موسوعة اللغة العربية

تمهيدٌ: النَّثْرُ


ازدهَرَت الكتابةُ النَّثريَّةُ الأدبيَّةُ في العَصرِ المملوكيِّ، ويرجِعُ ذلك الازدِهارُ إلى أسبابٍ؛ منها:
- اهتِمامُ أُمراءِ المماليكِ بالكتابةِ النَّثريَّةِ؛ لسُهولةِ فَهمِها بالنِّسبةِ لهم بخِلافِ الشِّعْرِ.
- إنشاءُ المدارِسِ، ورعايةُ المماليكِ لطَلَبةِ العِلمِ والعُلَماءِ، وتقريبُهم في مجالسِهم، وإغداقُ الهدايا والرَّواتِبِ عليهم.
- رغبةُ المماليكِ في إعادةِ مجدِ الإسلامِ.
- حاجةُ المماليكِ إلى مآثِرَ يُذكَرون بها.
- العنايةُ بديوانِ الإنشاءِ، والحِرصُ على اختيارِ العامِلينَ فيه.
- اهتِمامُ العُلَماءِ بتصنيفِ الكُتُبِ التي تُعينُ على الكتابةِ؛ مِثلُ: (صُبحِ الأعشى) للقَلْقَشَنديِّ، و(نهايةِ الأرَب) للنُّويريِّ، و(حُسْنِ التَّرسُّلِ) لابنِ فَهدٍ، وغيرِ ذلك [92] يُنظَر: ((فن الرسائل في العصر المملوكي)) لرشا النحال (ص: 26). .
وقد غَلَب على النَّثرِ ما انتَشَر في ذلك العَصرِ من الاهتمامِ بالمحَسِّناتِ البديعيَّةِ -خاصَّةً التَّوريةَ- وذِكرِ ألفاظِ العُلومِ المختَلِفةِ، ولم يقتَصِرْ ذلك على كتُبِ الأدَبِ فحَسْبُ، بل وصَل الأمرُ إلى أنَّ كتابًا في التَّاريخِ، وهو (عجائِبُ المقدورِ في نوائِبِ تَيمور) لابنِ عَرَبْشاه المتوفَّى (854هـ) بُنِيَ من أوَّلِه إلى آخِرِه على السَّجعِ، فتراه مثلًا يقولُ: (سَمَرْقَنْدُ ليس فيها كَيلٌ ولا صاعٌ يُصان، ولا يجري على جِنسِ المَكِيلاتِ فيها بالكَيلِ حُسْبان، وإنَّما معرفةُ حِسابِ ذلك عندَهم بالميزان، ورِطْلُ سَمَرْقَندَ أربعونَ أوقيَّةً، كُلُّ أوقيَّةٍ بالمثاقيلِ مائةٌ، فيكونُ رِطْلُهم أربعةَ آلافِ مِثْقال، كُلُّ مثقالٍ دِرهَمٌ ونِصفٌ من غيرِ زيادةٍ ولا إخْلال، فعلى هذا رِطْلُهم بالدِّمَشقيِّ عَشَرةُ أرطال، حكى لي مولانا محمودٌ الحافِظُ المُحرِقُ الخُوارَزميُّ، ولُقِّبَ بالمُحرِق؛ لأنَّ سهامَ ترجيعاتِه كانت تصيبُ حبَّاتِ الحُشاشاتِ إذ ترمي، ويفوقُ رَنَّاتُ أوتارِها نحوَ آذانِ القُلوبِ فتُصْمِي ولا تُنْمي، فإن صدَعَت من القلوبِ حَجَرًا تطايَرَ من اقتداحِها في الأرواحِ شَرَرًا، فيُحرِقُ برنَّاتِه الأرواح، ويُشعِلُ بنَغماتِه الأشباح. قال: استصحَبَني تيمورُ في بعضِ أسفارِه، فكُنتُ ملازمَ خِدمتِه في ليلِه ونهارِه، فنزَلَت عساكِرُه على حِصنٍ تحاصِرُه، وضَرَب خيمتَه على مكانٍ عال؛ ليُشرِفَ منه على القِتال، ويتفَرَّجَ في صُنعِ الرِّجال، ففي بعضِ الزَّمانِ، حَضَرْتُ عنده أنا ورَجُلان، وكان قد حصَل له حُمَّى، أورثَتْه كَربًا وغَمًّا، وكانت سماءُ النِّزالِ ذاتَ حُبُكٍ واحتِباك، ورماحُ القِتالِ في التِواءٍ واشتِباك) [93] ((عجائب المقدور في أخبار تيمور)) لابن عربشاه (ص: 472). .
والحقُّ أنَّ تلك الظَّاهرةَ -أعني غَلَبةَ البديعِ على النَّثرِ- هي السَّبَبُ الذي قضى به بعضُ الباحثين على الأدَبِ في ذلك العَصِر بالضَّعفِ والانحِدارِ؛ إذ اهتمَّ الأُدَباءُ بالظَّاهِرِ على حِسابِ الباطِنِ. وإنَّ تلك النَّظرةَ للأدَبِ المملوكيِّ لمُجْحِفةٌ ظالِمةٌ؛ فغَلَبةُ البَديعِ على ألوانِ الأدَبِ وإن كانت غيرَ مستساغةٍ، فإنَّها لا تعني بالضَّرورةِ ضَعفَ النَّوعِ الأدَبيِّ، ولا تقتضي الاهتمامَ بالمظهَرِ على حِسابِ الجوهَرِ، خاصَّةً بَعدَ دراسةِ الأشكالِ الأدبيَّةِ الموجودةِ في ذلك العَصرِ.

انظر أيضا: