مقالات وبحوث مميزة

عُلماءُ الأشاعِرةِ بَينَ جِنايةِ الغُلاةِ وواجِبِ الإنصافِ

علويُّ بنُ عبدِالقادِر السَّقَّاف

المشرفُ العام على مؤسَّسةِ الدُّررِ السَّنيَّة

4 ربيع الأول 1447هـ


 

الحَمدُ للَّهِ الذي أمَرَ بالعَدلِ والإحسانِ، ونَهى عَنِ البَغيِ والعُدوانِ، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة:8]، وأشهَدُ أن لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وحدَه لا شَريكَ لَه، وأشهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبدُه ورَسولُه، صَلَّى اللَّهُ عليه وعلى آلِه وصَحبِه أجمَعينَ.

أمَّا بعد:

فإنَّ الإنصافَ من العدْلِ الذي أمَرَ اللهُ به ورسولُه، وهو خُلُقٌ عَظيمٌ، وميزانٌ دَقيقٌ به يُعرَفُ فضلُ العُلَماءِ، وتُحفَظُ وَحدةُ الأُمَّةِ، وتُصانُ جُهودُ السَّابِقينَ مِنَ التَّبخيسِ والجُحودِ.

وإنَّ مِن تَمامِ العَدلِ والإنصافِ أن نَزِنَ الرِّجالَ بميزانِ الشَّريعةِ لا بميزانِ الهَوى، فنُثنيَ على ما وافَقوا فيه الحَقَّ، ونُبَيِّنَ ما أخطَؤوا فيه، مَعَ حِفظِ مَكانَتِهمُ العِلميَّةِ، فلا يَسقُطُ الحَقُّ لوُجودِ الباطِلِ، ولا يُقبَلُ الباطِلُ لِما عِندَهم مِنَ الحَقِّ.

هذا، وقد ابتُليَتِ السَّاحةُ العِلميَّةُ في السَّنَواتِ الأخيرةِ بآفةٍ خَطيرةٍ، وهيَ الغُلوُّ في التَّبديعِ والتَّضليلِ والتَّكفيرِ. ومِن أبرَزِ ما يَظهَرُ فيه هذا الخَلَلُ: المَوقِفُ مِنَ الأشاعِرةِ وعُلَمائِهم؛ إذ ظَهَرَت فِئةٌ تَجاوزَتِ الحَدَّ، فكَفَّرَتِ الأشاعِرةَ بإطلاقٍ، بَل وتَجَرَّأت على تَكفيرِ أعيانِهم وتَضليلِ علمائهم الذينَ لا يُنكَرُ فضلُهم في خِدمةِ الإسلامِ، كالإمامَينِ النَّوويِّ وابنِ حَجَرٍ العَسقَلانيِّ رحمهما الله، وغَيرِهما مِن أعلامِ الأُمَّةِ الذينَ مَلَأت مُؤَلَّفاتُهمُ الدُّنيا في شَتَّى العُلومِ. ولَو لَم يَكُنْ لهَذَينِ الإمامَينِ -النَّوويِّ وابنِ حَجَرٍ- إلَّا أنَّهما صاحِبا أفضَلِ شَرحَينِ لأصَحِّ كِتابَينِ بَعدَ كِتابِ اللَّهِ (صَحيحَيِ البُخاريِّ ومُسلِمٍ)، لَكانَ ذلك كافيًا في بَيانِ جَلالَتِهما، وعُلوِّ مَنزِلَتِهما، ومِقدارِ أثَرِهما في الأُمَّةِ، فكَيفَ وقدِ اجتَمَعَ فيهما إلى ذلك غَزارةُ العِلمِ، وحُسنُ التَّصنيفِ، وسَعةُ الفَهمِ، ودَوامُ النَّفعِ إلى يَومِ النَّاسِ هذا؟! وقد عُرِفا بتعظيمِ السُّنَّةِ والأثَرِ، والذَّبِّ عنها، ومحبَّةِ السَّلَفِ، وذَمِّ البِدعةِ وأهلِها، غيرَ أنَّ نشأتَهما كانت في بيئةٍ أشعَريَّةٍ، فوقَع منهما ما وقَع، لكنَّهما لم يتعمَّقا في الفَلسَفةِ وعِلمِ الكَلامِ؛ ولهذا فإنَّ إعذارَهم واجبٌ، وهما مع ذلك قد خالفا الأشاعِرةَ في مواضِعَ عديدةٍ، وكانا متفاوِتَينِ في ذلك؛ فمُخالفةُ ابنِ حَجَرٍ للأشاعِرةِ أظهَرُ من مخالفةِ النَّوَويِّ. وعلى كُلِّ حالٍ، فلا ريبَ أنَّ مَن اطَّلع على أقوالِ العُلَماءِ عَلِم أنَّهما من كبارِ عُلَماءِ الإسلامِ الذين خَدَموا السُّنَّةَ النَّبَويَّةَ، ودافَعوا عنها، وقد كَتَب اللهُ تعالى لمُصَنَّفاتِهما القَبولَ والانتِشارَ بَينَ عامَّةِ المُسلِمين بمختَلِفِ طوائِفِهم، فالإنصافُ يقتضي التحذيرَ مما وقَعَ عِندَهما مِن أخطاءٍ في أبوابِ العَقيدةِ، ولكن لا يُغفَلُ في الوقتِ نَفسِه ما قدَّما مِن خِدمةٍ جَليلةٍ للإسلامِ والمُسلِمينَ في التَّفسيرِ والحَديثِ والفِقهِ وأُصولِه وغيرِ ذلك من العلوم.

والحَقُّ أنَّ هذا الغُلوَّ الذي نشأ عند هذه الفِئةِ لَم يَنشَأْ إلَّا مِن خَلَلٍ في الفَهمِ واضطِرابٍ في المَنهَجِ، ويُمكِنُ رَدُّ أُصولِه إلى أربَعةِ أسبابٍ أو مزالِق رَئيسةٍ سَيَدورُ حَولها هذا المَقالُ:

  1. خَلطُهم بَينَ التَّكفيرِ المُطلَقِ وتَكفيرِ المُعَيَّنِ.

  2. مُساواتُهم بَينَ الأشاعِرةِ والجَهميَّةِ.

  3. إغفالُ الفارِقِ بَينَ التَّأويلِ والإنكارِ، فجَعَلوا كُلَّ مُتَأوِّلٍ بمَنزِلةِ المُنكِرِ المُعَطِّلِ الجاحِدِ.

  4. الِاعتِدادُ بالرَّأيِ والجُرأةُ على مُخالَفةِ كِبارِ عُلَماءِ أهلِ السُّنَّةِ الرَّبَّانيِّينَ دونَ اعتِبارٍ لمَقامِهم وعِلمِهم.

ومِن هُنا تَأتي أهَمِّيَّةُ الإنصافِ في هذا البابِ، والميزانُ الدَّقيقُ بَينَ الذَّبِّ عَنِ العَقيدةِ الصَّحيحةِ مِن جِهةٍ، وحِفظِ مَكانةِ عُلَماءِ الأُمَّةِ وجُهودِهم مِن جِهةٍ أُخرى.

وقَبلَ البَدءِ في بَسطِ المزالِق لا بُدَّ مِن ذِكرِ حَقائِقَ عَنِ الأشاعِرةِ والمَذهَبِ الأشعَريِّ:

1- المَذهَبُ الأشعَريُّ مِنَ المَذاهِبِ الإسلاميَّةِ التي خالَفَتِ المَنهَجَ السَّلَفيَّ -مَنهَجَ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ- في عَدَدٍ مِن مَسائِلِ الِاعتِقادِ(1).

2- الأشاعِرةُ المُتَقدِّمونَ خَيرٌ مِنَ المُتَأخِّرينَ الذينَ تَأثَّروا بفَلسَفةِ اليونانِ وهَرطَقةِ المُتَكَلِّمينَ.

3- للأشاعِرةِ وعُلَمائِهم دَورٌ كَبيرٌ في الدِّفاعِ عَنِ الإسلامِ في وجهِ المَلاحِدةِ والمُعتَزِلةِ والجَهميَّةِ، وقد أثنى عليهم كَثيرٌ مِن عُلَماءِ المُسلِمينَ كَما سَيَأتي.

4- في بداياتِ ظُهورِ المَذهَبِ الأشعَريِّ -وكانَ آنَذاكَ غَريبًا عَن مَنهَجِ أهلِ الحَديثِ والسُّنَّةِ- وقَعَت نُفرةٌ شَديدةٌ بَينَ الفَريقَينِ، بَلَغَت أحيانًا حَدَّ التَّكفيرِ المُتَبادَلِ من بعضِهم. غَيرَ أنَّه ابتِداءً مِنَ القَرنِ السَّادِسِ والسَّابِعِ الهِجريَّينِ، قَلَّ أنْ تَجِدَ عالِمًا مِن أهلِ السُّنَّةِ يُكَفِّرُ الأشاعِرةَ ويُكَفِّرُ عُلَماءَهم، إلَّا في حالاتٍ نادِرةٍ. حَتَّى ظَهَرَت في العَصرِ الحَديثِ فِئةٌ قَليلةٌ ساوت بَينَ الأشاعِرةِ والجَهميَّةِ المَحضةِ، دونَ تَفريقٍ مُنصِفٍ، ولا اعتِبارٍ للفَوارِقِ الجَوهَريَّةِ بَينَهما.

مزالقُ الغُلاةِ والرَّدُّ عليها:

تَأمَّلتُ في الخَلَلِ الذي بَنى عليه الغُلاةُ المُعاصِرونَ مَنهَجَهم، فإذا هو قائِمٌ على أربَعةِ مَزالِقَ مُتَتابِعةٍ، كُلُّ واحِدٍ مِنها مُؤَسَّسٌ على الآخَرِ.

فأوَّلُها: الِاستِشهادُ بأقوالٍ للسَّلَفِ مِن قَبيلِ: مَن قال كَذا فهو كافِرٌ، أو: مَن قال بخَلقِ القُرآنِ أو أنكَرَ عُلوَّ اللَّهِ فهو جَهميٌّ.

ثُمَّ يَنتَقِلونَ إلى المَرحَلةِ الثَّانيةِ، فيَستَدِلُّونَ بما نُقِلَ عَن السَّلَفِ مِن تَكفيرِ الجَهميَّةِ، ويُضيفونَ إلى ذلك ما ورَدَ عَن بَعضِهم في وصفِ الأشاعِرةِ بأنَّهم جَهميَّةٌ، أو أنَّ مَقالتَهم في إثباتِ العُلوِّ أخبَثُ مِن مَقالةِ الجَهميَّةِ. فيَخرُجونَ بالنَّتيجةِ التَّاليةِ: الأشاعِرةُ جَهميَّةٌ، والجَهميَّةُ كُفَّارٌ، إذَن الأشاعِرةُ كُفَّارٌ!، كما أنَّهم يَسْتَدِلّونَ بِتَكْفيرِ بَعْضِ العُلَماءِ للأشاعرةِ، وَيَتْرُكونَ أَضْعافَ أَضْعافِ هؤلاءِ العُلَماءِ الَّذينَ لَمْ يُكَفِّروهمْ، بَلْ تَرَحموا عَلَيْهِمْ وَأَثنَوْا عَلى عُلُومِهِمْ وَجُهُودِهِمْ،كما سيأتي.

فلَمَّا استَقَرَّ عِندَهم تَكفيرُ الأشاعِرةِ جَرَّهم ذلك إلى المَرحَلةِ الأخيرةِ: وهيَ تَكفيرُ عُلَمائِهم مَهما عَلا شَأنُهم في الدِّينِ، كالإمامَينِ النَّوويِّ وابنِ حَجَرٍ، فضلًا عَمَّن دونَهما، مِثلُ: ابنِ الصَّلاحِ، والعِزِّ بنِ عَبدِ السَّلامِ، وابنِ دَقيقِ العيدِ.

وهَكَذا -بكُلِّ سُهولةٍ- اختَزَلوا قَضيَّةً مِن أدَقِّ قَضايا أُصولِ العَقائِدِ في صورةِ مُعادَلةٍ رياضيَّةٍ مِنَ الدَّرَجةِ الأولى: (ب + 2= 3. إذَن: ب = 1). ولَكِن ليس بهذه السَّذاجةِ تُعالَجُ مَسائِلُ العَقيدةِ، ولا هَكَذا يا سَعدُ تورَدُ الإبِلُ!

وهذا أوانُ التفْصيلِ في المزالِقِ الأربعةِ التي بنَوا عليها منهجَهم:

المَزلَقُ الأوَّلُ: خَلطُهم بَينَ التَّكفيرِ المُطلَقِ وتَكفيرِ المُعَيَّنِ.

إنَّ مِن مَذهَبِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ أنَّ أحكامَ التَّكفيرِ تُطلَقُ في الجُملةِ على الأقوالِ والأفعالِ والِاعتِقاداتِ، فيُقالُ مَثَلًا: مَنِ استَحَلَّ ما هو مَعلومٌ مِنَ الدِّينِ بالضَّرورةِ فقد كَفَرَ، ومَن قال: إنَّ القُرآنَ مَخلوقٌ، فقد كَفَرَ، ومَن أنكَرَ عُلوَّ اللَّهِ فقد كَفَرَ.

أمَّا تَنزيلُ هذا الحُكمِ على شَخصٍ بعَينِه، فلا يَكونُ إلَّا بَعدَ تَحَقُّقِ الشُّروطِ وانتِفاءِ المَوانِعِ؛ إذ ليس كُلُّ مَن وقَعَ في الكُفرِ يُحكَمُ بكُفرِه، حَتَّى تَقومَ عليه الحُجَّةُ وتَزولَ عنه الشُّبهةُ.

قال شيخُ الإسلام ابنُ تيميَّة: (إنَّ القَولَ قد يكونُ كُفرًا فيُطلَقُ القَولُ بتكفيرِ صاحِبِه، ويقالُ: من قال كذا فهو كافِرٌ، لكِنَّ الشَّخصَ المُعَيَّنَ الذي قاله لا يُحكَمُ بكُفرِه حتى تقومَ عليه الحُجَّةُ التي يَكفُرُ تاركُها.)(2).

وقال أيضًا: (ليس لأحَدٍ أن يُكَفِّرَ أحدًا من المُسلِمين، وإن أخطأ وغَلِط، حتى تقامَ عليه الحُجَّةُ، وتُبَيَّنُ له المحجَّةُ، ومن ثبت إسلامُه بيقينٍ لم يَزُلْ ذلك عنه بالشَّكِّ، بل لا يزولُ إلَّا بعد إقامةِ الحُجَّةِ، وإزالةِ الشُّبهةِ)(3).

وقال أيضًا: (كنتُ أُبَيِّنُ لهم أنَّ ما نُقِلَ لهم عن السَّلَفِ والأئِمَّةِ مِن إطلاقِ القَولِ بتكفيرِ من يقولُ كذا وكذا، فهو أيضًا حَقٌّ، لكِن يجِبُ التفريقُ بين الإطلاقِ والتعيينِ، وهذه أوَّلُ مسألةٍ تنازعت فيها الأمَّةُ من مسائِلِ الأُصولِ الكِبارِ، وهي مسألةُ الوعيدِ)(4).

وقال أيضًا: (الأقوالُ التي يَكفُرُ قائِلُها قد يكونُ الرَّجُلُ لم تبلُغه النُّصوصُ المُوجِبةُ لمعرفةِ الحَقِّ، وقد تكونُ عنده، ولم تَثبُتْ عِندَه، أو لم يتمَكَّنْ مِن فَهمِها، وقد يكونُ قد عَرَضَت له شُبُهاتٌ يَعذِرُه اللهُ بها، فمن كان من المُؤمِنين مجتهدًا في طَلَبِ الحَقِّ وأخطأ، فإنَّ اللهَ يَغفِرُ له خطاياه كائنًا ما كان، سواءٌ كان في المسائِلِ النظَرِيَّةِ أو العَمَليَّةِ، هذا الذي عليه أصحابُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وجماهيرُ أئمَّةِ الإسلامِ)(5).

وقال عن أمثالِ هؤلاء الغلاة: (...كلَّما رأوهم قالوا: من قال كذا فهو كافرٌ، اعتقد المستَمِعُ أنَّ هذا اللَّفظَ شامِلٌ لكلِّ من قاله، ولم يتدبَّروا أنَّ التكفيرَ له شروطٌ وموانِعُ قد تنتفي في حَقِّ المعَيَّنِ، وأنَّ تكفيرَ المطلَقِ لا يستلزِمُ تكفيرَ المعَيَّن، إلَّا إذا وُجِدت الشُّروطُ وانتفت الموانعُ)(6).

وقال الإمامُ محمَّدُ بنُ عبدِ الوَهَّابِ: (مسألةُ تكفيرِ المُعَيَّنِ مسألةٌ معروفةٌ، إذا قال قولًا يكونُ القَولُ به كُفرًا، فيقال: من قال بهذا القَولِ فهو كافِرٌ، لكِنَّ الشَّخصَ المُعَيَّنَ إذا قال ذلك لا يُحكَمُ بكُفرِه حتى تقومَ عليه الحُجَّةُ التي يَكفُرُ تارِكُها)(7).

وبهذا يتبيَّنُ خَطَأُ فريقينِ من النَّاسِ: فَريقٌ غلا في التَّكفيرِ، فكَفَّر بإطلاقٍ دونَ النَّظَرِ إلى الشُّروط والموانعِ، وفَريقٌ امتَنَع عن تكفيرِ المُعَيَّنِ بإطلاقٍ، فأغلق بابَ الرِّدَّةِ. ووفَّقَ اللهُ أهلَ السُّنَّةِ والجماعةِ للقَولِ الوَسَطِ.

المَزلَقُ الثَّاني: تَكفيرُهمُ الجَهميَّةَ وأعيانَهم بإطلاقٍ وإلحاقُ الأشاعِرةِ بهم

يَظُنُّ بَعضُ مَن لا عِلمَ عِندَه أو ممَّنِ التَبَسَ عليه الأمرُ أنَّ السَّلَفَ كَفَّروا الجَهميَّةَ؛ لأنَّهم لا يُثبِتونَ العُلوَّ للَّهِ فحسْب، فيُكَفِّرونَ كُلَّ مَن لَم يُثبِتِ العُلوَّ له سُبحانَه ويَنسُبونَه للجَهميَّةِ، وبَعضُهم يَظُنُّ تَكفيرَهم لأنَّهم لَم يُثبِتوا صِفاتِ اللَّهِ، والبَعضُ الآخَرُ حَصَروا التَّكفيرَ في القَولِ بخَلقِ القُرآنِ، مَعَ أنَّ الجَهميَّةَ المَحضةَ الأوائل التي كَفَّرَها السَّلَفُ مُؤَدَّى اعتِقادِهم أنْ لا خالِقَ مَعبودٌ بحَقٍّ في الوُجودِ، فهُم يُنكِرونَ جَميعَ أسماءِ اللَّهِ وصِفاتِه ولا يُثبِتونَ شَيئًا مِنها؛ فلا هو خالِقٌ ولا خَلَّاقٌ، ولا راحِمٌ ولا رَحيمٌ، ولا عالِمٌ ولا عَليمٌ، ويَقولونَ بخَلقِ القُرآنِ، وأنَّ اللَّهَ لا يُرى يَومَ القيامةِ، والجَهميَّةُ جَبريَّةٌ مَحضةٌ تَقولُ: ليس للإنسانِ إرادةٌ، وهو كرِيشةٍ في مَهَبِّ الرِّيحِ، ثُمَّ يَأتي هؤلاء ويَقولونَ: الأشاعِرةُ جَهميَّةٌ؛ لأنَّهم يُنكِرونَ أنَّ اللَّهَ في السَّماءِ! صَحيحٌ أنَّ مَن أنكَرَ عُلوَّ اللَّهِ وأنَّه سُبحانَه في السَّماءِ فيه خَصلةٌ مِن خِصالِ الجَهميَّةِ، أو كَما هو تَعبيرُ ابنِ تيميَّةَ في أكثَرَ مِن مَوضِعٍ مِن كُتُبِه، يَقولُ: (فيه شُعبةٌ مِنَ الجَهميَّةِ والمُعتَزِلةِ)(8)، وأحيانًا يَقولُ: (فيه نَوعٌ مِنَ التَّجَهُّمِ)(9)، لَكِنَّ الأشاعِرةَ يُثبِتونَ أسماءَ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ، ولهم في ذلك كُتُبٌ مُؤَلَّفةٌ، ويُثبِتونَ بَعضَ الصِّفاتِ ويُؤَوِّلونَ أكثرها ولا يُنكِرونَها كَما تَفعَلُ الجَهميَّةُ، وعِندَما تَحَدَّثَ ابنُ تيميَّةَ عَن مَقالاتِ النَّاسِ في الصِّفاتِ قَسَّمَهم إلى ثَلاثِ دَرَجاتٍ: الدَّرَجةُ الأولى: القَرامِطةُ الباطِنيَّةُ، والدَّرَجةُ الثَّانيةُ: الجَهميَّةُ المَحضةُ، والدَّرَجةُ الثَّالِثةُ: الأشاعِرةُ، ثُمَّ قال عنهم: (وأمَّا في الصِّفاتِ فليسوا جَهميَّةً مَحضةً، بَل فيهم نَوعٌ مِنَ التَّجَهُّمِ)(10).

وتارةً يَقولُ: (في أقوالِهم شَيءٌ مِن أُصولِ الجَهميَّةِ)(11).

ومَعَ ذلك، ما كانَ السَّلَفُ يُكَفِّرونَ كُلَّ مَن قال بقَولِ جَهمٍ، ولا يُكَفِّرونَ كُلَّ أعيانِ الجَهميَّةِ، فكَيفَ بمَن قال بقَولِ الأشاعِرةِ فضلًا عَمَّن قال ببَعضِ قَولِهم وخالَفَهم في بَعضِها، كالإمامَينِ النَّوويِّ وابنِ حَجَرٍ؟!

قال ابنُ تيميَّةَ عن موقِفِ الإمامِ أحمدَ من أعيانِ الجَهميَّةِ: (أحمدُ لم يكفِّرْ أعيانَ الجهميَّةِ، ولا كُلَّ من قال: إنَّه جهميٌّ، كفَّره، ولا كُلَّ من وافق الجَهميَّةَ في بعضِ بِدَعِهم، بل صلَّى خَلْفَ الجهميَّةِ الذين دعَوا إلى قَولهم، وامتَحَنوا النَّاسَ وعاقبوا من لم يوافِقْهم بالعقوباتِ الغليظةِ، لم يكفِّرْهم أحمدُ وأمثالُه، بل كان يعتقِدُ إيمانَهم وإمامتَهم، ويدعو لهم، ويرى الائتمامَ بهم في الصَّلَواتِ خَلْفَهم، والحَجَّ والغَزْوَ معهم، والمنعَ من الخروجِ عليهم ما يراه لأمثالِهم من الأئِمَّةِ، وينكِرُ ما أحدثوا من القَولِ الباطِلِ الذي هو كُفرٌ عظيمٌ، وإن لم يعلموا هم أنَّه كفرٌ، وكان ينكِرُه ويجاهِدُهم على رَدِّه بحَسَبِ الإمكانِ، فيجمَعُ بين طاعةِ اللهِ ورَسولِه في إظهارِ السُّنَّةِ والدِّينِ، وإنكارِ بِدَعِ الجهميَّةِ الملْحِدين، وبيْن رعايةِ حُقوقِ المؤمنينَ من الأئِمَّة والأمَّةِ، وإن كانوا جُهَّالًا مُبتَدِعين، وظَلَمةً فاسِقينَ)(12).

وهذا يدلُّ بوُضوحٍ على أنَّ ما يزعُمُه بعضُ الغُلاةِ من أنَّ الإمامَ أحمدَ إنَّما تَرَك الخُروجَ عليهم لعَجزٍ عن القُدرةِ لا لاعتقادِ عَدَمِ كُفرِهم: إنَّما هو تدليسٌ وخِداعٌ، وتلبيسٌ على الأمَّةِ؛ لتسويغِ مَنهجِهم الباطلِ.

ومِمَّا يَدُلُّ أيضًا على أنَّ الإمامَ أحمَدَ لَم يُكَفِّر كُلَّ جَهميٍّ، تَجويزُه الصَّلاةَ عليهم وقَولُه: (لا أَشهَدُ الجَهميَّةَ ولا الرَّافِضةَ، ويَشهَدُه مَن شاءَ)(13)، لَكِنَّه امتَنَعَ عن ذلك اقتداءً بتَركِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الصَّلاةَ على مَن مات وعليه دَينٌ، ولَو كانَ يُكَفِّرُ كُلَّ جَهميٍّ لَما أجازَ الصَّلاةَ عليه.

وقال أيضًا: (إنَّ الإمامَ أحمدَ وعامَّةَ الأئمَّةِ الذين أطلقوا هذه العموماتِ، لم يكَفِّروا أكثَرَ من تكلَّم بهذا الكلامِ بعينِه؛...ثمَّ إنَّ الإمامَ أحمد دعا للخليفةِ وغيرِه ممن ضَرَبه وحبسه، واستغفر لهم، وحلَّلهم ممَّا فعلوه به من الظُّلمِ والدُّعاءِ إلى القَولِ الذي هو كُفرٌ، ولو كانوا مرتَدِّين عن الإسلام لم يجُزِ الاستغفارُ لهم؛ فإنَّ الاستغفارَ للكُفَّارِ لا يجوزُ بالكتابِ والسُّنَّة والإجماعِ. وهذه الأقوالُ والأعمالُ منه ومن غيرِه من الأئمَّةِ صريحةٌ في أنَّهم لم يُكَفِّروا المعَيَّنين من الجهميَّةِ الذين كانوا يقولون: القُرآنُ مخلوقٌ، وإنَّ الله لا يُرى في الآخرةِ)(14).

وقال أيضًا: (الإمامُ أحمدُ رَضِيَ اللهُ تعالى عنه ترحَّم عليهم واستغفر لهم؛ لعِلْمِه بأنَّه لم يتبيَّنْ لهم أنَّهم مُكَذِّبون للرَّسولِ، ولا جاحِدون لِما جاء به، ولكن تأوَّلوا فأخطؤوا، وقلَّدوا من قال ذلك لهم)(15). ولو كان يُكَفِّرْهم بأعيانِهم لما ترَحَّم عليهم.

فإذا كان المتكَلِّمُ يتأوَّلُ فيُخطِئُ فليس بكافرٍ، فكيف يُقالُ ذلك فيمن قلَّده من غيرِ خَوضٍ في التَّفلسُفِ ولا انشغالٍ بعِلمِ الكلامِ؟ ثمَّ إنَّ الإمامَ النَّوَويَّ والحافِظَ ابنَ حَجَرٍ كانا في الأصلِ من كبارِ عُلَماءِ الشَّريعةِ، ولم يكونا من أهلِ الكلامِ المتخَصِّصين فيه، وإنَّما عَرَضَت في كلامِهما بعضُ التَّأويلاتِ تأثُّرًا بما شاع عندَ عُلَماءِ الكلامِ في عَصرِهما، وإلَّا فليس الكلامُ من شأنِهما ولا من فُنونِهما، رَحِمهما اللهُ تعالى.

وكذلك لم يكفِّرِ ابنُ تيميَّة الذين جادلوه من الجَهميَّة في عصرِه مع تبيينِه أنَّ قَولَهم كُفرٌ.

قال ابنُ تيميَّة: (كنتُ أقولُ للجَهميَّةِ من الحُلوليَّةِ، والنُّفاةِ الذين نفوا أنَّ الله تعالى فَوقَ العَرشِ لَمَّا وقَعَت محنتُهم: أنا لو وافقتُكم كنتُ كافرًا؛ لأني أعلَمُ أنَّ قَولَكم كفرٌ، وأنتم عندي لا تَكفُرون؛ لأنَّكم جُهَّالٌ، وكان هذا خطابًا لعُلَمائِهم وقُضاتِهم وشُيوخِهم وأمرائِهم، وأصلُ جَهْلِهم شُبُهاتٌ عَقليَّةٌ حصلت لرؤوسِهم، في قصورٍ من معرفةِ المنقولِ الصَّحيحِ، والمعقولِ الصَّريحِ الموافِقِ له)(16).

ومِمَّا يَدُلُّكَ على أنَّ عِبارةَ السَّلَفِ في قَولِهم: مَن قال بكَذا فهو جَهميٌّ، لا يَعنونَ بهِ الجَهميَّةَ المَحضةَ، قَولُ الإمامِ أحمَدَ: إنَّ مَن قال: إنَّ الصُّورةَ في حَديثِ "خَلَق اللَّهُ آدَمَ على صورَتِه" راجِعةٌ إلى آدَمَ ولَيسَ إلى اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ، فهو جَهميٌّ، قال ابنُ تيميَّةَ: (رَوى الخَلَّالُ عَن أبي طالِبٍ مِن وجهَينِ، قال: سَمِعتُ أبا عَبدِ اللَّهِ -يَعني أحمَدَ بنَ حَنبَلٍ- يَقولُ: مَن قال: إنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ على صورةِ آدَمَ، فهو جَهميٌّ)(17)، مَعَ أنَّ الإمامَ أبا بَكرٍ مُحَمَّدَ بنَ إسحاقَ ابنَ خُزَيمةَ إمامَ أهلِ السُّنَّةِ في زَمانِه استَشنَعَ القَولَ بأنَّ الصُّورةَ في هذا الحَديثِ تَعودُ إلى اللَّهِ، فقال: (وقدِ افتَتَنَ بهذه اللَّفظةِ التي في خَبَرِ عَطاءٍ عالَمٌ مِمَّن لَم يَتَحَرَّ العِلمَ، وتَوهَّموا أنَّ إضافةَ الصُّورةِ إلى الرَّحمَنِ في هذا الخَبَرِ مِن إضافةِ صِفاتِ الذَّاتِ، فغَلِطوا في هذا غَلَطًا بَيِّنًا، وقالوا مَقالةً شَنيعةً مُضاهيةً لقَولِ المُشَبِّهةِ، أعاذَنا اللَّهُ وكُلَّ المُسلِمينَ مِن قَولِهم)(18)،

ومع هذا، لم يُعرف عن أحدٍ من عُلماءِ الأمَّة أنَّه نَسَبَ ابنَ خزيمةَ إلى الجهميَّةِ.

ومِنَ المَعلومِ عِندَ كُلِّ مُنصِفٍ لَدَيه اهتِمامٌ وعِنايةٌ بعِلمِ العَقائِدِ والفِرَقِ: أنَّ الأشاعِرةَ من أكثَرِ الطَّوائِفِ رَدًّا على الجَهميَّةِ والمُعتَزِلةِ، وألَّفوا في ذلك كُتُبًا، وإن كانوا قد تَأثَّروا ببَعضِ أقوالِهم لخَوضِهم في عِلمِ الكَلامِ المَذمومِ، فكَيفَ يَصِحُّ نِسبَتُهم إلى مَن يَنتَقِدونَهم ويَذُمُّونَهم ويُحَذِّرونَ مِنهُم؟!

بَل إنَّ الأشاعِرةَ يُضَلِّلونَ الجَهميَّةَ ويُبَدِّعونَهم ويَعُدُّونَهم مِن أهلِ الأهواءِ والبِدَعِ، ويَقرِنونَهم مَعَ الرَّافِضةِ والخَوارِجِ والمُعتَزِلةِ.

قال عَبدُ القاهِرِ البَغداديُّ: (أهلُ الأهواءِ مِنَ الرَّوافِضِ والقدَريَّةِ والخَوارِجِ والجَهميَّةِ والنَّجَّاريَّةِ)(19).

وقال ابنُ فُورَك: (أهلُ البِدَعِ مِن أصحابِ الأهواءِ الفاسِدةِ العادِلةِ له مِن مَناهِجِ الكِتابِ والسُّنَّةِ، نَحوُ: الجَهميَّةِ والمُعتَزِلةِ والخَوارِجِ والرَّافِضةِ)(20).

وقال ابنُ عَساكِرَ: (ظَهَرَ أهلُ الأهواءِ وكَثُرَ أهلُ البِدَعِ مِنَ الخَوارِجِ والجَهميَّةِ والمُعتَزِلةِ والقدَريَّةِ)(21).

وقال ابنُ العَرَبيِّ: (أهلُ البِدَعِ والجَهميَّةُ والمُعتَزِلةُ كُلُّها والخَوارِجُ)(22).

فكَيفَ يُساوى بَينَ الأشاعِرةِ والجَهميَّةِ المَحضةِ الذينَ كَفَّرَهمُ السَّلَفُ في الجُملةِ؟!

المَزلَقُ الثَّالِثُ: تَكفيرُهم عُلَماءَ الأشاعِرةِ بأعيانِهم

بَعدَ أن فرَغَ هؤلاء مِن تَكفيرِ الجَهميَّةِ ثُمَّ أتبَعوا بهِمُ الأشاعِرةَ، انزَلَقوا إلى تَكفيرِ أعيانِ الأشاعِرةِ؛ تارةً بالتَّصريحِ، وتارةً بالتَّلويحِ، ولَم يُفَرِّقوا بَينَ تَأويلِ الأشاعِرةِ وإنكارِ وجُحودِ الجَهميَّةِ المَحضةِ، وهذا ليس صَنيعَ الرَّاسِخينَ في العِلمِ؛ فإنَّهم يُخَطِّئونَ المُتَأوِّلينَ ولَكِن يَعذِرونَهم ولا يُعامِلونَهم مُعامَلةَ المُنكِرينَ والجاحِدينَ والمُعَطِّلينَ للصِّفاتِ.

قال ابنُ تيميَّة: (المُتأوِّلُ الذي قَصْدُه متابعةُ الرَّسولِ لا يُكفَّرُ، بل ولا يُفَسَّقُ إذا اجتهد فأخطَأ، وهذا مشهورٌ عِندَ النَّاسِ في المسائِلِ العَمَليَّةِ، وأمَّا مسائِلُ العقائِدِ فكثيرٌ من النَّاسِ كفَّر المُخطِئينَ فيها، وهذا القَولُ لا يُعرَفُ عن أحَدٍ من الصَّحابةِ والتَّابعينَ لهم بإحسانٍ، ولا عن أحَدٍ من أئمَّةِ المُسلِمينَ، وإنَّما هو في الأصلِ من أقوالِ أهلِ البِدَعِ، الذين يبتَدِعون بدعةً ويُكَفِّرون من خالَفهم، كالخوارجِ والمُعتَزِلةِ والجَهميَّةِ)(23).

وقال: (إنِّي مِن أعظَمِ النَّاسِ نَهيًا عَن أن يُنسَبَ مُعَيَّنٌ إلى تَكفيرٍ وتَفسيقٍ ومَعصيةٍ، إلَّا إذا عُلِمَ أنَّه قد قامَت عليه الحُجَّةُ الرِّساليَّةُ التي مَن خالَفَها كانَ كافِرًا تارةً، وفاسِقًا أُخرى، وعاصيًا أُخرى، وإنِّي أُقَرِّرُ أنَّ اللَّهَ قد غَفَرَ لهذه الأُمَّةِ خَطَأَها، وذلك يَعُمُّ الخَطَأَ في المَسائِلِ الخَبَريَّةِ القَوليَّةِ والمَسائِلِ العَمَليَّةِ. وما زالَ السَّلَفُ يَتَنازَعونَ في كَثيرٍ مِن هذه المَسائِلِ، ولَم يَشهَدْ أحَدٌ مِنهُم على أحَدٍ لا بكُفرٍ ولا بفِسقٍ ولا مَعصيةٍ)(24).

وقال وهو يُبَرِّئُ الأشاعِرةَ وغيرِهم مِنَ الكُفرِ: (ولَو كُفِّرَ هؤلاء(25) لَزِمَ تَكفيرُ كَثيرٍ مِنَ الشَّافِعيَّةِ، والمالِكيَّةِ، والحَنَفيَّةِ، والحَنبَليَّةِ، والأشعَريَّةِ، وأهلِ الحَديثِ، والتَّفسيرِ، والصُّوفيَّةِ: الذينَ لَيسوا كُفَّارًا باتِّفاقِ المُسلِمينَ)(26).

فمَن جَهِلَ بعضَ صِفاتِ اللَّهِ أو تَأوَّلَها وكانَ مِن أهلِ الِاجتِهادِ والحِرصِ على مُتابَعةِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولَم يَكُنْ جاحِدًا ولا مُعانِدًا ولا مُستَكبِرًا، هذا يُعذَرُ كَما في حَديثِ الذي قال: (إذا أنا مُتُّ فأحرِقوني ثُمَّ اسحَقوني، ثُمَّ ذَرُّوني في اليَمِّ، فواللَّهِ لَئِن قدَرَ اللَّهُ عليَّ لَيُعَذِّبَنِّي عَذابًا ما عَذَّبَه أحَدًا مِنَ العالَمينَ)(27). عَلَّقَ ابنُ تيميَّةَ عليه فقال: (فهذا رَجُلٌ شَكَّ في قُدرةِ اللَّهِ وفي إعادَتِه إذا ذُريَ، بَلِ اعتَقدَ أنَّه لا يُعادُ، وهذا كُفرٌ باتِّفاقِ المُسلِمينَ، لَكِن كانَ جاهِلًا لا يَعلَمُ ذلك، وكانَ مُؤمِنًا يَخافُ اللَّهَ أن يُعاقِبَه، فغفرَ له بذلك. والمُتَأوِّلُ مِن أهلِ الِاجتِهادِ الحَريصُ على مُتابَعةِ الرَّسولِ(28) أَولى بالمَغفِرةِ مِن مِثلِ هذا)(29).

وقال أيضًا: (ليس لأحَدٍ أن يَتَّبِعَ زَلَّاتِ العُلَماءِ، كَما ليس له أن يَتَكَلَّمَ في أهلِ العِلمِ والإيمانِ إلَّا بما هُم له أهلٌ؛ فإنَّ اللَّهَ تَعالى عَفا للمُؤمِنينَ عَمَّا أخطَؤوا، كما قال تَعالى: {رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إن نَسِينا أو أخطَأنا} قال اللَّه: قد فعَلتُ)(30).

وقال الذَّهَبيُّ: (لَو أنَّا كُلَّما أخطَأ إمامٌ في اجتِهادِه في آحادِ المَسائِلِ خَطَأً مَغفورًا لَه، قُمنا عليه وبَدَّعناه وهَجَرناه، لَما سَلِمَ مَعَنا لا ابنُ نَصرٍ، ولا ابنُ مَنْدَه، ولا مَن هو أكبَرُ مِنهُما، واللَّهُ هو هادي الخَلقِ إلى الحَقِّ، وهو أرحَمُ الرَّاحِمينَ، فنَعوذُ باللَّهِ مِنَ الهَوى والفَظاظةِ)(31).

وقال أيضًا: (لابنِ خُزَيمةَ عَظَمةٌ في النُّفوسِ، وجَلالةٌ في القُلوبِ؛ لعِلمِه ودينِه واتِّباعِه السُّنَّةَ، وكِتابُه في "التَّوحيدِ" مُجَلَّدٌ كَبيرٌ، وقد تَأوَّلَ في ذلك حَديثَ الصُّورةِ، فليُعذَرْ مَن تَأوَّلَ بَعضَ الصِّفاتِ، ... ولَو أنَّ كُلَّ مَن أخطَأ في اجتِهادِه -مَعَ صِحَّةِ إيمانِه، وتَوخِّيه لاتِّباعِ الحَقِّ- أهدَرناه وبَدَّعناه، لَقَلَّ مَن يَسلَمُ مِنَ الأئِمَّةِ مَعَنا، رَحِمَ اللَّهُ الجَميعَ بمَنِّه وكَرَمِه)(32).

وقال أيضًا: (إنَّ الكَبيرَ مِن أئِمَّةِ العِلمِ إذا كَثُرَ صَوابُه، وعُلِمَ تَحَرِّيه للحَقِّ، واتَّسَعَ عِلمُه، وظَهَرَ ذَكاؤُه، وعُرِفَ صَلاحُه وورَعُه واتِّباعُه(33)، يُغفَرُ له زَلَـلُه، ولا نُضَلِّلُه ونَطرَحُه ونَنسى مَحاسِنَه. نَعَم، لا نَقتَدي بهِ في بدعَتِه وخَطَئِه، ونَرجو له التَّوبةَ مِن ذلك)(34).

وقال ابنُ القَيِّمِ: (مَن له عِلمٌ بالشَّرعِ والواقِعِ يَعلَمُ قَطعًا أنَّ الرَّجُلَ الجليلَ الذي له في الإسلامِ قَدَمٌ صالحٌ وآثارٌ حَسَنةٌ، وهو من الإسلامِ وأهلِه بمَكانٍ(35): قد تكونُ منه الهَفوةُ والزَّلَّةُ هو فيها مَعذورٌ، بل ومأجورٌ لاجتهادِه؛ فلا يجوزُ أن يُتَّبَعَ فيها، ولا يجوزُ أن تُهدَرَ مَكانَتُه وإمامَتُه ومَنزِلَتُه في قُلوبِ المُسلِمينَ)(36).

وقال: (مِن قَواعِدِ الشَّرعِ والحِكمةِ أيضًا أنَّ مَن كَثُرَت حَسَناتُه وعَظُمَت، وكانَ له في الإسلامِ تَأثيرٌ ظاهِرٌ، فإنَّه يُحتَمَلُ له ما لا يُحتَمَلُ لغَيرِه، ويُعفى عنه ما لا يُعفى عَن غَيرِه؛ فإنَّ المَعصيةَ خَبَثٌ، والماءُ إذا بَلَغَ قُلَّتَينِ لَم يَحمِلِ الخَبَثَ)(37).

وقال ابنُ رَجَبٍ الحَنبَليُّ: (يَأبى اللَّهُ العِصمةَ لكِتابٍ غَيرِ كِتابِه، والمُنصِفُ مِنِ اغتَفَرَ قَليلَ خَطَأِ المَرءِ في كَثيرِ صَوابِه)(38).

وقال السَّعديُّ: (أمَّا أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ فيَسلُكون معهم ومع جميعِ أهلِ البِدَعِ المسلَكَ المستقيمَ المبنيَّ على الأصولِ الشَّرعيَّةِ والقواعِدِ المرْضيَّةِ، يُنصِفونهم، ولا يُكفِّرون منهم إلَّا من كَفَّره اللهُ ورسولُه، ويعتَقِدون أنَّ الحُكمَ بالكُفرِ والإيمانِ من أكبَرِ حقوقِ اللهِ وحقوقِ رَسولِه.

فمن جَحَد ما جاء به الرَّسولُ أو جحَدَ بعضَه غيرَ متأوِّلٍ من أهلِ البِدَعِ، فهو كافرٌ؛ لأنَّه كَذَّب اللهَ ورسولَه، واستكبر على الحَقِّ وعانَده، فكُلُّ مبتدعٍ من جَهميٍّ وقَدَريٍّ وخارجيٍّ ورافضيٍّ ونحوِهم، عَرَف أنَّ بدعَتَه مناقِضةٌ لِما جاء به الكِتابُ والسُّنَّة، ثمَّ أصرَّ عليها ونصَرَها؛ فهو كافِرٌ باللهِ العظيمِ، مُشاقٌّ للهِ ورَسولِه من بعدِ ما تَبيَّنَ له الهدى.

ومن كان من أهلِ البِدَعِ مُؤمنًا باللهِ ورَسولِه ظاهرًا وباطنًا، مُعَظِّمًا للهِ ورَسولِه، ملتزمًا ما جاء به الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولكِنَّه خالف الحَقَّ وأخطأ في بعضِ المقالاتِ، وأخطَأ في تأويلِه، من غيرِ كُفرٍ وجَحْدٍ للهُدى الذي تبيَّنَ له؛ لم يكنْ كافرًا، ولكنَّه يكونُ فاسقًا مبتَدِعًا، أو مبتَدِعًا ضالًّا، أو معفوًّا عنه لخفاءِ المقالةِ، وقوَّةِ اجتهادِه في طَلَبِ الحَقِّ الذي لم يظفَرْ به.

ولهذا كان الخوارجُ والمُعتَزِلةُ والقدَريَّةُ ونحوُهم من أهلِ البِدَعِ أقسامًا متنَوِّعةً ... ومن أهلِ البِدَعِ من هو دونَ هؤلاءِ، ككثيرٍ مِن القَدَريَّةِ وكالكُلَّابيَّةِ والأشعريَّةِ، فهؤلاء مبتَدِعةٌ ضالُّون في الأصولِ التي خالفوا فيها الكتابَ والسُّنَّةَ، وهي معروفةٌ مشهورةٌ، وهم في بِدَعِهم مراتِبُ بحَسَبِ بُعْدِهم عن الحَقِّ وقُربِهم، وبحسَبِ بَغْيِهم على أهلِ الحَقِّ بالتكفيرِ والتفسيقِ والتبديعِ، وبحسَبِ قُدرتِهم على الوصولِ إلى الحَقِّ، واجتهادِهم فيه، وضِدِّ ذلك، وتفصيلُ القولِ فيه يطولُ جِدًّا)(39).

فهذا الذي تقَرَّر هو منهجُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ، الذين هم أعلَمُ النَّاسِ بالحَقِّ، وأرحمُهم بالخَلقِ، وأمَّا غيرُهم من الفِرَقِ فقد أسرَفوا في تكفيرِ مخالِفيهم، بناءً على ما قرَّروه من أنَّ ما هم عليه أصولٌ لا يُعذَرُ أحدٌ بمخالفتِها لشُبهةٍ أو لغيرِ شُبهةٍ.

المَزلَقُ الرَّابِعُ: اعتِدادُهم برَأيِهم وجُرأتُهم على مُخالَفةِ الرَّاسِخينَ في العِلمِ

وبَعدَ أنِ انتَهوا إلى تَكفيرِ الأشاعِرةِ بحُجَّةِ أنَّهم جَهميَّةٌ أو أسوأُ مِنَ الجَهميَّةِ، لَم يَقِفوا عِندَ هذا الحَدِّ، بَل وقَعوا في مَزلَقٍ رابِعٍ لا يَقِلُّ خُطورةً عَنِ المَزالِقِ السَّابِقةِ، يَكشِفُ عَن عُمقِ الخَلَلِ في هذا المَنهَجِ، يَتَمَثَّلُ هذا المَزلَقُ في تَقديمِ فَهمِهمُ القاصِرِ على أقوالِ كِبارِ العُلَماءِ الرَّبَّانيِّينَ الرَّاسِخينَ في العِلمِ.

فكانَ ذلك أصلَ الِانحِرافِ ومُكَمِّلَ الضَّلالِ، وهو تَكفيرُ عُلَماءِ الأشاعِرةِ بأعيانِهم، وهو ما لَم يَفعَلْه الإمامُ أحمَدُ مَعَ كلِّ أعيانِ الجَهميَّةِ أنفُسِهم فضلًا عَنِ الأشاعِرةِ، ولا شَيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّةَ مَعَ الأشاعِرةِ الذينَ آذَوه وسجَنوه، مَعَ أنَّه كانَ أعلَمَ النَّاسِ بمَذهَبِهم وانحِرافاتِهم.

إنَّ مُخالَفةَ هؤلاء لكِبارِ عُلَماءِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ لا يُمكِنُ تَفسيرُها إلَّا باعتِقادِهم أنَّهم أحرَصُ على العَقيدةِ السَّلَفيَّةِ مِن أئِمَّتِها، أو أنَّهم أعلَمُ بالأشاعِرةِ مِنَ العُلَماءِ الرَّبَّانيِّينَ الذينَ خالَطوهم وناقَشوهم وخَبَروا مَقالاتِهم.

ولكَي يُدرِكَ القارِئُ فداحةَ هذا المَنهَجِ، فقد جُمِعَ فيما يَلي ثَناءُ كِبارِ أئِمَّةِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ على الأشاعِرةِ، وعلى عَدَدٍ مِن عُلَمائِهم -ولا يَعني ذلك موافَقَتَهم فيما أخطَؤوا فيه- وذلك لإبرازِ حَجمِ الخَلَلِ في إطلاقِ التَّكفيرِ على طائِفةٍ عَريضةٍ مِن عُلَماءِ الأُمَّةِ.

قال ابن تيميَّة: (فإنَّ تَسليطَ الجُهَّالِ على تَكفيرِ عُلماءِ المُسلمينَ مِن أعظَمِ المُنكَراتِ، وإنَّما أصلُ هذا مِنَ الخَوارجِ وَالرَّوافِضِ الذينَ يُكَفِّرونَ أئمَّةَ المُسلمينَ؛ لِما يَعتَقِدونَ أنَّهم أخطَؤوا فيه مِنَ الدِّينِ. وقد اتَّفَقَ أهلُ السُّنَّةِ والجَماعَةِ على أنَّ عُلماءَ المُسلمينَ لا يَجوزُ تَكفيرُهم بِمُجرَّدِ الخَطَأِ المحضِ، بَل كُلُّ أحَدٍ يُؤخَذُ مِن قَولِه ويُترَكُ إلَّا رَسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم. وليس كُلُّ مَن يُترَكُ بَعضُ كَلامِهِ لخَطَأٍ أخطَأه يُكَفَّرُ ولا يُفَسَّقُ، بل وَلا يَأثَمُ.)(40)

وقَبلَ الشُّروعِ في نَقلِ بَعضِ أقوالِ العُلَماءِ، أسرُدُ للقارِئِ قائِمةً بأسمائِهم ليُدرِكَ أنَّ مُخالَفةَ هؤلاء إنَّما وقَعَت مَعَ كِبارِ أئِمَّةِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ، وقدِ اقتَصَرتُ في النَّقلِ على أعلامِ المَدرَسَتَينِ التَّيميَّةَ والوهَّابيَّةِ؛ لما عُرِفَ عنهم مِن شِدَّةِ العِنايةِ بحِراسةِ العَقيدةِ والذَّبِّ عَن جَنابِ التَّوحيدِ.

ومع قيامِهم بنُصرةِ الحَقِّ والرَّدِّ على المخالِفين، لم يمنَعْهم ذلك من قَولِ كَلِمةِ الإنصافِ في مواضِعِها، ولا من النَّظَرِ بعَينِ الرِّضا إلى ما أصاب فيه خُصومُهم، مع التَّنبيهِ على ما وقَعوا فيه من خطَأٍ وبيانِه.

وهم: ابنُ تيميَّةَ، ابنُ عَبدِ الهادي، الذَّهَبيُّ، ابنُ القَيِّمِ، ابنُ كَثيرٍ، ابنُ رَجَبٍ، حَمَدُ بنُ ناصِرِ بنِ معمرٍ، عَبدُ اللَّهِ بنُ الإمامِ مُحَمَّدِ بنِ عَبدِ الوهَّابِ، عَبدُ الرَّحمَنِ بنُ حَسَن آل الشَّيخِ، مُحَمَّدُ بنُ إبراهيمَ آل الشَّيخِ، ابنُ بازٍ، ابنُ عُثَيمينَ، اللَّجنةُ الدَّائِمةُ للبُحوثِ العِلميَّةِ والإفتاءِ.

فإن لم يكُنْ هؤلاء هم أعلَمَ النَّاسِ بأقوالِ السَّلَفِ، وأقْدَرَهم على فَهمِها، وأشَدَّهم ذَبًّا عنها؛ فلا يبقى في الدُّنيا اليومَ مَن يستَحِقُّ وَصفَ السَّلَفيِّ. وإنَّما يتطاوَلُ الجاهِلُ فيَحسَبُ نَفسَه عظيمًا، وهو عندَ التَّحقيقِ كنَملةٍ تظُنُّ أنَّها أضخَمُ من فيلٍ!

أوَّلًا: ثَناءُ العُلَماءِ على الأشاعِرةِ ومَوقِفُهم منهم

1- قال ابنُ تيميَّةَ: (في كَلامِهم مِنَ الأدِلَّةِ الصَّحيحةِ وموافَقةِ السُّنَّةِ ما لا يوجَدُ في كَلامِ عامَّةِ الطَّوائِفِ؛ فإنَّهم أقرَبُ طَوائِفِ أهلِ الكَلامِ إلى السُّنَّةِ والجَماعةِ والحَديثِ، وهم يُعَدُّونَ مِن أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ عِندَ النَّظَرِ إلى مِثلِ المُعتَزِلةِ والرَّافِضةِ ونَحوِهم، بَل هُم أهلُ السُّنَّةِ والجَماعةِ في البِلادِ التي يَكونُ أهلُ البِدَعِ فيها المُعتَزِلةَ والرَّافِضةَ ونَحوَهم)(41).

وقال عنهم: إنَّهم (أقرَبُ إلى السُّنَّةِ والحَقِّ مِن جَهميَّةِ الفَلاسِفةِ والمُعتَزِلةِ ونَحوِهم باتِّفاقِ جَماهيرِ المُسلِمينَ)(42).

وقال أيضًا عنهم: (ما مِن هؤلاء إلَّا مَن له في الإسلامِ مَساعٍ مَشكورةٌ، وحَسَناتٌ مَبرورةٌ، وله في الرَّدِّ على كَثيرٍ مِن أهلِ الإلحادِ والبِدَعِ، والِانتِصارِ لكَثيرٍ مِن أهلِ السُّنَّةِ والدِّينِ: ما لا يَخفى على مَن عَرَفَ أحوالَهم، وتَكَلَّمَ فيهم بعِلمٍ وصِدقٍ وعَدلٍ وإنصافٍ)(43).

2- جاءَ في فتاوى اللَّجنةِ الدَّائِمةِ للبُحوثِ العِلميَّةِ والإفتاءِ: (الأشعَريَّةُ هُم: أتباعُ أبي الحَسَنِ الأشعَريِّ، وأنصارُ مَذهَبِه عَقيدةً واستِدلالًا، وهو ومَن تَبِعَه أقرَبُ الطَّوائِفِ إلى أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ، فيُحمَدونَ على ما وافَقوا فيه أهلَ السُّنَّةِ والجَماعةِ، ويُخَطَّؤونَ فيما خالَفوهم فيه)(44).

وقالوا في مَوضِعٍ آخَرَ: (الأشاعِرةُ ليسوا كُفَّارًا، وإنَّما أخطَؤوا في تَأويلِهم بَعضَ الصِّفاتِ)(45).

3- وقال ابنُ بازٍ: (الأشاعِرةُ مِن أهلِ السُّنَّةِ في غالِبِ الأُمورِ، ولَكِنَّهم لَيسوا مِنهُم في تَأويلِ الصِّفاتِ، ولَيسوا بكُفَّارٍ، بَل فيهمُ الأئِمَّةُ والعُلَماءُ والأخيارُ، ولَكِنَّهم غَلِطوا في تَأويلِ بَعضِ الصِّفاتِ)(46).

وقال رادًّا على مَنِ اتَّهَمَ السَّلَفيِّينَ بأنَّهم يُكَفِّرونَ الأشاعِرةَ أمثالَ النَّوويِّ وابنِ حَجَرٍ: (ليس مِن أهلِ العِلمِ السَّلَفيِّينَ مَن يُكَفِّرُ هؤلاء الذينَ ذَكَرتَهم، وإنَّما يوضِّحونَ أخطاءَهم في تَأويلِ الكَثيرِ مِنَ الصِّفاتِ، ويوضِّحونَ أنَّ ذلك خِلافُ مَذهَبِ سَلَفِ الأُمَّةِ، ولَيسَ ذلك تَكفيرًا لَهم ولا تَمزيقًا لشَملِ الأُمَّةِ، ولا تَفريقًا لصَفِّهم، وإنَّما في ذلك النُّصحُ للَّهِ ولعِبادِه، وبَيانُ الحَقِّ، والرَّدُّ على مَن خالَفَه بالأدِلَّةِ النَّقليَّةِ والعَقليَّةِ)(47).

4- ومِنَ المَواقِفِ التي تُبرِزُ تَعامُلَ العُلَماءِ مَعَ الأشاعِرةِ ما كانَ مِن جِهادِ آلِ قُدامةَ تَحتَ رايةِ صَلاحِ الدِّينِ الأيُّوبيِّ، الذي كانَ على المَذهَبِ الأشعَريِّ، وفَرَضَ تَدريسَ العَقيدةِ الأشعَريَّةِ في عَصرِه، قال ابنُ كَثيرٍ عَنِ الشَّيخِ أبي عُمَرَ مُحَمَّدِ بنِ أحمَدَ بنِ قُدامةَ المَقدِسيِّ:

(هو أخو الشَّيخِ موفَّقِ الدِّينِ عَبدِ اللَّهِ بنِ أحمَدَ بنِ مُحَمَّدِ بنِ قُدامةَ، وكانَ أبو عُمَرَ أسَنَّ مِنهُ... وكانَ هو وأخوه وابنُ خالِهمُ الحافِظُ عَبدُ الغَنيِّ وأخوه الشَّيخُ العِمادُ لا يَنقَطِعونَ عَن غَزاةٍ يَخرُجُ فيها المَلِكُ صَلاحُ الدِّينِ إلى بلادِ الفِرِنجِ، وقد حَضَروا مَعَه فتحَ القُدسِ الشَّريفِ وغَيرِها)(48).

وقد عَدَّه ابنُ تيميَّةَ أحَدَ مُلوكِ السُّنَّةِ وهو يعلمُ قطعًا أنَّه أشعريٌّ، فقال: (...ثُمَّ بَعدَ مَوتِه فتَحَها مُلوكُ السُّنَّةِ، مِثلُ صَلاحِ الدِّينِ، وظَهَرَت فيها كَلِمةُ السُّنَّةِ المُخالِفةُ للرَّافِضةِ، ثُمَّ صارَ العِلمُ والسُّنَّةُ يَكثُرُ بها ويَظهَرُ)(49).

ثانيًا: ثَناءُ عُلَماءِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ على عُلَماءَ أشاعِرةٍ بأعيانِهم

عُلَماءُ الأشاعِرةِ كُثُرٌ في شَتَّى العُلومِ، غَيرَ أنَّ الذي يَعنينا هُنا هُم أولئك الأعلامُ المُبرزونَ مِنهُم في عُلومِ الحَديثِ والفِقهِ وسائِرِ العُلومِ الشَّرعيَّةِ، وسيَقتَصِرُ الكَلامُ هُنا عَن سِتَّةٍ مِنهُم بما يَسَعُ المَقامُ، وهمُ: البَيهَقيُّ، وابنُ الصَّلاحِ، والعِزُّ بنُ عَبدِ السَّلامِ، والنَّوويُّ، وابنُ دَقيقِ العيدِ، وابنُ حَجَرٍ العَسقَلانيُّ.

1- ثَناءُ العُلَماءِ على الحافِظِ أبي بَكرٍ أحمَدَ بنِ الحُسَينِ البَيهَقيِّ (458هـ)

قال ابنُ تيميَّةَ: (الحافِظُ أبو بَكرٍ البَيهَقيُّ وأمثالُه أقرَبُ إلى السُّنَّةِ مِن كَثيرٍ مِن أصحابِ الأشعَريِّ المُتَأخِّرينَ)(50).

وقال: (والبَيهَقيُّ أعلَمُ أصحابِ الشَّافِعيِّ بالحَديثِ وأنصَرُهم للشَّافِعيِّ)(51).

وقال ابنُ عبدِ الهادي: (البَيهَقيُّ الإمامُ، الحافِظُ، العَلَّامةُ، شَيخُ خُراسانَ، ... صَنَّفَ كُتُبًا لَم يُسبَقْ إلى مِثلِها، مِنها: "السُّنَنُ الكَبيرُ" و"السُّنَنُ الصَّغيرُ...)(52).

وقال الذَّهبيُّ في ترجمتِه: (هو الحافِظُ العَلَّامةُ، الثَّبتُ، الفَقيهُ، شَيخُ الإسلامِ، أبو بَكرٍ ... بورِكَ له في عِلمِه، وصَنَّفَ التَّصانيفَ النَّافِعةَ ... وانقَطَعَ بقَريَتِه مُقبِلًا على الجَمعِ والتَّأليفِ، ... ولَو شاءَ البَيهَقيُّ أن يَعمَلَ لنَفسِه مَذهَبًا يَجتَهِدُ فيه لَكانَ قادِرًا على ذلك؛ لسَعةِ عُلومِه، ومَعرِفَتِه بالاختِلافِ؛ ولهذا تَراه يُلَوِّحُ بنَصرِ مَسائِلَ مِمَّا صَحَّ فيها الحَديثُ)(53).

وقال عنه: (...وهو أوَّلُ مَن جَمَعَ نُصوصَ الشَّافِعيِّ، واحتَجَّ لَها بالكِتابِ والسُّنَّةِ)(54).

وقال عنه ابنُ كَثيرٍ: (أحَدُ الحُفَّاظِ الكِبارِ له التَّصانيفُ التي سارَت بها الرُّكبانُ في سائِرِ الأمصارِ والأقطارِ)(55).

2- ثَناءُ العُلَماءِ على الشَّيخِ أبي عَمرٍو عُثمانَ بنِ عَبدِ الرَّحمَنِ بنِ الصَّلاحِ (643هـ)

نَقَلَ ابنُ تيميَّةَ عنه كَثيرًا، ودائِمًا ما كانَ يُطلِقُ عليه لَقَبَ الشَّيخِ؛ قال الشَّيخُ أبو عَمرو بنُ الصَّلاحِ، وكانَ الشَّيخُ أبو عَمرو بنُ الصَّلاحِ(56).

وقال ابنُ عَبدِ الهادي: (ابنُ الصَّلاحِ الإمامُ، الحافِظُ، شَيخُ الإسلامِ، تَقيُّ الدِّينِ)(57).

وقال الذَّهبيُّ في ترجمتِه: (الإمامُ، الحافِظُ، العَلَّامةُ، شَيخُ الإسلامِ، تَقيُّ الدِّينِ، ... أشغَلَ، وأفتى، وجَمَعَ وألَّفَ، تَخَرَّجَ بهِ الأصحابُ، وكانَ مِن كِبارِ الأئِمَّةِ ... كانَ ذا جَلالةٍ عَجيبةٍ، ووقارٍ وهَيبةٍ، وفَصاحةٍ، وعِلمٍ نافِعٍ)(58).

وقال ابنُ القَيِّمِ: (وقدِ اختُلِفَ في وُجودِ هذه الرَّائِحةِ مِنَ الصَّائِمِ، هَل هيَ في الدُّنيا، أو في الآخِرةِ؟ على قَولَينِ.

وقد وقَعَ بَينَ الشَّيخَينِ الفاضِلَينِ أبي مُحَمَّدِ بنِ عَبدِ السَّلامِ وأبي عَمرِو بنِ الصَّلاحِ في ذلك تَنازُعٌ)(59).

وقال ابنُ كثيرٍ: (الإمامُ العَلَّامةُ مُفتي الإسلامِ تَقيُّ الدِّينِ أبو عَمْرو ... يَكرَهُ طَرائِقَ الفَلسَفةِ والمَنطِقِ، يَغُضُّ مِنها ولا يُمَكِّنُ مِن قِراءَتِها بالبَلَدِ، والمُلوكُ تُطيعُه في ذلك)(60).

وقال ابنُ رَجَبٍ: (الحافِظُ تَقيُّ الدِّينِ بنُ الصَّلاحِ)(61).

وقال مُحَمَّدُ بنُ إبراهيمَ آل الشَّيخِ: (العَلَّامةُ ابنُ الصَّلاحِ)(62).

3- ثَناءُ العُلَماءِ على الفَقيهِ عَبدِ العَزيزِ بنِ عَبدِ السَّلامِ (660هـ)

قال ابنُ تيميَّةَ: (حَدَّثَني صاحِبُنا العالِمُ الفاضِلُ أبو بَكرِ بنُ سالار: عَنِ الشَّيخِ تَقيِّ الدِّينِ ابنِ دَقيقِ العيدِ -شَيخِ وقتِه- عَنِ الإمامِ أبي مُحَمَّدِ بنِ عَبدِ السَّلامِ أنَّهم سَألوه عَنِ ابنِ عَرَبيّ لَمَّا دَخَلَ مِصرَ، فقال: شَيخُ سوءٍ كَذَّابٌ مَقبوحٌ)(63).

وقال: (ورَأيتُ في فتاوى الفَقيهِ أبي مُحَمَّدِ بنِ عَبدِ السَّلامِ، قال: ...)(64).

وقال الذَّهبيُّ: (شَيخُ الإسلامِ، وبَقيَّةُ الأئِمَّةِ الأعلامِ، ... دَرَّسَ وأفتى وصَنَّفَ، وبَرَعَ في المَذهَبِ، وبَلَغَ رُتبةَ الِاجتِهادِ، ... وكانَ إمامًا، ناسِكًا، ورِعًا، عابِدًا، أمَّارًا بالمَعروفِ، نَهَّاءً عَنِ المُنكَرِ، لا يَخافُ في اللَّهِ لَومةَ لائِمٍ)(65).

وقال ابنُ كثيرٍ: (الإمامُ العَلَّامةُ وحيدُ عَصرِه ... جَمَعَ مِن فُنونِ العُلومِ العَجَبَ العُجابَ مِنَ التَّفسيرِ والحَديثِ والفِقهِ والعَرَبيَّةِ والأُصولِ، واختِلافِ المَذاهِبِ والعُلَماءِ، وأقوالِ النَّاسِ ومَآخِذِهم، حَتَّى قيلَ: إنَّه بَلَغَ رُتبةَ الِاجتِهادِ)(66).

وقال ابنُ رجَبٍ: (مَشايِخُ العُلَماءِ، كابنِ الصَّلاحِ، وابنِ عَبدِ السَّلامِ، ...)(67).

وقال عنه: (الشَّيخُ عِزُّ الدِّينِ بنُ عَبدِ السَّلامِ شَيخُ الشَّافِعيَّةِ)(68).

ونَعَتَه حَمَدُ بنُ ناصِرِ بنِ معمرٍ (1225ه) بالفَقيهِ، فقال: (وهذا ذَكَرَه الفَقيهُ أبو مُحَمَّدٍ العِزُّ بنُ عَبدِ السَّلامِ في فتاويه)(69).

ونَعَتَه أيضًا عَبدُ اللَّهِ بنُ مُحَمَّدِ بنِ عَبدِ الوهَّابِ (1242هـ) بالفَقيهِ، فقال: (الشَّيخُ أبو مُحَمَّدِ بنُ عَبدِ السَّلامِ، الفَقيهُ الشَّافِعيُّ)(70).

4- ثَناءُ العُلَماءِ على الإمامِ أبي زَكَريَّا يَحيى بنِ شَرَف النَّوويِّ (676هـ)

نعَتَه ابنُ تَيميَّةَ بالإمامةِ في أكثَرَ مِن مَوضِعٍ في كُتُبِه، بقَولِه: الإمامُ أبو زَكَريَّا يَحيى النَّوويُّ رَحِمَه اللَّه، قال الإمامُ النَّوويُّ...(71).

وقال ابنُ عَبدِ الهادي: (الإمامُ، الفَقيهُ، الحافِظُ الأوحَدُ، القُدوةُ، الزَّاهِدُ)(72).

وقال الذَّهَبيُّ في ترجمتِه: (مُفتي الأُمَّةِ، شَيخُ الإسلامِ، ...، الحافِظُ الفَقيهُ الشَّافِعيُّ الزَّاهِدُ ... وقد نَفَعَ اللَّهُ الأُمَّةَ بتَصانيفِه، وانتَشَرَت في الأقطارِ وجُلِبَت إلى الأمصارِ، فمِنها: ...)(73).

وقال عنه: (الإمامُ الحافِظُ الأوحَدُ القُدوةُ شَيخُ الإسلامِ...)(74).

ونَعَتَه ابنُ القَيِّمِ في أكثَرَ مِن مَوضِعٍ في كِتابِه "جَلاء الأفهامِ" بالمَشيَخةِ(75).

وقال ابنُ كثيرٍ: (العَلَّامةُ شَيخُ المَذهَبِ، وكَبيرُ الفُقَهاءِ في زَمانِه... وقد كانَ مِنَ الزَّهادةِ والعِبادةِ والورَعِ والتَّحَرِّي والِانجِماعِ عَنِ النَّاسِ على جانِبٍ كَبيرٍ، لا يَقدِرُ عليه أحَدٌ مِنَ الفُقَهاءِ غَيرُه... وكانَ لا يُضَيِّعُ شَيئًا مِن أوقاتِه، وحَجَّ في مُدَّةِ إقامَتِه بدِمَشقَ، وكانَ يَأمُرُ بالمَعروفِ ويَنهى عَنِ المُنكَرِ للمُلوكِ وغَيرِهم)(76).

وقال عنه: (الشَّيخُ الإمامُ العَلَّامةُ ... مُحَرِّرُ المَذهَبِ ومُهَذِّبُه، وضابِطُه ومُرَتِّبُه...)(77).

وقال ابنُ رجَبٍ في أوَّلِ شَرحِه للأربَعينَ النَّوويَّةِ: (...أملى الإمامُ الحافِظُ أبو عَمرِو بنُ الصَّلاحِ مَجلِسًا سَمَّاه "الأحاديث الكُلِّيَّة"، جَمَعَ فيه الأحاديثَ الجَوامِعَ التي يُقالُ: إنَّ مَدارَ الدِّينِ عليها، وما كانَ في مَعناها مِنَ الكَلِماتِ الجامِعةِ الوجيزةِ، فاشتَمَلَ مَجلِسُه هذا على سِتَّةٍ وعِشرينَ حَديثًا.

ثُمَّ إنَّ الفَقيهَ الإمامَ الزَّاهِدَ القُدوةَ أبا زَكَريَّا يَحيى النَّوويَّ -رَحمةُ اللَّهِ عليه- أخَذَ هذه الأحاديثَ التي أملاها ابنُ الصَّلاحِ، وزادَ عليها تَمامَ اثنَينِ وأربَعينَ حَديثًا، وسمَّى كِتابَه "بالأربَعينَ"، واشتَهَرَت هذه الأربَعونَ التي جَمَعَها، وكَثُرَ حِفظُها، ونَفَعَ اللَّهُ بها ببَرَكةِ نيَّةِ جامِعِها، وحُسنِ قَصدِه رَحِمَه اللَّهُ))(78).

وقال حَمَدُ بنُ ناصِرِ بنِ معمرٍ (1225هـ): (تَأمَّل: هذا البابَ الذي ذَكَرَه النَّوويُّ رَحِمَه اللَّهُ، وهو إمامُ الشَّافِعيَّةِ على الإطلاقِ)(79).

وقال عَبدُ اللَّهِ بنُ الإمامِ مُحَمَّدِ بنِ عَبدِ الوهَّابِ (1242هـ): (وللَّهِ دَرُّ النَّوويِّ في جَمعِه كِتابَ الأذكارِ، فعلى الحَريصِ على ذلك بهِ؛ ففيه الكِفايةُ للموفَّقِ)(80).

وقال عَبدُ الرَّحمَنِ بنُ حَسَن آل الشَّيخِ (1285هـ): (انظُرْ إلى ما حَكاه النَّوويُّ رَحِمَه اللَّهُ مِن أنَّ الصَّحيحَ الذي قالهُ الأكثَرونَ المُحَقِّقونَ: أنَّ الخَوارِجَ لا يُكَفَّرونَ ببِدعَتِهم، وحَسبُكَ بهذا الإمامِ)(81).

وقال مُحَمَّدُ بنُ إبراهيمَ آل الشَّيخِ: (كما ذَكَرَ الإمامُ أبو زَكَريَّا النَّوويُّ وغَيرُه)(82).

وقال ابنُ بازٍ: (مِن أحسَنِ الكُتُبِ المُختَصَرةِ التي تَنفَعُ العامَّةَ، كِتابُ (رياض الصَّالِحينَ) للإمامِ النَّوويِّ رَحِمَه اللَّهُ، وكِتابُ (بُلوغ المَرامِ) للإمامِ الحافِظِ ابنِ حَجَرٍ، وهذه كُتُبٌ مُفيدةٌ نافِعةٌ، ويَنبَغي العِنايةُ بها والحِرصُ عليها والِاستِفادةُ مِنها)(83).

وقال ابنُ عُثَيمين في أوَّلِ شَرحِ ((رياض الصَّالِحينَ)): (... "رياضُ الصَّالِحينَ" الذي ألَّفَه الشَّيخُ الحافِظُ النَّوويُّ رَحِمَه اللَّهُ، وهو كِتابٌ جَيِّدٌ...

وقد طَلَبَ رَحِمَه اللَّهُ مِمَّنِ انتَفَعَ بهِ أن يَدعوَ له ولوالِدَيه ولسائِرِ المُسلِمينَ، فنَسألُ اللَّهَ أن يَغفِرَ له ولوالِدَيه ولسائِرِ المُسلِمينَ، وأن يَجمَعَنا وإيَّاه وإخوانَنا المُؤمِنينَ في دارِ كَرامَتِه؛ إنَّه جَوادٌ كَريمٌ)(84).

وقال في أوَّلِ شَرحِ ((الأربَعينَ النَّوويَّةِ)):

(الحافِظُ النَّوويُّ رَحِمَه اللَّهُ مِن أصحابِ الشَّافِعيِّ المُعتَبَرةِ أقوالُه، ومِن أشَدِّ الشَّافِعيَّةِ حِرصًا على التَّأليف؛، فقد ألَّفَ في فُنونٍ شَتَّى؛ في الحَديثِ وعُلومِه، وألَّفَ في عِلمِ اللُّغةِ كِتابَ تَهذيبِ الأسماءِ واللُّغاتِ، وهو في الحَقيقةِ مِن أعلَمِ النَّاسِ، والظَّاهِرُ -واللَّهُ أعلَمُ- أنَّه مِن أخلَصِ النَّاسِ في التَّأليفِ؛ لأنَّ تَأليفاتِه -رَحِمَه اللَّهُ- انتَشَرَت في العالَمِ الإسلاميِّ، فلا تَكادُ تَجِدُ مَسجِدًا إلَّا ويُقرَأُ فيه كِتابُ "رياض الصَّالِحينَ"، وكُتُبُه مَشهورةٌ مَبثوثةٌ في العالَمِ؛ مِمَّا يَدُلُّ على صِحَّةِ نيَّتِه، فإنَّ قَبولَ النَّاسِ للمُؤَلَّفاتِ مِنَ الأدِلَّةِ على إخلاصِ النِّيَّةِ.

وهو -رَحِمَه اللَّهُ- مُجتَهِدٌ، والمُجتَهِدُ يُخطِئُ ويُصيبُ، وقد أخطَأ -رَحِمَه اللَّهُ- في مَسائِلِ الأسماءِ والصِّفاتِ، فكانَ يُؤَوِّلُ فيها لَكِنَّه لا يُنكِرُها...

ومِثلُ هذه المَسائِلِ التي وقَعَ مِنهُ -رَحِمَه اللَّهُ- خَطَأٌ في تَأويلِ بَعضِ نُصوصِ الصِّفاتِ، إنَّه لَمَغمورٌ بما له مِن فضائِلَ ومَنافِعَ جَمَّةٍ، ولا نَظُنُّ أنَّ ما وقَعَ مِنهُ إلَّا صادِرٌ عَنِ اجتِهادٍ وتَأويلٍ سائِغٍ -ولَو في رَأيِه- وأرجو أن يَكونَ مِنَ الخَطَأِ المَغفورِ، وأن يَكونَ ما قدَّمَه مِنَ الخَيرِ والنَّفعِ مِنَ السَّعيِ المَشكورِ، وأن يَصدُقَ عليه قَولُ اللَّهِ تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114].

فالنَّوويُّ نَشهَدُ له -فيما نَعلَمُ مِن حالِه- بالصَّلاحِ، وأنَّه مُجتَهِدٌ، وأنَّ كُلَّ مُجتَهِدٍ قد يُصيبُ وقد يُخطِئُ، إن أخطَأ فلَه أجرٌ واحِدٌ، وإن أصابَ فلَه أجرانِ)(85).

5- ثَناءُ العُلَماءِ على أبي الفَتحِ مُحَمَّدِ بنِ عَليِّ بنِ دَقيقِ العيدِ القُشَيريِّ (702هـ)

قال ابنُ تيميَّةَ: (الشَّيخُ الإمامُ قاضي القُضاةِ تَقيُّ الدِّينِ ابنُ دَقيقِ العيدِ)(86).

وقال ابنُ عبدِ الهادي: (الإمامُ، الفَقيهُ، الحافِظُ، العَلَّامةُ الأوحَدُ، الشَّيخُ تَقيُّ الدِّينِ)(87).

وقال الذَّهَبيُّ: (ابنُ دَقيقِ العيدِ الإمامُ الفَقيهُ المُجتَهِدُ المُحَدِّثُ الحافِظُ العَلَّامةُ شَيخُ الإسلامِ تَقيُّ الدِّينِ ...كانَ مِن أذكياءِ زَمانِه، واسِعَ العِلمِ، كَثيرَ الكُتُبِ، مُديمًا للسَّهَرِ، مُكِبًّا على الِاشتِغالِ، ساكِنًا وقورًا وَرِعًا، قَلَّ أن تَرى العُيونُ مِثلَه)(88).

وقال ابنُ كثيرٍ: (الشَّيخُ الإمامُ، العالِمُ العَلَّامةُ، الحافِظُ، ... سَمِعَ الحَديثَ الكَثيرَ، ورَحَلَ، وخَرَّجَ، وصَنَّفَ فيه -إسنادًا ومَتنًا- مُصَنَّفاتٍ عَديدةً فريدةً مُفيدةً، وانتَهَت إليه رياسةُ العِلمِ في زَمانِه، وفاقَ أقرانَه)(89).

وقال ابنُ رجَبٍ: (العَلَّامةُ أبو الفَتحِ بنُ دَقيقِ العيدِ)(90).

وعَدَّه مِنَ الأئِمَّةِ الكِبارِ فقال في تَرجَمةِ أحمَدَ بنِ عَبدِ الدَّائِمِ المَقدِسيِّ: (رَوى عنه الأئِمَّةُ الكِبارُ، والحُفَّاظُ المُتَقدِّمونَ والمُتَأخِّرونَ، مِنهُمُ: الشَّيخُ مُحيي الدِّينِ النَّوويُّ، والشَّيخُ شَمسُ الدِّينِ بنُ أبي عُمَرَ، والشَّيخُ تَقيُّ الدِّينِ بنُ دَقيقِ العيدِ، والشَّيخُ تَقيُّ الدِّينِ بنُ تيميَّةَ، وخَلقٌ كَثيرٌ)(91).

وقال عَبدُ الرَّحمَنِ بنُ حَسَن آل الشَّيخِ (1285هـ): (شَيخُ الإسلامِ ابنُ دَقيقِ العيدِ)(92).

وقال أيضًا: (وما أحسَنَ ما قال الإمامُ ابنُ دَقيقِ العيدِ رَحِمَه اللَّهُ تَعالى)(93).

6- ثَناءُ العُلَماءِ على الحافِظِ أبي الفَضلِ أحمَدَ بنِ عَليِّ بنِ حَجَرٍ العَسقَلانيِّ (852هـ)

قال عَبدُ اللَّهِ بنُ مُحَمَّدِ بنِ عَبدِ الوهَّابِ (1242هـ): (إنَّا نَستَعينُ على فهمِ كِتابِ اللَّهِ بالتَّفاسيرِ المُتَداوَلةِ المُعتَبَرةِ، ... وعلى فهمِ الحَديثِ بشُروحِ الأئِمَّةِ المُبَرّزينَ: كالعَسقَلانيِّ، والقَسطَلَّانيِّ على البُخاريِّ، والنَّوويِّ على مُسلِمٍ، والمُناويِّ على الجامِعِ الصَّغيرِ)(94).

وقال عَبدُ الرَّحمَنِ بنُ حَسَن آل الشَّيخِ (1285هـ) عَن لُبسِ ما خالَطَه الحَريرُ مُحتَجًّا بقَولِ ابنِ حَجَرٍ: (قُلتُ: وقد قَرَّرَ هذا الحافِظُ في فتحِ الباري بأدِلَّتِه ... فهذا حافِظُ الدُّنيا في عَصرِه صَرَّحَ بتَحريمِ لُبسِ ما خالَطَه الحَريرُ)(95).

وجاءَ في اللَّجنةِ الدَّائِمةِ للبُحوثِ العِلميَّةِ والإفتاءِ قَولُهم: (... وأبو زَكَريَّا يَحيى النَّوويُّ، وابنُ حَجَرٍ العَسقَلانيُّ، وأمثالُهم مِمَّن تَأوَّلوا نُصوصَ صِفاتِ اللَّهِ تَعالى، أو فوَّضوا في أصلِ مَعناها، وهم في نَظَرِنا مِن كِبارِ عُلَماءِ المُسلِمينَ الذينَ نَفَعَ اللَّهُ بهِمُ الأُمَّةَ؛ فرَحِمَهمُ اللَّهُ وجَزاهم خَيرًا)(96).

وسُئِلَ ابنُ بازٍ: هُناكَ مَن يُحَذِّرُ مِن كُتُبِ الإمامِ النَّوويِّ وابنِ حَجَرٍ رَحِمَهما اللَّهُ تَعالى، ويَقولُ: إنَّهما لَيسا مِن أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ، فما الصَّحيحُ في ذلك؟

فأجابَ: (لَهم أشياءُ غَلِطوا فيها في الصِّفاتِ، ابنُ حَجَرٍ والنَّوويُّ وجَماعةٌ آخَرونَ لَهم أشياءُ غَلِطوا فيها، لَيسوا فيها مِن أهلِ السُّنَّةِ، وهم مِن أهلِ السُّنَّةِ فيما سَلِموا فيه ولَم يُحَرِّفوه هُم وأمثالُهم مِمَّن غَلِطَ)(97).

أمَّا التَّرَحُّمُ على عُلَماءِ الأشاعِرةِ فقد تَواتَرَ في كُتُبِ أهلِ السُّنَّةِ، وامتَلَأت بهِ مُصَنَّفاتُهم في التَّراجِمِ والوفَياتِ وغَيرِها؛ مِمَّا يَدُلُّ على إقرارِهم بإسلامِهم، وعَدَمِ إخراجِهم مِن دائِرةِ أهلِ القِبلةِ؛ إذِ التَّرَحُّمُ على الكافِرِ لا يَجوزُ بالإجماعِ، وإنَّما يَكونُ الدُّعاءُ بالمَغفِرةِ والرَّحمةِ خاصًّا بمَن ماتَ على الإسلامِ، ولَو وُجِدَت عِندَه بدعةٌ أو خَطَأٌ في الِاعتِقادِ.

فلا أدري كَيفَ يَسوغُ لمَن يَرفَعُ شِعارَ السَّلَفِ أن يُعرِضَ عَن أقوالِ هذه الكَوكَبةِ مِنَ العُلَماءِ الرَّاسِخينَ في العِلمِ، ويَستَخِفَّ بأقوالِهم ويُقدِّمَ عليها اجتِهادَه، ولا يَقبَلَ إلَّا ما استَحسَنَه رَأيُه القاصِرُ؟!

وقَبلَ الخِتامِ، يَحسُنُ التَّنبيهُ إلى أنَّ الغُلوَّ ليس مَقصورًا على طَرَفٍ دونَ آخَرَ؛ فكَما وُجِدَ فيمَن يَنتَسِبُ إلى أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ مَن غَلا فكَفَّرَ الأشاعِرةَ، فقد وُجِدَ في صُفوفِ الأشاعِرةِ -وهم أكثَرُ- مَن غَلا فكَفَّرَ أهلَ السُّنَّةِ والإثباتِ، واتَّهَمَهم بالتَّجسيمِ، بَل كَفَّرَ بَعضُهم أعيانًا مِن عُلَماءِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ، حَتَّى بَلَغَ الأمرُ بأن كَفَّرَ شَيخَ الإسلامِ ابنَ تيميَّةَ عَشَراتٌ مِنهُم، وكَما أنَّ في أهلِ السُّنَّةِ مَن كانَ مُنصِفًا فإنَّ في الأشاعِرةِ أيضًا مَن تَحَرَّى العَدلَ والإنصافَ.

ومِن تَمامِ الإنصافِ أن أنقُلَ هُنا نَماذِجَ مِن ثَناءِ ثَلاثةٍ مِن عُلَماءِ الأشاعِرةِ المشهورين على أشَدِّ خُصومِهم، وهو شَيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّةَ.

1- قال ابنُ دقيقِ العيدِ: (لَمَّا اجتَمَعتُ بابنِ تيميَّةَ رَأيتُ رَجُلًا العُلومُ كُلُّها بَينَ عَينَيه يَأخُذُ مِنها ما يُريدُ ويَدَعُ ما يُريدُ)(98)، وقال له مَرَّةً: (ما كُنتُ أظُنُّ أنَّ اللَّهَ تَعالى بَقيَ يَخلُقُ مِثلَكَ)(99).

2- وقال ابنُ حَجَرٍ العَسقَلانيُّ عنه: (وشُهرةُ إمامةِ الشَّيخِ تَقيِّ الدِّينِ ابنِ تيميَّةَ أشهَرُ مِنَ الشَّمسِ، وتَلقيبُه بشَيخِ الإسلامِ باقٍ إلى الآنَ على الألسِنةِ الزَّكيَّةِ، ويَستَمِرُّ غَدًا لما كانَ بالأمسِ، ولا يُنكِرُ ذلك إلَّا مَن جَهِلَ مِقدارَه وتَجَنَّبَ الإنصافَ، فما أكثَرَ غَلَطَ مَن تَعاطى ذلك، وأكثَرَ غُبارَه! فاللَّهُ تَعالى هو المَسؤولُ أن يَقيَنا شُرورَ أنفُسِنا وحَصائِدَ ألسِنَتِنا بمَنِّه وفَضلِه.

ولَو لَم يَكُنْ مِن فضلِ هذا الرَّجُلِ إلَّا ما نَبَّهَ عليه الحافِظُ الشَّهيرُ عَلَمُ الدِّينِ البرزاليُّ في تاريخِه أنَّه لَم يوجَدْ في الإسلامِ مَنِ اجتَمَعَ في جِنازَتِه لَمَّا ماتَ ما اجتَمَعَ في جِنازةِ الشَّيخِ تَقيِّ الدِّينِ، لَكَفى ... ومَعَ حُضورِ هذا الجَمعِ العَظيمِ فلَم يَكُنْ لذلك باعِثٌ إلَّا اعتِقادُ إمامَتِه وبَرَكَتِه، لا بجَمعِ سُلطانٍ ولا غَيرِه، وقد صَحَّ عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: أنتُم شُهَداءُ اللَّهِ في الأرضِ)(100).

وأنكَرَ ابنُ حَجَرٍ على مَن كَفَّرَ ابنَ تيميَّةَ مِنَ الأشاعِرةِ، فقال: (كَيفَ لا يُنكَرُ على مَن أطلَقَ عليه أنَّه كافِرٌ، بَل مَن أطلَقَ على مَن سَمَّاه شَيخَ الإسلامِ الكُفرَ، ولَيسَ في تَسميَتِه بذلك ما يَقتَضي ذلك؛ فإنَّه شَيخُ مَشايِخِ الإسلامِ في عَصرِه بلا رَيبٍ، والمَسائِلُ التي أُنكِرَت عليه ما كانَ يَقولُها بالتَّشَهِّي، ولا يُصِرُّ على القَولِ بها بَعدَ قيامِ الدَّليلِ عليه عِنادًا، وهذه تَصانيفُه طافِحةٌ بالرَّدِّ على مَن يَقولُ بالتَّجسيمِ والتَّبَرِّي مِنهُ، ومَعَ ذلك فهو بَشَرٌ يُخطِئُ ويُصيبُ، فالذي أصابَ فيه -وهو الأكثَرُ- يُستَفادُ مِنهُ ويُتَرَحَّمُ عليه بسَبَبِه، والذي أخطَأ فيه لا يُقَلَّدُ فيه، بَل هو مَعذورٌ؛ لأنَّ عُلَماءَ الشَّريعةِ شَهِدوا له بأنَّ أدَواتِ الِاجتِهادِ اجتَمَعَت فيه ...ومِن أعجَبِ العَجَبِ أنَّ هذا الرَّجُلَ كانَ مِن أعظَمِ النَّاسِ قيامًا على أهلِ البِدَعِ مِنَ الرَّوافِضِ والحُلوليَّةِ والِاتِّحاديَّةِ، وتَصانيفُه في ذلك كَثيرةٌ شَهيرةٌ، وفَتاويه فيهم لا تَدخُلُ تَحتَ الحَصرِ، فيا قُرَّةَ أعيُنِهم إذا سَمِعوا تَكفيرَه! ويا سُرورَهم إذا رَأوا مَن يُكَفِّرُه مِن أهلِ العِلمِ! ...ولَو لَم يَكُن للشَّيخِ تَقيِّ الدِّينِ مِنَ المَناقِبِ إلَّا تِلميذُه الشَّهيرُ الشَّيخُ شَمسُ الدِّينِ بنُ قَيِّمِ الجَوزيَّةِ صاحِبُ التَّصانيفِ النَّافِعةِ السَّارةِ التي انتَفَعَ بها الموافِقُ والمُخالِفُ، لَكانَ غايةً في الدَّلالةِ على عَظيمِ مَنزِلَتِه، فكَيفَ وقد شَهِدَ له بالتَّقدُّمِ في العُلومِ والتَّمييزِ في المَنطوقِ والمَفهومِ أئِمَّةُ عَصرِه مِنَ الشَّافِعيَّةِ وغَيرِهم فضلًا عَنِ الحَنابِلةِ؟! فالذي يُطلِقُ عليه مَعَ هذه الأشياءِ الكُفرَ، أو على مَن سَمَّاه شَيخَ الإسلامِ، لا يُلتَفَتُ إليه، ولا يُعَوَّلُ في هذا المَقامِ عليه، بَل يَجِبُ رَدعُه عَن ذلك إلى أن يُراجِعَ الحَقَّ ويُذعِنَ للصَّوابِ، واللَّهُ يَقولُ الحَقَّ وهو يَهدي السَّبيلَ، وحَسبُنا اللَّهُ ونِعمَ الوكيلُ)(101) انتهى كَلامُ ابنِ حَجَرٍ عَنِ ابنِ تيميَّةَ.

وتَرجَمَ له في ((الدُّرَر الكامِنة في أعيانِ المِائةِ الثَّامِنةِ)) بقَولِه: (أحمَدُ بنُ عَبدِ الحَليمِ بنِ عَبدِ السَّلامِ بنِ عَبدِ اللَّهِ بنِ أبي القاسِمِ بنِ تيميَّةَ الحَرَّانيُّ ثُمَّ الدِّمَشقيُّ الحَنبَليُّ، تَقيُّ الدِّينِ أبو العَبَّاسِ ... تَفَقَّهَ وتَمَهَّرَ وتَمَيَّزَ وتَقدَّمَ وصَنَّفَ ودَرَّسَ وأفتى، وفاقَ الأقرانَ، وصارَ عَجَبًا في سُرعةِ الِاستِحضارِ وقوَّةِ الجَنانِ، والتَّوسُّعِ في المَنقولِ والمَعقولِ، والإطالةِ على مَذاهِبِ السَّلَفِ والخَلَفِ)(102)

3- وتَرجَمَ له السُّيوطيُّ في ((طَبَقات الحُفَّاظِ)) بقَولِه: (ابنُ تيميَّةَ الشَّيخُ الإمامُ العَلَّامةُ الحافِظُ النَّاقِدُ الفَقيهُ المُجتَهِدُ المُفَسِّرُ البارِعُ شَيخُ الإسلامِ، عَلَمُ الزُّهَّادِ، نادِرةُ العَصرِ: تَقيُّ الدِّينِ أبو العَبَّاسِ أحمَدُ بنُ المُفتي شِهابِ الدِّينِ عَبدِ الحَليمِ ابنِ الإمامِ المُجتَهِدِ شَيخِ الإسلامِ مَجدِ الدِّينِ عَبدِ السَّلامِ ... وكانَ مِن بُحورِ العِلمِ، ومِنَ الأذكياءِ المَعدودينَ، والزُّهَّادِ والأفرادِ، ألَّفَ ثَلاثَمِائةِ مُجَلَّدةٍ، وامتُحِنَ وأوذيَ مِرارًا)(103).

الخاتمةُ:
وخُلاصةُ القَولِ: أنَّ المَنهَجَ الحَقَّ يَقتَضي العَدلَ مَعَ المُخالِفينَ، والإنصافَ مَعَ العُلَماءِ، فلا يُجحَدُ فضلُ الأشاعِرةِ فيما قدَّموه مِن عُلومٍ نافِعةٍ وخِدماتٍ جَليلةٍ لدينِ اللَّهِ، ولا يُسكَتُ في الوقتِ ذاتِه عَن أخطائِهم في أبوابِ الِاعتِقادِ ومَسائِلِ الصِّفاتِ. فالموفَّقُ هو مَن سارَ على مَنهَجِ السَّلَفِ، ناقِدًا بلا تَجريحٍ، ومُثنيًا بلا غُلوٍّ، جامِعًا بَينَ بَيانِ الحَقِّ ورَدِّ الباطِلِ، وبَينَ حِفظِ مَكانةِ أهلِ العِلمِ والدُّعاءِ لَهم بالرَّحمةِ والمَغفِرةِ.

فالإنصافُ وَسَطٌ بَينَ طَرَفَينِ: بَينَ مَن أسقَطَ الأشاعِرةَ بالكُلِّيَّةِ، وألغى جُهودَهم، وبَدَّعَ صالِحي عُلَمائِهم، وضَلَّلَهم وكَفَّرَهم، وبَينَ مَن غَلا فيهم حَتَّى جَعَلَ مَذهَبَهم هو الحَقَّ وحدَه وأنهم هم أهلُ السُّنَّةِ والجماعة أو من يرى أنَّهم من أهلِ السُّنَّةِ والجماعة(104)، أو رَأى أنَّ السُّكوتَ عَن أخطائِهم هو الأسلَمُ. وصَدَقَ مَن قال: العَدلُ أساسُ الإنصافِ، والإنصافُ قَرينُ العِلمِ، ومَن لَم يُنصِفْ لَم يَعدِلْ، ومَن لَم يَعدِلْ لَم يُصِبِ الحَقَّ.


 

نَسألُ اللَّهَ صلاحَ النيَّة، وأن يَرزُقَنا العِلمَ النَّافِعَ، والقَولَ السَّديدَ،

وحُسنَ الِاتِّباعِ لنَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم،

والِاقتِداءَ بأئِمَّةِ الهُدى؛ إنَّه وليُّ ذلك والقادِرُ عليه.

---------------------------------------------------

(2) يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (23/345).

(3) يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (12/466).

(4) يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (3/230).

(5) يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (23/346-349).

(6) يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (12/487).

(7) يُنظر: ((الدرر السنية)) (10/432).

(8) ((الفتاوى الكبرى)) (2/403).

(9) ((مجموع الفتاوى)) (6/55).

(10) ((مجموع الفتاوى)) (6/55).

(11) ((مجموع الفتاوى)) (12/206).

(12) يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (7/507).

(13) ينظر: ((المغني)) لابن قدامة (2/416).

(14) ((مجموع الفتاوى)) (12/488).

(15) يُنظر: ((المسائل الماردينية)) (ص: 158).

(16) يُنظر: ((الرد على البكري)) (2/ 494).

(17) ((بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية)) (6/ 416).

وينظر: ((إبطال التأويلات)) للقاضي أبي يعلى (88)، ((الاعتقاد)) (ص: 27)، ((طبقات الحنابلة)) (1/ 336) كلاهما لابنِ أبي يعلى.

(18) ينظر: ((كتاب التوحيد)) (1/86).

(19) ((أصول الإيمان)) (ص: 10).

(20) ((مشكل الحديث وبيانه)) (ص: 38).

(21) ((تبيين كذب المفتري فيما نُسب إلى الأشعري)) (ص: 358).

(22) ((قانون التأويل)) (ص: 357).

(23) ((منهاج السنة النبوية)) (5/ 239 - 241).

(24) ((مجموع الفتاوى)) (3/ 229).

(25) يعني العلماءَ إذا أخطؤوا.

(26) ((مجموع الفتاوى)) (35/ 101).

(27) أخرجه البخاري (3481) ومسلم (2756).

(28) ومن أَولى بهذا الوصفِ من النَّوَويِّ وابنِ حَجَرٍ؟!

(29) ((مجموع الفتاوى)) (3/231).

(30) ((مجموع الفتاوى)) (32/ 239).

(31) ((سير أعلام النبلاء)) (14/ 40).

(32) ((سير أعلام النبلاء)) (14/ 374-376).

(33) ومن أَولى بهذا الوصفِ من النَّوَويِّ وابنِ حَجَرٍ؟!

(34) ((سير أعلام النبلاء)) (5/ 271).

(35) ومن أَولى بهذا الوصفِ من النَّوَويِّ وابنِ حَجَرٍ؟!

(36) ((أعلام الموقعين)) (5/ 235).

(37) ((مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة)) (1/ 176).

(38) ((تقرير القواعد وتحرير الفوائد)) (1/ 56).

(39) ((توضيح الكافية الشافية)) (ص: 244 - 246).

(40) ((مجموع الفتاوى)) (35/100)

(41) ((بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية)) (3/ 538).

(42) ((درء التعارض)) (6/292).

(43) ((درء تعارض العقل والنقل)) (2/ 101-103).

(44) ((فتاوى اللجنة الدائمة - المجموعة الثانية)) برئاسة ابن باز (2/ 410، 411).

(45) ((فتاوى اللجنة الدائمة - المجموعة الأولى)) برئاسة ابن باز (3/ 220).

(46) ((مجموع فتاوى ابن باز)) (28/ 256).

(47) ((مجموع فتاوى ومقالات متنوعة)) (3/ 72).

(48) ((البداية والنهاية)) (17/ 20، 21).

(49) ((مجموع الفتاوى)) (3/ 281).

(50) ((شرح العقيدة الأصفهانية)) (ص: 127).

(51) ((مجموع الفتاوى)) (32/ 240).

(52) ((طبقات علماء الحديث)) (3/ 329).

(53) ((سير أعلام النبلاء)) (18/ 163-169).

(54) ((تاريخ الإسلام)) (10/ 95).

(55) ((البداية والنهاية)) (16/ 9).

(56) ينظر: ((شرح العقيدة الأصفهانية)) (ص: 184)، ((نقض المنطق)) (ص: 94)، ((بيان تلبيس الجهمية)) (8/487) وغيرها.

(57) ((طبقات علماء الحديث)) (4/ 214).

(58) ((سير أعلام النبلاء)) (23/ 140-143). وانظر: ((تاريخ الإسلام)) (14/ 455-457).

(59) ((الوابل الصيب)) (ص: 58).

(60) ((طبقات الشافعيين)) (ص: 857-858).

(61) ((ذيل طبقات الحنابلة)) لابن رجب (2/ 319).

(62) ((الدرر السنية في الأجوبة النجدية)) (15/ 104).

(63) ((مجموع الفتاوى)) (2/ 244).

(64) ((مجموع الفتاوى)) (1/ 347).

(65) ((تاريخ الإسلام)) (14/ 933-935).

(66) ((طبقات الشافعيين)) (ص: 873-875).

(67) ((ذيل طبقات الحنابلة)) (4/ 69).

(68) ((ذيل طبقات الحنابلة)) (2/ 192):

(69) ((مجموعة الرسائل والمسائل النجدية "الجزء الرابع، القسم الثاني")) (ص: 623).

(70) ((الدرر السنية في الأجوبة النجدية)) (10/ 262).

(71) ينظر: ((مجموع الفتاوى)) (8/ 382)، ((الإيمان الأوسط)) (ص: 581).

(72) ((طبقات علماء الحديث)) (4/ 254).

(73) ((تاريخ الإسلام)) (15/ 324-332).

(74) ((تذكرة الحفاظ)) (4/ 174).

(75) ينظر: (ص: 545)، (ص: 239).

(76) ((البداية والنهاية)) (17/ 540، 541).

(77) ((طبقات الشافعيين)) (ص: 909-913).

(78) ((جامع العلوم والحكم)) (1/ 56).

(79) ((الدرر السنية في الأجوبة النجدية)) (10/ 313).

(80) (((الدرر السنية في الأجوبة النجدية)) (4/ 319).

(81) ((الدرر السنية في الأجوبة النجدية)) (8/ 270).

(82) ((الدرر السنية في الأجوبة النجدية)) (15/ 301).

(83) ((مجموع فتاوى ابن باز)) (17/ 151).

(84) ((شرح رياض الصالحين)) (1/ 11، 12).

(85) ((شرح الأربعين النووية)) (ص: 3، 4).

(86) ((جامع المسائل)) (9/ 72).

(87) ((طبقات علماء الحديث)) (4/ 265).

(88) ((تذكرة الحفاظ)) (4/ 181-182).

(89) ((البداية والنهاية)) (18/ 29-31).

(90) ((ذيل طبقات الحنابلة)) (4/ 82).

(91) ((ذيل طبقات الحنابلة)) لابن رجب (4/ 99).

(92) ((الدرر السنية في الأجوبة النجدية)) (4/ 241).

(93) ((مجموعة الرسائل والمسائل النجدية)) (1/ 436).

(94) (((الدرر السنية في الأجوبة النجدية)) (1/ 228).

(95) ((الدرر السنية في الأجوبة النجدية)) (4/ 251).

(96) ((فتاوى اللجنة الدائمة - المجموعة الثانية)) برئاسة ابن باز (2/ 410، 411).

(97) ((مجموع فتاوى ابن باز)) (28/ 47).

(98) المصدر السابق.

(99) ((الرد الوافر)) لابن ناصر الدين (ص: 60).

(100) ((تقريظ لابن حجر على الرد الوافر)) (ص: 12-15).

(101) المصدر السابق. (وهذا التقريظُ كتبه الحافظُ ابنُ حَجَرٍ بخَطِّ يدِه، وأورده كاملًا تلميذُه السَّخاوي في كتابِه "الجواهِر والدُّرَر" (2/736) ).

(102) (1/ 168).

(103) (ص: 520-521).

(104) انظر: كتاب ((نَقضُ دعوى انتِسابِ الأشاعِرةِ لأهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ)).