واللفظ له، ومسلم (45).

(12) يُنظر: ((سير أعلام النبلاء)) للذهبيِّ (9/179).

(13) يُنظر: ((مناقب الإمام أحمد)) لابن الجوزي (ص: 222-224).

(14) يُنظر: ((شرح اعتقاد أهل السنة)) للالكائيِّ (320).

(15) ((التمهيد)) (9/238)، ونقله عنه ابن تيميَّةَ. يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (7/330).

(16) ((الرسالة القُشَيْرية)) (1/32).

(17) ((لطائف الإشارات)) (3/614).

(18) ((تهافت الفَلاسِفة)) (ص: 293).

(19) ((المطالب العالية من العلم الإلهي)) (7/50).

(20)المصدر السابق: (3/32، 36).

(21) المصدر السابق: (ص: 276).

(22) ((الشرح الكبير على العقيدة الطحاوية)) (ص: 724).

(23) أخرجه البخاري (4351)، ومسلم (1064).

(24) أخرجه مسلم (537).

(25) أخرجه البخاري (7420).

(26) وَمِن طَرائِفِ بَعْضِ الأشاعِرةِ أَنَّهم لَمَّا حُوجِجُوا بِذَلِكَ، قالوا: إنَّ رَفْعَ الأيْدي في الدُّعاءِ إلى السَّماءِ؛ لأنَّها قِبْلةُ الدُّعاءِ لا لأنَّ الله في السَّماء!، كما أنَّ البَيْتَ قِبْلةُ الصَّلاةِ، فردَّ عليهم العمرانيُّ الشَّافعيُّ (558هـ) في كتابه ((الانتصار)) (2/609)، فقال: (وهذا تَمْويهٌ مِنه ومُعانَدةٌ لِما وَرَدَ به القُرْآنُ والسُّنَّةُ، وما عليه العُلَماءُ مِن الصَّحابةِ والتَّابِعينَ. وأمَّا قَوْلُه: إنَّ السَّماءَ قِبْلةُ الدُّعاءِ، فيُقالُ له: لو كانَ هذا كما قُلْتَ لم يَصِحَّ الدُّعاءُ إلَّا لِمَن تَوَجَّهَ بيَدَيه إلى السَّماءِ، كما لا تَصِحُّ الصَّلاةُ إلَّا لِمَن تَوَجَّهَ إلى الكَعْبةِ).

(27) ((نقض الإمام أبي سعيد على الجهمي العنيد)) (1/228).

(28) يُنظر: ((العلو للعلي الغفار)) للذهبي (ص: 243).

(29) ((التمهيد)) (7/129).

(30) المصدر السابق: (ص: 94).

(31) ((التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية عن الفرق الهالكين)) (ص: 167).

(32) المصدر السابق: (ص: 147).

(33)هذا تناقض! فكلُّ ما يُسمَعُ وتُدرِكه الآذان فهو صوتٌ.

(34) ((قواعد العقائد)) (ص: 59).

(35) ((الإشارة في علم الكلام)) (ص: 205).

(36) ((أبكار الأفكار في أصول الدين)) (1/353).

(37) ((شرح الصاوي على جوهرة التوحيد)) (ص: 183).

(38) أخرجه البخاري (5269) واللفظ له، ومسلم (127).

(39) أخرجه مسلم (537) من حديثِ مُعاويةَ بنِ الحَكَمِ السُّلَميِّ رَضِيَ اللهُ عنه.

(40) أخرجه البخاري (806) واللفظ له، ومسلم (182).

(41) أخرجه البخاري (7429) واللفظ له، ومسلم (632).

(42) أخرجه البخاري (3348) واللفظ له، ومسلم (2).

(43) ((رسالة السجزي إلى أهل زبيد)) (ص118).

(44) ((الحجة في بيان المحجة)) (1/370 - 373).

(45) ((البرهان في بيان القرآن)) (ص: 158).