موسوعة اللغة العربية

المطلَبُ الثَّالث: الخُطَبُ والمواعِظُ


ضَعُف تأثيرُ الخَطابةِ في عَصرِ المماليكِ عمَّا كان عليه قبلَ ذلك؛ إذ صار الحُكَّامُ غيرَ قادرين على استيعابِ اللُّغةِ وخِطاباتِها، ولم يكُنْ يَعنيهم الاتِّصالُ الجماهيريُّ الواسِعُ؛ فالشَّعبيَّةُ والجماهيريَّةُ لم تكُنْ مَقصِدَهم، وإنَّما يَستَمِدُّون قُوَّتَهم من عَدَدِ الجُندِ وقُوَّتِهم، وبَسْطِ نُفوذِهم على بقاعِ الأرضِ.
وبالرَّغمِ من أنَّ الحُروبَ قد كَثُرت في عصرِ المماليكِ، وفي ذلك أرضٌ خِصبةٌ لنَماءِ الخُطَبِ السِّياسيَّةِ وازدِهارِها، إلَّا أنَّ المماليكَ كانوا يعتَمِدون على جيشٍ من الأتراكِ وغَيرِهم مُعَدٍّ لذلك، ولم يكونوا يحتاجون العامَّةَ في حُروبِهم؛ لهذا لم يكُنْ للخُطَبِ الحماسيَّةِ مجالٌ في تعبئةِ الجُيوشِ وتحفيزِ النَّاسِ على الخُروجِ مع الجَيشِ.
ولذلك فإنَّ الخَطابةَ اقتَصَرت على الوَعظِ الدِّينيِّ، مع شيءٍ قليلٍ من الخُطَبِ الاجتماعيَّةِ في مناسَباتِ الزَّواجِ ونَحوِها [115] يُنظَر: ((النثر الفني في العصر المملوكي الأول)) لجلال العطاري (ص: 173). .
وقد ازدَهَرت الخَطابةُ الدِّينيَّةُ في ذلك العَصرِ، وامتلأ الزَّمانُ بخُطَباءَ مُفَوَّهينَ، منهم ناصِرُ الدِّينِ بنُ المُنَيِّرِ الإسكَنْدريُّ، ومِن خُطَبِه: (الحمدُ للهِ الذي يرحَمُ العُيونَ إذا دَمَعَت، والقلوبَ إذا خشَعَت، والنَّفوسَ إذا اتَّضَعَت، والعزائمَ إذا اجتمَعَت؛ الموجودِ إذا الأسبابُ انقطَعَت، والمقصودِ إذا الأبوابُ امتنَعَت، اللَّطيفِ إذا صدَمَت الخُطوبُ وصدَّعَت، رُبَّ أقضيةٍ نزلت بما تقدَّمت حتَّى جاءت ألطافٌ دفَعَت، فسُبحانَ مَن وَسِعَت رحمتُه كُلَّ شيءٍ، وحُقَّ لها إذا وَسِعَت، وسَعَتْ إلى طاعتِه السَّمواتُ والأرضُ حينَ قال: ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا [فصلت: 11] فأطاعتْ وسمِعَتْ، أحمَدُه بصفاتٍ بَهَرت، وأشكُرُه على نِعَمٍ بطَنَت وظَهَرت، وأشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وَحْدَه لا شريكَ له شهادةً عن اليقينِ صدَرَت، وأشهَدُ أنَّ محمَّدًا عبدُه ورسولُه، بعثَه والفِتنةُ قد احتَدَّت، والحاجةُ قد اشتَدَّت، ويَدُ الضَّلالِ قد امتَدَّت، وظُلُماتُ الظُّلمِ قد اسوَدَّت، والجاهليَّةُ قد أخذت نهايتَها، وبلغَت غايتَها، وحَزَّبَت أحزابَها، وهُدِيَت إحسانَها، ونَسِيَت أديانَها، وجحَدَت دَيَّانَها؛ فجاء اللهُ بمحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فمَلَك عِنانَها، وكَبَتَ أعيانَها، وظهَرَت آياتُه في الجبابرةِ فأهلَكَت فُرسانَها، وفي القياصِرةِ فنكَّسَت صُلبانَها، وفي الأكاسِرةِ فصَدَّعَت إيوانَها، وأوضَحَ على يَدِه محَجَّةَ الحنيفيَّةِ وأبانَها، صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه فروعِ الأصلِ الطَّيِّبِ، فما أكرَمَ الشَّجرةَ وأغصانَها! وعلى أصحابِه ومن حوى الحَوزةَ وصانَها، صلاةً إذا أفضَت صَحيفةُ الحَسَناتِ كانت عُنوانَها.
أيُّها النَّاسُ، خافوا اللهَ تأمَنوا مِن ضَمانِ وَعدِه الوَفِيّ، ولا تخافوا الخَلقَ وإن كَثُروا؛ فإنَّ الخوفَ مِن الخَلقِ شِركٌ خَفِيّ، ألَا وإنَّه مَن خاف اللهَ خاف منه كلُّ شيءٍ، ومن لم يَخَفِ اللهَ خاف من كُلِّ شيءٍ، وشأنُ أخي الدُّنيا أن يخافَ عليها الذَّهابَ، ولا بُدَّ من أن يَذهَبَ كالفَيءِ، وإنَّما يخافُ عِزَّ الرَّبوبيَّة مَن عَرَّف نفسَه ذُلَّ العُبوديَّة، واثنانِ لا يجتَمِعانِ في القَلبِ ولا تنعَقِدُ عليهما النِّيَّة، فاختاروا لأنفُسِكم: إمَّا اللهَ، وإمَّا هذه الدُّنيا الدَّنيَّة، فمَن كانت الدُّنيا أكبَرَ هِمَّتِه لم يَزَلْ مهمومًا، ومَن كانت زهرَتُها نُصْبَ عينِه لم يَزَلْ مهزومًا، ومن كانت جِدتُها غايةَ وجْدِه لم يَزَلْ مُعْدِمًا حتَّى يصيَر معدومًا؛ فاللهَ اللهَ عبادَ اللهِ! الاعتِبارَ الاعتبار! وأنتم السُّعداءُ إذا وُعِظتُم بالاعتبارِ. أصلِحوا ما فَسَد؛ فإنَّ الفَسادَ مُقَدِّمةُ الدَّمار، اتَّقوا اللهَ وأصلِحوا تُفْلِحوا، وأسْلِموا تَسْلَموا، وصَمِّموا على التَّوبةِ قبلَ ألَّا ينفَعَ أن تُصَمِّموا، فما أشقى مَن عَقَد التَّوبةَ بَعدَ هذه العِبَرِ ثُمَّ حَلَّها، ألَا وإنَّ ذنبًا بَعدَ التَّوبةِ أقبَحُ مِن سَبعينَ قَبْلَها) [116] يُنظَر: ((ذيل مرآة الزمان)) لليونيني (4/ 208). .
ومن المواعظِ قولُ إسماعيلَ الواسِطيِّ للسُّلطانِ الظَّاهِرِ بِيبَرْسَ: (أيُّها السُّلطانُ، إنَّك لن تُدعى يومَ القيامةِ بـ«أيُّها السُّلطانُ»، لكِنْ تُدعَى باسمِك، وكلٌّ منهم يومَئذٍ يُسأَلُ عن نفسِه إلَّا أنت؛ فأنت تُسْألُ عن رعاياك؛ فاجعَلْ كبيرَهم أبًا، وأوسَطَهم أخًا، وصغيرَهم وَلَدًا) [117] يُنظَر: ((تاريخ ابن الوردي)) (2/ 218). .
وعَقَد العِزُّ بنُ عبدِ السَّلامِ مجلِسًا أمامَ الكَعبةِ، حَضَره أميرُ مكَّةَ وغيرُه، فقال: (مَن ذا الذي سَمَك السَّماءَ وعلى غيرِ عَمَدٍ بناها، مَن ذا الذي دَوَّر أفلاكَها وفي قضاءٍ بيدِ مشيئتِه مَشَّاها، ومَن ذا الذي سخَّر أفلاكَها وفي حِمى حمايتِه حماها، مَن ذا الذي قال للسَّمواتِ والأرضِ: ائْتِيا طوعًا أو كَرهًا، فأتت طائعةً حينَ دعاها، من ذا الذي يعلَمُ خفايا الغُيوبِ وما في طواياها، مَن ذا الذي يُبصِرُ طوايا القُلوبِ وما في رُؤياها، مَن ذا الذي يَسمَعُ أنَّةَ العليلِ إذا هو في عِلَّتِه أبداها، مَن ذا الذي يُنقِعُ غُلَّةَ الغليلِ إذا اشتَكَت ظَماها، مَن ذا الذي يرحَمُ ذِلَّةَ الذَّليلِ إذا الخَطْبُ الجليلُ وافاها، مَن ذا الذي يَستُرُ زَلَّةَ الخاطي وغطَّاها، مَن ذا الذي يَغفِرُ زَلَّةَ العاصي وفي صحائِفِ السَّيِّئاتِ محاها، مَن ذا الذي تجلَّى على قُلوبِ أوليائِه ومِن دونِ الشَّكِّ جَلَّاها، ومَن ذا الذي أدار كُؤوسَ محبَّتِه على نَدْمانِ حَضرتِه يَستقاها، مَن ذا الذي جَعَل خليقتَه في قبضتَينِ، فهذه أسعَدَها، وهذه أشقاها، مَن ذا الذي صوَّرك فأحسَنَ صُورَك، وفَتَق سَمعَك وخَرَق بَصَرَك ثمَّ برَحمتِه شَمِلَك، وعلى أكُفِّ رأفتِه حَمَلك، وجُعِل عن يمينِك مَلَك وعن شِمالِك مَلَك، ينقُلانِ عَمَلَك إلى مَن مَلَك، في كتابٍ لا يغادِرُ صغيرةً ولا كبيرةً إلَّا أحصاها؟!
انظُرْ إلى الرِّياضِ كيف أخباها فاستخرَجَ منها ماءَها ومَرْعاها، وانظُرْ إلى الغِياضِ كيف اهتَزَّت رُباها، إذ هو بلطيفِ حِكمتِه رباها، انظُرْ إلى الأرضِ، كيف دحَاها ونَشَرها من تحتِ هذه البُقعةِ الشَّريفةِ بَعدَ ما طواها، فسُبحانَ مَن شرَّف هذه البِنيةَ واصطفاها، وجعلَها حِمًى لمن حام حولَ حِماها، وحَرَمًا آمنًا لمن وفَّى ما عليه حينَ وافاها، ووِجْهةً لمَن واجَهَها اتِّجاهَا، وأراد عِندَها جاهَا، فهي التي هاجَر منها الحبيبُ ما هَجَرَها ولا قَلاها، وما انقَلَب قلبُه إلى قِبلةٍ سِواها، حتى أنزل عليه جبريلُ في آياتٍ تلاها: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا [البقرة: 144] ) [118] يُنظَر: ((ذيل مرآة الزمان)) لليونيني (4/ 20). .
ومنها تلك الخُطَبُ العِلميَّةُ التي يجعَلُها الشَّيخُ صدرًا لمجلِسِه العِلميِّ، كخُطبةِ الحافِظِ صلاحِ الدِّينِ العَلائيِّ التي استهلَّ بها مجلِسَه في دارِ الحديثِ، وذكَرَ فيها مُصطَلَحاتِ أهلِ الحديثِ؛ قال فيها: (الحَمدُ للهِ الذي رَفَع مَتْنَ العُلَماءِ وجَعَل لهم مِن لَدُنْه سَنَدَا، وأبقى حديثَهم الحَسَنَ على الأَمْلاءِ أبدَا، وأمَدَّهم بمتابَعاتِ كَرَمِه المشهور، فوَصَل ما كان مقطوعًا، وأعزَّ ما كان مُفرَدًا، وحمى ضعيفَ قلوبِهم من الاضطرابِ حتَّى غَدَت ثابتةَ الأفكارِ، وعَدَّل موازينَ نَظَرِهم حينَ رَجَحَت بفَضلِهم البَيِّنِ بشواهِدِ الاعتبارِ، وأنجَزَ لهم من صادِقِ وَعدِه علوَّ قَدْرِهمُ المرفوع، وأطاب بألِسنةِ الأقلامِ وأفواهِ المحابِرِ مُشافَهةَ ثنائِهم المسموع، وجَعَل شَرفَهم موقوفًا عليهم، وشَرَفَ مَن عاداهم مِن جُملةِ الموضوع، أحمَدُه على حديثِ نِعَمِه الحَسَنِ المتَّصِلِ المتسَلْسِل، وتَواتُرِ مِنَنِه التي يُدفَعُ بها تدليسُ كُلِّ أمرٍ مُعْضِل، ومزيدِ كَرَمِه الذي عَمَّ المُختَلِفَ والمُؤتَلِفَ فلا ينقَطِعُ ولا يُوقَفُ على أن يُعَلَّل.
وأشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وَحْدَه لا شريكَ له، شهادةً أتخِذُها لمُنتقى الخَيرِ مَنهجَا، وآنَسُ بها يومَ أُمْسي في جانِبِ اللَّحدِ غَريبًا وفي طَيِّ الأكفانِ مُدْرَجَا. وأشهَدُ أنَّ محمَّدًا عَبدُه ورَسولُه؛ أفصَحُ مَن جاءَ عن رَبِّه مُرسَلَا، وأنصَحُ مَن خاطَبَ بوَحيِه حتَّى أمسى جانِبُ الشِّركِ مَتروكًا مُهمَلَا، الذي رمى قلوبَ الأعداءِ وجُسومَهم بالتَّجريح، وطاعَنَ بالعوالي حتَّى استقام وقَوِيَ مَتنُ الدِّينِ الصَّحيح، صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه الذين أبادوا المُنكَر، وأَرْبى على المتَّفِقِ والمُفتَرِقِ سَنَا مَجْدِهمُ الأكبَر، صلاةً مُعتبرةَ الإيراد، دالَّةً على أنَّهم في فَضلِ الدُّنيا والآخِرةِ نِعْمَ السَّادةُ الأفراد) [119] يُنظَر: ((الوافي بالوفيات)) للصفدي (13/ 258). .
وهذا كُلُّه بخِلافِ الوَعظِ الصُّوفيِّ وما اتَّصَل به من الحِكَمِ والمواعِظِ والرَّسائِلِ المعروفةِ، وقد ذاع صيتُهم في تلك الحِقبةِ، ومال المماليكُ إليهم، وأنشَؤوا لهم المدارِسَ، وأوقفوا عليها الأوقافَ التي يُنفَقُ من غلَّاتِها عليهم.

انظر أيضا: