موسوعة اللغة العربية

المَطْلَبُ الثَّاني: الفُنونُ الكِتابيَّةُ


كانَ التَّأثُّرُ الأنْدَلُسيُّ بالنَّثْرِ المَشرِقيِّ واضِحًا جدًّا في الكِتاباتِ النَّثْريَّةِ في الأنْدَلُسِ؛ إذ لم يَخْترِعِ الأنْدَلُسيُّونَ مَذهَبًا لأنْفُسِهم في الكِتابةِ، وإنَّما حَذَوْا حَذْوَ الكُتَّابِ العَربِ في كِتابتِهم، حتَّى إنَّ الكِتابةَ العَربيَّةَ لمَّا كانَتْ تَرغَبُ عن السَّجْعِ وتَأباه، كانَتْ كِتاباتُ الأنْدَلُسيِّينَ كذلك، فقدْ كَتَبَ عبْدُ الرَّحْمنِ الدَّاخِلُ إلى سُلَيْمانَ بنِ الأعْرابيِّ: (أمَّا بَعْدُ: فدَعْني مِن مَعاريضِ المَعاذيرِ، والتَّعَسُّفِ عن جادَّةِ الطَّريقِ، لَتَمُدَّنَّ يَدًا إلى الطَّاعة، والاعْتِصامِ بحَبْلِ الجَماعة، أو لَأزْوِيَنَّ بَنانَها عن رصَفِ المَعْصيةِ، نَكالًا بما قَدَّمَتْ يَداك، وما اللهُ بظَلَّامٍ للعَبيدِ) [785] ((نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب)) للمقري التلمساني (3/ 39)، ((تاريخ الأدب الأندلسي (عصر سيادة قرطبة)) لإحسان عباس (ص: 269). .
كما أنَّ الحُكَّامَ والأُمَراءَ كانوا يَسْتَعمِلونَ المَشارِقةَ في الكِتابةِ؛ إذ اسْتَعمَلَ عبْدُ الرَّحْمنِ الدَّاخِلُ أُمَيَّةَ بنَ يَزيدَ كاتِبًا له، وكَتَبَ ابنُه مُحمَّدٌ للأميرِ الحَكَمِ بنِ عبْدِ الرَّحْمنِ، وتَولَّى عبْدُ اللهِ بنُ مُحمَّدِ بنِ أُمَيَّةَ مَقاليدَ الكِتابةِ للأميرَينِ عبْدِ الرَّحْمنِ ومُحمَّدٍ، كما اسْتَعمَلَ الأميرُ عبْدُ الرَّحْمنِ عبْدَ المَلِكِ بنَ عبْدِ اللهِ بنِ مُحمَّدِ بنِ أُمَيَّةَ [786] يُنظر: ((محاضرات في الفنون الأدبية بالأندلس)) لشعبان مرسي (ص: 181). .
ولِهذا الأمْرِ لم يَظهَرْ بالأنْدَلُسِ كاتِبٌ أنْدَلُسيٌّ كَبيرٌ بحَجْمِ الكُتَّابِ المَشارِقةِ قَبْلَ القَرْنِ الرَّابِعِ الهِجريِّ؛ إذ كانت تلك المَرْحلةُ بمَنزِلةِ الإعْدادِ والتَّلقِّي لهؤلاء الكُتَّابِ، فلمَّا تَشرَّبوا مَبادِئَ الكِتابةِ وأحاطوا عِلمًا بفُنونِها، وساعَدَ على ذلك عُصورُ الازْدِهارِ الَّتي شَهِدَتْها الأنْدَلُسُ في عَهْدِ عبْدِ الرَّحْمنِ النَّاصِرِ وابنِه الحَكَمِ، انْطَلَقَ الكُتَّابُ يُدوِّنونَ بَوادِرَ الأدَبِ الأنْدَلُسيِّ الخاصِّ بهم، ووَضَعوا الكُتُبَ الأدَبيَّةَ، مِثلُ العِقْدِ الفَريدِ، والأمالي، وغيْرِهما.
وعنْدَما سَقَطَتِ الخِلافةُ الأُمَوِيَّةُ في الأنْدَلُسِ، وبَدَأَ عَصْرُ مَمالِكِ الطَّوائِفِ واحْتَدَمَ الصِّراعُ والتَّنافُسُ بَيْنَ مُلوكِ الطَّوائِفِ، تَهيَّأَتْ للأدَبِ فُرْصةٌ لطَفْرةٍ أدَبيَّةٍ كَبيرةٍ؛ حيثُ أسْهَمَ ذلك الصِّراعُ في إدْخالِ الأدَبِ في التَّنافُسِ، فكانَ التَّنافُسُ سياسيًّا بَيْنَ المُلوكِ، وحَربيًّا بَيْنَ الجُنْدِ، وأدَبيًّا بَيْنَ الكُتَّابِ والشُّعَراءِ؛ حيثُ حَرَصَ كلُّ مَلِكٍ إلى اسْتِمالةِ أفْضَلِ الكُتَّابِ إليه، فدارَتْ رَحى الحَرْبِ بَيْنَ الأدَباءِ، وحَرَصَ كلُّ أديبٍ على أن يَنالَ حُظوةً في بَلاطِ الحاكِمِ أو الأميرِ، فصارَ يُنمِّقُ كِتاباتِه ويُزيِّنُها، ويَبذُلُ وُسْعَه في أن يَنالَ الدَّرَجةَ السَّنيَّةَ.
كما أنَّ الحُكَّامَ بَدَؤوا في تَقْديرِ الكُتَّابِ وإنْزالِهم مَنازِلَهم؛ حيثُ شَجَّعوا الكُتَّابَ على الكِتابةِ والتَّأليفِ، فألَّفَ ابنُ فَرَجٍ الجَيَّانيُّ كِتابَ "الحَدائِقِ" وأهْداه للحَكَمِ المُسْتَنْصِرِ، كما انْتَدَبَ المُعْتَضِدُ بنُ عَبَّادٍ الأديبَ الشَّاعِرَ ابنَ زَيْدونَ لوِزارتِه وإمْرةِ الجَيْشِ، فسُمِّيَ ذا الوِزارتَينِ: وِزارةِ السَّيْفِ ووِزارةِ القَلَمِ.
كما اتَّسَعَتْ حَرَكَةُ التَّأليفِ، وكَثُرَ عَدَدُ الكُتَّابِ، ووُضِعَتْ أمَّهاتُ الكُتُبِ الأنْدَلُسيَّةِ، مِثلُ "المُطرِب في أشْعارِ أهْلِ المَغرِبِ" لابنِ دِحْيَةَ، كما اخْتَصَروا الكُتُبَ المُطوَّلةَ القَديمةَ، كما فَعَلَ الأميرُ أبو الرَّبيعِ المُوَحِّديُّ حينَ اخْتَصَرَ "الأغاني"، وألَّفَ الشَّقُنْديُّ "رِسالةً في فَضْلِ الأنْدَلُسِ".
وفي عَهْدِ بَني الأحْمَرِ اتَّسَعَتِ النَّماذِجُ النَّثْريَّةُ، فصَدَرَ عن الكُتَّابِ النَّثْرُ الدِّيوانيُّ والكِتاباتُ على شَواهِدِ القُبورِ، والعَلاماتُ السُّلْطانيَّةُ، والنَّثْرُ الإخْوانيُّ بَيْنَ الكُتَّابِ وذَوي السُّلْطةِ أو بَيْنَ الكُتَّابِ وأنْفُسِهم، وظَهَرَ النَّثْرُ الوَصْفيُّ الَّذي يَتَناوَلُ وَصْفَ الشَّخْصيَّاتِ والأعْلامِ ووَصْفَ المُدُنِ والرِّحْلاتِ، وكَثُرَ التَّأليفُ في المَقاماتِ الَّتي عُنِيَتْ بتَسْجيلِ هُمومِ الحَياةِ وخَرَجَت عن الكُدْيةِ والاسْتِجْداءِ إلى ضُروبٍ أخرى مِن أغْراضِ الشِّعْرِ إلَّا في قَليلٍ مِنها.
إلَّا أنَّ الأدَبَ الأنْدَلُسيَّ نالَه بعضُ الجُمودِ في فَتْرةِ دَوْلةِ المُرابِطينَ؛ وذلك أنَّها كانت دَوْلةً مُتَديِّنةً، تُحَكِّمُ الدِّينَ في جَميعِ شُؤونِها، إلَّا أنَّها أَوْلَتِ الكِتابةَ للفُقَهاءِ وعُلَماءِ الشَّريعةِ، فجاءَتْ كِتاباتُهم عِلميَّةً جامِدةً، ليس فيها رُوحُ الأدَبِ ومَلامِحُه، كما أنَّهم حارَبوا الفَلاسِفةَ واتَّهموهم بالزَّنْدقةِ، فأثَّرَ ذلك سَلْبًا على الحَياةِ العَقليَّةِ والأدَبيَّةِ787.
وقد تَنَوَّعَتِ الفُنونُ الكِتابيَّةُ النَّثْريَّةُ في الأنْدَلُسِ، وهي:
أوَّلًا: الرَّسائِلُ
ظَهَرَتْ أنْواعٌ مُتَعدِّدةٌ مِن الرَّسائِلِ تَخْتلِفُ باخْتِلافِ طَبيعةِ المُرسِلِ والمُرسَلِ إليه، واخْتِلافِ المَوْضوعِ المُرادةِ الكِتابةُ فيه، فكانَ مِنها:
1- الرَّسائِلُ الدِّيوانيَّةُ:
وهي تلك الرَّسائِلُ الرَّسْميَّةُ الَّتي يُرسِلُها الأميرُ أو المَلِكُ أو تُرسَلُ إليه، فيما يَتَعلَّقُ بشُؤونِ البِلادِ وإدارةِ أمورِها، وتُسمَّى تلك الرَّسائِلُ بالمُكاتَباتِ السُّلْطانيَّةِ أو السِّياسيَّةِ أو الإنْشائيَّةِ.
ومِن هذه الرَّسائِلِ: رِسالةُ الوَزيرِ أبي حَفْصِ بنِ بُرْدٍ إلى هُزَيلِ بنِ رَزينٍ
(أمَّا بَعْدُ -آتاك ‌اللهُ ‌رُشْدَك، وأجْزَلَ مِن تَوْفيقِه قِسْطَك- فإنَّ اللهَ تعالى خَلَقَ الخَلْقَ غَنيًّا عنهم، وأنسأَهم بمَهَلٍ غيْرَ مُهمِلٍ، بلْ ليُحْصيَ آثارَهم، وليَبْلوَ أخْبارَهم، وجَعَلَهم أخْيافًا مُتَبايِنينَ، وأطْوارًا مُخْتلِفينَ؛ فمِنهم المُخْتَصُّ بالطَّاعةِ، ومِنهم المُبْتَلى بالمَعْصيةِ، وبَيْنَ الفَريقينِ أقْوامٌ خَلَطوا عَمَلًا صالِحًا وآخَرَ سيئًا عسى اللهُ أن يَتوبَ عليهم، ولو شاءَ اللهُ لَكانَ النَّاسُ أمَّةً واحِدةً ولا يَزالونَ مُخْتلِفينَ، ولِذلك خَلَقَهم، والسَّعيدُ مَن خافَ رَبَّه، وعَرَفَ ذَنْبَه، وبادَرَ بالتَّوْبةِ قَبْلَ فَواتِها، واسْتَعْطى الرَّحْمةَ قَبْلَ مَنْعِها.
وإن كنْتَ تَرَكْتَ قَصْدَك، وخالَفْتَ رُشْدَك، ونَكَبْتَ عن سَبيلِ سَلَفِك، فلم يوحِشْك مِمَّن شَرَدْتَ عليه مَكْروهٌ نالَك به، ولم يُؤْنِسْك مِمَّن جَنَحْتَ إليه أمَلٌ لم تَطمَعْ فيه إلَّا لديه، بلْ كنْتَ مِن المَخاوِفِ بَعيدًا مِن المَكارِهِ، قَريبَ المَكانةِ، رَفيعَ الدَّرَجةِ، مُصَدَّرًا في أهْلِ النَّصيحةِ والثِّقةِ، خَلا أنَّه حَدَثَ بيْنَك وبَيْنَ الحاجِبِ ما لم يَزَلْ يَحدُثُ بَيْنَ القُوَّادِ والعُمَّالِ على قَديمِ الزَّمانِ، مِمَّا لم يَبلُغْ أن يُخرِجَ ذا الرَّأيِ الأصيلِ عن طَبَقتِه، ولا يُجاوِزُ أن يَزيدَ المُحنِقَ على المَحْكِ في خُصومتِه، واللهُ عَليمٌ أنَّ أميرَ المُؤْمِنينَ لم يَبخَسْك في تلك الهِباتِ حَظًّا، ولا أوْلاك إعْراضًا، ولقد اعْتَنى بمَصْلحتِك، وعَزَمَ على إزاحةِ عِلَّتِك؛ حتَّى يَتَهيَّأَ مِن ذلك ما يَفي بأمَلِك لو انْتَظَرْتَه، واسْتَقامَ فيه ما يَزيدُ على طَلِبتِك لو صَبَرْتَ عليه، ولك في القَدَرِ المَقْدورِ فُسْحةٌ، وفي القَضاءِ المَحْتومِ مَنْدوحةٌ، ولن تَضيقَ بك السَّبيلُ عنْدَ أميرِ المُؤْمِنينَ، وأنت بَيْنَ طاعةٍ سالِفةٍ، واسْتِقامةٍ مَوْروثةٍ، وبَيْنَ إنابةٍ مُنْتظَرةٍ، وتَوبةٍ مُتَقبَّلةٍ، فإحدى الحالتَينِ تَحُطُّ الذُّنوبَ الكَبيرةَ، وتُغَطِّي على العُيوبِ الكَثيرةِ.
فالآنَ -عَصَمَك اللهُ- واللَّبَبُ رَخِيٌّ، والمَرْكَبُ وَطِيٌّ، وبابُك إلى رِضا أميرِ المُؤْمِنينَ مَفْتوحٌ، وسَبيلُك إلى حُسْنِ رأيِه سَهْلٌ، ولا يَذهَبُ بك اللَّجاجُ إلى عارِ الدُّنْيا ونارِ الآخِرةِ، إيَّاك ومَصارِعَ النَّاكِثينَ، وحَذارِ مَوارِطَ الغادِرينَ) [788] ((الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة)) لابن بسام (1/108). .
ومِنها رِسالةُ يَزيدَ بنِ طَلْحةَ إلى أهْلِ قَرمونيَّةَ يَحُضُّهم على الطَّاعةِ: (إنَّ أحَقَّ ما رَجَعَ إليه الغالونَ، ولَحِقَ به التَّالونَ، وآثَرَه المُؤْمِنونَ، وتَعاطاه بيْنَهم المُسلِمونَ، مِمَّا ساءَ وسَرَّ، ونَفَعَ وضَرَّ- ما أصْبَحَ به الشَّمْلُ مُلتَئِمًا، والأمْرُ مُنْتَظِمًا، والسَّيْفُ مَغْمودًا، ورِواقُ الأمْنِ مَمْدودًا، وليس مِن ذلك أَولى بإحْرازِ الثَّوابِ ولا أحْرى مِن الدُّخولِ في الطَّاعةِ، وتَرْكِ الشُّذوذِ عن الأئِمَّةِ، فإلى اللهِ نَرغَبُ في المَعونةِ على أحْسَنِ بَصائِرِنا في وَهْيٍ يَرْقَعُه، وشَعْبٍ يَلْأمُه، وسِلْكٍ يَنظِمُه، وأن يَجعَلَ ما حَضَضْناكم عليه مِن اجْتِماعِ الإلْفِ والدُّخولِ في الطَّاعةِ اخْتِبارًا يَصِلُ لنا به خَيْرُ الدَّارَينِ، ويُحمَلُ عنَّا فيه حَقُّ الخِلافةِ المَرْضيَّةِ، الَّتي هي مِن اللهِ صَلاحٌ لِهذه الأمَّةِ، وسُنَّةٌ مُتَّبَعةٌ جامِعةٌ لتَأليفِ الشَّمْلِ، وحَقْنِ الدِّماءِ، وتَحْصينِ الفُروجِ والأمْوالِ) [789] ((طبقات النَّحْويين واللغويين)) لأبي بكر الزبيدي (ص: 271). .
2- الرِّسالةُ الإخْوانيَّةُ:
هي الرَّسائِلُ الَّتي تُعبِّرُ عن العَواطِفِ والمَشاعِرِ؛ مِن ثَناءٍ أو شُكْرٍ، أو عِتابٍ واسْتِعطافٍ واعْتِذارٍ، وتَهْنِئةٍ وشَفاعةٍ، واسْتِمْناحٍ وتَعْزيةٍ.
ومِن خَيْرِ ما يُمثِّلُ هذا النَّوْعَ مِن الرَّسائِلِ ما كَتَبَه ابنُ زَيْدونَ في رِسالتَيه الهَزْليَّةِ والجِدِّيَّةِ؛ فقدْ كَتَبَ الأُولى على لِسانِ مَحْبوبتِه وَلَّادةَ إلى غَريمِه في حُبِّها الوَزيرِ ابنِ عَبْدوس، وكَتَبَ الثَّانيةَ في أثْناءِ وُجودِه في السِّجْنِ يَسْتعطِفُ بها أبا الحَزْمِ ابنَ جَهْوَرٍ صاحِبَ قُرطُبةَ، ويَسألُه العَفْوَ ويَرْجو مِنه أن يُطلِقَ سَراحَه؛ يقولُ فيها: (يا مَوْلاي وسَيِّدي ‌الَّذي ‌وِدادي ‌له، واعْتِدادي به، واعْتِمادي عليه، أبْقاك اللهُ ماضِيَ حَدِّ العَزْمِ، واريَ زَنْدِ الأمَلِ، ثابِتَ عَهْدِ النِّعْمةِ، إن سَلَبْتَني -أعزَّك اللهُ- لِباسَ إنْعامِك، وعَطَّلْتَني مِن حَلْيِ إيْناسِك، وغَضَضْتَ عنِّي طَرْفَ حِمايتِك، بَعْدَ أن نَظَرَ الأعْمى إلى تَأميلي لك، وسَمِعَ ثَنائي عليك، وأحَسَّ الجَمادُ بإسْنادي إليك، فلا غَرْوَ فقدْ يَغَصُّ بالماءِ شارِبُه، ويَقتُلُ الدَّواءُ المُسْتَشْفيَ به، ويُؤْتى الحَذِرُ مِن مَأمَنِه، وإنِّي لأتَجلَّدُ فأقولُ: هل أنا إلَّا يَدٌ أدْماها سِوارُها، وجَبينٌ عَضَّه إكْليلُه، ومَشرَفيٌّ ألْصَقَه بالأرْضِ صاقِلُه، وسَمْهَريٌّ عَرَضَه على النَّارِ مُثَقِّفُه، والعَتْبُ مَحْمودٌ عَواقِبُه، والنَّبْوَةُ غَمْرةٌ ثُمَّ تَنْجلي، والنَّكْبةُ: "سَحابةُ صَيْفٍ عن قَريبٍ تَقَشَّعُ"، وسَيِّدي إن أبْطَأَ مَعْذورٌ.
وإن يكنِ الفِعلُ الَّذي ساءَ واحِدًا
فأفْعالُه اللَّائي سَرَرْنَ أُلوفُ
وليت شِعْري ما الذَّنْبُ الَّذي أذْنَبْتُ ولم يَسَعْه العَفْوُ؟ ولا أخْلو مِن أن أكونَ بَريئًا فأين العَدْلُ؟ أو مُسيئًا فأين الفَضْلُ؟ وما أراني إلَّا لو أُمِرْتُ بالسُّجودِ لآدَمَ فأبَيْتُ، وعَكَفْتُ على العِجْلِ، واعْتَدَيْتُ في السَّبْتِ، وتَعاطَيْتُ فعَقَرْتُ، وشَرِبْتُ مِن النَّهرِ الَّذي ابْتُلِي به جُنودُ طالوتَ، وقُدْتُ لأبْرَهةَ الفِيلَ، وعاهَدْتُ قُرَيشًا على ما في الصَّحيفةِ، وتَأوَّلْتُ في بَيعةِ العَقَبةِ، ونَفَرْتُ إلى العِيرِ ببَدْرٍ، وانْخَزَلْتُ بثُلُثِ النَّاسِ يَوْمَ أحُدٍ، وتَخَلَّفْتُ عن صَلاتي في بَني قُرَيظةَ، وأنِفْتُ مِن إمارةِ أُسامةَ، وزَعَمْتُ أنَّ خِلافةَ الصِّدِّيقِ فَلتةٌ، ورَوَّيْتُ رُمْحي مِن كَتيبةِ خالِدٍ، وضَحَّيْتُ بالأشْمَطِ الَّذي عُنوانُ السُّجودِ به- لَكانَ فيما جَرى عليَّ ما يَحْتَمِلُ أن يُسمَّى نَكالًا، ويُدْعى ولو على المَجازِ عِقابًا.
وحَسْبُك مِن حادِثٍ بامرئٍ
تَرى حاسِديهِ لهُ راحِمينا
فكيف ولا ذَنْبَ إلَّا نَميمةٌ أهْداها كاشِحٌ، ونَبَأٌ جاءَ به فاسِقٌ؟! واللهِ ما غَشَشْتُك بَعْدَ النَّصيحةِ، ولا انْحَرَفْتُ عنك بَعْدَ الصَّاغِيةِ، ولا نَصَبْتُ لك بَعْدَ التَّشيُّعِ فيك، ففيمَ عَبَثَ الجَفاءُ بأذِمَّتي، وعاثَ في مَودَّتي؟! وأنَّى غَلَبَني المغَلَّبُ، وفَخَرَ عليَّ الضَّعيفُ، ولَطَمَتْني غيْرُ ذاتِ سِوارٍ؟! وما لك لا تَمنَعُ منِّي قَبْلَ أن أُفْتَرَسَ، وتُدرِكُني ولمَّا أُمَزَّقْ؟ وقد زانَني اسمُ خِدْمتِك، وأنَلْتُ الجَميعِ مِن سِماطِك، وقُمتُ المَقامَ المَحْمودَ على بِساطِك
ألَسْتُ المُوالي فيك نَظْمَ قَصائِدٍ
هي الأنْجُمُ اقْتادَتْ معَ اللَّيلِ أنْجُما
وهل لَبِسَ الصَّباحُ إلَّا بُرْدًا طَرَّزْتُه بمَحامِدِك، وتَقَلَّدَتِ الجَوْزاءُ إلَّا عِقْدًا فَصَّلْتُه بمَآثِرِك، وبَثَّ المِسْكُ إلَّا حَديثًا أذَعْتُه بمَفاخِرِك، "وما يَوْمُ حَليمةَ بسِرٍّ"، وحاشَ للهِ أن أُعَدَّ مِن العامِلةِ النَّاصِبةِ، وأكونَ كالذُّبالةِ المَنْصوبةِ تُضيءُ للنَّاسِ وهي تَحْترِقُ ... [790] ((كنز الكتاب ومنتخب الأدب)) لأبي إسحاق البونسي (2/ 516)، ((نهاية الأرب في فنون الأدب)) للنويري (7/ 290). .
ومِنها كِتابُ ابنِ حَسْداي الوَزيرِ إلى صاحِبِ ديوانِ المَظالِمِ أبي عبْدِ الرَّحْمنِ بنِ طاهِرٍ يَطلُبُ مِنه أن يُؤانِسَه في مَجلِسِه: (مَحَلُّك -أعزَّك اللهُ- في طَيِّ الجَوانِحِ ثابِتٌ وإن نَزَحَتِ الدَّارُ، وعِيانُك في أحْناءِ الضُّلوعِ بادٍ وإن شَحَطَ المَزارُ، فالنَّفْسُ فائِزةٌ مِنك لتَمثُّلِ الخاطِرِ بأوْفَرِ الحَظِّ، والعَيْنُ مُنازِعةٌ إلى أن تَمَتَّعَ مِن لِقائِك بظَفَرِ اللَّحْظِ، فلا عائِدةَ أسْبَغُ بُرْدًا، ولا مَوْهِبةَ أسْوَغُ وِرْدًا، مِن تَفَضُّلِك بالحُفوفِ إلى مَأنَسٍ يَتِمُّ بمُشاهَدتِك الْتِئامُه، ويَتَّصِلُ بمُحاضَرتِك انْتِظامُه، ولك فَضْلُ الإجْمالِ بالإمْتاعِ مِن ذلك بأعْظَمِ الآمالِ.
وأنا -أعزَّك اللهُ- على شَرَفِ سُؤْدُدِك حاكِمٌ، وعلى مَشرَعِ سَنائِك حائِمٌ، وحَسْبي ما تَتَحقَّقُه مِن نِزاعي وتَشوُّقي، وتَتَيقَّنُه مِن تَطَلُّعي وتَتوُّقي، وقد تَمكَّنَ الارْتياحُ باسْتِحكامِ الثِّقةِ، واعْتَرضَ الانْتِزاحُ بارْتِقابِ الصِّلةِ، وأنت -وَصَلَ اللهُ سَعْدَك- بسَماحةِ شِيَمِك، وبارِعِ كَرَمِك، تُنشِئُ للمُؤانَسةِ عَهْدًا، وتُوري بالمُكارَمةِ زَنْدًا، وتَقْتَضي بالمُشارَكةِ شُكْرًا، حافِلًا وحَمْدًا، لا زِلْتَ مُهَنَّأً بالسُّعودِ المُستَقْبَلةِ، مُسوِّغًا اجْتِلاءَ غُرَرِ الأماني المُتَهلِّلةِ، بمَنِّه) [791] ((نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب)) للتلمساني (1/ 642). .
3- الرِّسالةُ الأدَبيَّةُ:
قد ذَكَرْنا أنَّ الرِّسالةَ الأدَبيَّةَ لا يُوجِّهُها كاتِبُها إلى شَخْصٍ مُعيَّنٍ، وإنَّما تَحمِلُ أفْكارَ الأديبِ ووِجْهةَ نَظَرِه تِجاهَ الكَوْنِ والحَياةِ وقَضايا العَصْرِ، ويُسخِّرُ فيها إمْكانيَّاتِه وقُدراتِه ومَوهِبتَه الأدَبيَّةَ في التَّعْبيرِ، فيَصوغُ قِطْعةً نَثْريَّةً رَفيعةَ المُسْتوى، وقدْ هيَّأَ المُناخُ وجَمالُ الطَّبيعةِ في الأنْدَلُسِ الجَوَّ للأدَباءِ في الوَصْفِ؛ ولِهذا كانت أكْثَرُ رَسائِلِهم الأدَبيَّةِ في وَصْفِ الطَّبيعةِ وجَمالِها، ثُمَّ ما يَصدُرُ عنها مِن الهَوى والتَّغزُّلِ ونَحْوِ ذلك.
فمِن ذلك رِسالةُ الوَزيرِ أبي عَمْرٍو الباجي في وَصْفِ نُزولِ المَطَرِ بَعْدَ القَحْطِ: (إنَّ للهِ تعالى قَضايا واقِعةً بالعَدْلِ، وعَطايا جامِعةً للفَضْلِ، ومِنَحًا يَبسُطُها إذا شاءَ تَرْفيهًا وإنْعامًا، ويَقْبِضُها إذا أرادَ تَنْبيهًا وإلْهامًا، ويَجعَلُها لقَوْمٍ صَلاحًا وخَيْرًا، وعلى آخَرينَ فَسادًا وضَيْرًا، وهو الَّذي يُنزِلُ الغَيْثَ مِن بَعْدِ ما قَنَطوا ويَنشُرُ رَحمتَه وهو الوَليُّ الحَميدُ، وإنَّه بَعْدَ ما كانَ مِن امْتِساكِ الحَيا، وتَوقُّفِ السُّقْيا، الَّذي ريعَ به الآمِنُ، واسْتُطيِرَ له السَّاكِنُ، ورَجَفَتِ الأكْبادُ فَزَعًا، وذَهَبَتِ الألْبابُ جَزَعًا، وأذْكَتْ ذُكاءُ حَرَّها، ومَنَعَتِ السَّماءُ دَرَّها، واكْتَسَتِ الأرْضُ غُبْرةً بَعْدَ خُضْرةٍ، ولَبِسَتْ شُحوبًا بَعْدَ نَضْرةٍ، وكادَت بُرودُ الأرْضِ تُطْوى، ومُدودُ نِعَمِه تُزْوى، يَسَّرَ اللهُ تعالى رَحْمتَه، وبَسَطَ نِعْمتَه، وأتاحَ مِنَّتَه، وأزاحَ مِحْنتَه، فبَعَثَ الرِّياحَ لَواقِحَ، وأرْسَلَ الغَمامَ سوَافِحَ، بماءٍ دَفقٍ، ورَواءٍ غَدَقٍ، مِن سَماءٍ طَبَقٍ، اسْتَهلَّ جَفْنُها فدَمَع، وسَحَّ مُزْنُها وهَمَع، وصابَ وَبْلُها فنَقَع، فاسْتَوْفَتِ الأرْضُ رَيًّا، واسْتَكْمَلَتْ مِن نَباتِها أثاثًا ورِيًّا، فزينةُ الأرْضِ مَشْهورةٌ، وحُلَّةُ الرِّياضِ مَنْشورةٌ، ومِنَّةُ الرَّبِّ مَوْفورةٌ، والقُلوبُ ناعِمةٌ بَعْدَ بُؤْسِها، والوُجوهُ ضاحِكةٌ بَعْدَ عُبوسِها، وآثارُ الجوعِ مَمْحوَّةٌ، وسُوَرُ الحَمْدِ مَتْلُوَّةٌ، ونحن نَسْتَزيدُ الواهِبَ نِعْمةَ التَّوْفيقِ، ونَسْتَهديه في قَضاءِ الحُقوقِ إلى سَواءِ الطَّريقِ، ونَسْتَعيذُ به مِن المِنَّةِ أن تَصيرَ فِتْنةً، ومِن المِنْحةِ أن تَعودَ مِحْنةً، وهو حَسْبُنا ونِعْمَ الوَكيلُ) [792] ((خريدة القصر وجريدة العَصْر)) للعماد الأصفهاني (17/ 382)، ((كنز الكتاب ومنتخب الأدب)) للبونسي (1/ 421). .
ومِنها قَوْلُ ابنِ حَزْمٍ في رِسالتِه "طَوْق الحَمامةِ" عن الوَصْلِ: (ومِن وُجوهِ العِشْقِ الوَصْلُ، وهو حَظٌّ رَفيعٌ، ومَرْتبةٌ سريَّةٌ، ودَرَجةٌ عالِيةٌ، وسَعْدٌ طالِعٌ، بلْ هو الحَياةُ المُجَدَّدةُ، والعَيْشُ السَّنيُّ، والسُّرورُ الدَّائِمُ، ورَحْمةٌ مِن اللهِ عَظيمةٌ.
ولولا أنَّ الدُّنْيا مَمَرٌّ ومِحْنةٌ وكَدَرٌ، والجنَةُ دارُ جَزاءٍ وأمانٌ مِن المَكارِهِ، لقُلْنا: إنَّ وَصْلَ المَحْبوبِ هو الصَّفاءُ الَّذي لا كَدَرَ فيه، والفَرَحُ الَّذي لا شائِبةَ ولا حُزْنَ معَه، وكَمالُ الأمانيِّ، ومُنْتَهى الأراجيِّ.
ولقد جَرَّبْتُ اللَّذَّاتِ على تَصرُّفِها، وأدْرَكْتُ الحُظوظَ على اخْتِلافِها، فما للدُّنُوِّ مِن السُّلْطانِ، ولا للمالِ المُسْتفادِ، ولا الوُجودِ بَعْدَ العَدَمِ، ولا الأوْبةِ بَعْدَ طولِ الغَيْبةِ، ولا الأمْنِ مِن بَعْدِ الخَوْفِ، ولا التَّروُّحِ على المالِ، مِن المَوقِعِ في النُّفْسِ- ما للوَصْلِ، ولا سِيَّما بَعْدَ طولِ الامْتِناعِ، وحُلولِ الهَجْرِ، حتَّى يَتَأجَّجَ عليه الجَوى، ويَتَوقَّدَ لَهيبُ الشَّوْقِ، وتَتَضرَّمَ نارُ الرَّجاءِ.
وما إصْنافُ النَّباتِ بَعْدَ غِبِّ القَطْرِ، ولا إشْراقُ الأزاهيرِ بَعْدَ إقْلاعِ السَّحابِ السَّارِياتِ في الزَّمانِ السَّجْسجِ، ولا خَريرُ المياهِ المُتَخلِّلةِ لأفانينِ النَّوَّارِ، ولا تَأنُّقُ القُصورِ البيضِ قد أحْدَقَتْ بها الرِّياضُ الخُضْرُ- بأحْسَنَ مِن وَصْلِ حَبيبٍ قد رُضِيَتْ أخْلاقُه، وحُمِدَتْ غَرائِزُه، وتَقابَلَتْ في الحُسْنِ أوْصافُه، وإنَّه لمَعْجِزٌ ألْسِنةَ البُلَغاءِ، ومُقصِّرٌ فيه بَيانُ الفَصَحاءِ، وعنْدَه تَطيشُ الألْبابُ، وتَعزُبُ الأفْهامُ، وفي ذلك أقولُ:
وسائِلٍ ليَ عمَّا لي مِن العُمُرِ
وقد رأى الشَّيْبَ في الفَوْدَينِ والعُذُرِ
أجَبْتُهُ ساعةً لا شيءَ أحْسَبُه
عُمْرًا سِواها بحُكْمِ العَقْلِ والنَّظَرِ
فقالَ لي: كيف ذا بَيِّنْه لي فلَقَدْ
أخْبَرْتَني أشْنَعَ الأنْباءِ والخَبَرِ
فقلتُ إنَّ الَّتي قَلْبي بها عَلِقٌ
قَبَّلْتُها قُبْلةً يَوْمًا على خَطَرِ
فما أعُدُّ ولو طالَتْ سِنِيَّ سِوى
تلك السَّويعةِ بالتَّحْقيقِ مِن عُمُري
ومِن لَذيذِ مَعاني الوَصْلِ المَواعيدُ، وإنَّ للوَعْدِ المُنْتظَرِ مَكانًا لَطيفًا مِن شَغافِ القَلْبِ، وهو يَنْقسِمُ قِسْمَينِ: أحَدُهما الوَعْدُ بزِيارةِ المُحِبِّ لمَحْبوبِه، وفيه أقولُ قِطعْةً مِنها:
أسامِرُ البَدْرَ لمَّا أبْطَأَتْ وأرى
في نورِهِ مِن سَنا إشْراقِها عَرَضا
فبِتُّ مُشْترِطًا والوُدُّ مُخْتلِطًا
والوَصْلُ مُنْبسِطًا والجَهْرُ مُنْقَبِضا
والثَّاني: انْتِظارُ الوَعْدِ مِن المُحِبِّ أن يَزورَ مَحْبوبَه، وإن لمَبادِئِ الوَصْلِ وأوائِلِ الإسْعافِ لتَوَلُّجًا على الفُؤادِ ليس لشيءٍ مِن الأشْياءِ.
وإنِّي لأعْرِفُ مَن كانَ مُمْتَحنًا بهَوًى في بعضِ المَنازِلِ المُصاقِبةِ فكانَ يَصِلُ متى شاءَ بلا مانِعٍ، ولا سَبيلَ إلى غيْرِ النَّظَرِ والمُحادَثةِ زَمانًا طَويلًا، لَيلًا متى أحَبَّ ونَهارًا، إلى أن ساعَدَتْه الأقْدارُ بإجابةٍ، ومَكَّنَتْه بإسْعادٍ بَعْدَ يَأسِه، لطولِ المُدَّةِ، ولعَهْدي به قد كادَ أن يَخْتلِطَ عَقْلُه فَرَحًا، وما كادَ يَتَلاحَقُ كَلامُه سُرورًا، فقُلْتُ في ذلك:
برَغْبةٍ لو إلى ربِّي دَعَوْتُ بها
لكانَ ذَنْبيَ عنْدَ اللهِ مَغْفورا
ولو دَعَوْتُ بها أُسْدَ الفَلا لغَدا
إضْرارُها عن جَميعِ النَّاسِ مَقْصورا
فجادَ باللَّثْمِ لي مِن بَعْدِ مَنْعتِه
فاهْتاجَ مِن لَوْعتي ما كانَ مَغْمورا
كشارِبِ الماءِ كي يُطْفي الغَليلَ بهِ
فغَصَّ فانْصاعَ في الأجْداثِ مَقْبورا [793] ((طوق الحمامة)) لابن حزم (ص: 180).
ومِنها كذلك رَسائِلُ ابنِ خَفاجةَ ولِسانِ الدَّينِ بنِ الخَطيبِ في وَصْفِ الطَّبيعةِ، ورَسائِلُ ابنِ شُهيدٍ المُتَعدِّدةُ، ومِنها رِسالتُه المَشْهورةُ: "التَّوابِعُ والزَّوابِعُ"، الَّتي يُصوِّرُ فيها رَأيَه في الأدَبِ العَربيِّ شِعْرًا ونَثْرًا، في أبْدَعِ أسلوبٍ وأمْتَعِ وَصْفٍ، يُصوِّرُ فيها ابنُ شُهيدٍ أنَّه أُرْتِجَ عليه الشِّعْرُ يَوْمًا، فحَضَرَ له قَرينُه الجِنِّيُّ، وطافَ به على قُرَناءِ الشُّعَراءِ؛ امْرِئِ القَيْسِ، وطَرَفةَ، وزُهَيْرٍ، وأبي نُواسٍ، وغيْرِهم، كما ذَهَبَ به إلى قُرَناءِ الكُتَّابِ؛ الجاحِظِ، وعبْدِ الحَميدِ. وابنُ شُهيدٍ يَقِفُ معَ كلِّ قَرينٍ مِنهم يُناظِرُه ويُنشِدُ له مِن شِعْرِه فيُجيزُه الجِنِّيُّ. والرِّسالةُ طَويلةٌ ماتِعةٌ، تَدُلُّ على خِبْرةِ ابنِ شُهيدٍ بأشْعارِ الشُّعَراءِ وطَرائِقِهم، ومَذاهِبِ الكُتَّابِ وأساليبِهم.
ثانيًا: التَّوْقيعاتُ
ارْتَبَطَتِ التَّوْقيعاتُ بالرَّسائِلِ في النَّثْرِ الأنْدَلُسيِّ، وقدْ نَقَلَتْ لنا كُتُبُ الأدَبِ كَثيرًا مِن تَوْقيعاتِ الخُلَفاءِ والأُمَراءِ والكُتَّابِ؛ فهي بمَنزِلةِ البَصْمةِ الَّتي تَدُّلُّ على بَلاغةِ المُوَقِّعِ وسَعةِ عَقْلِه وتَأثُّرِه بالعُلومِ العَقْليَّةِ والأدَبيَّةِ.
ومِن هذه التَّوْقيعاتِ:
تَوْقيعُ أبي المُطَرِّفِ عبْدِ الرَّحْمنِ بنِ الحَكَمِ حينَ سألَه بعضُ مَواليه عَمَلًا لم يكنْ أهْلًا له، فوَقَّعَ على كِتابِه قائِلًا: (‌مَن ‌لم ‌يَعرِفْ ‌وَجْهَ ‌مَطْلَبِه كانَ الحِرْمانُ أَولى به) [794] ((المقتبس من أنباء الأندلس)) لابن حيان القرطبي (ص: 222). .
ووَقَّعَ إلى ابنِه المُنذِرِ -وكانَ مِن بَيْنِ وَلَدِه بَليغًا مُفوَّهًا- فكَتَبَ إليه يَسألُه أن يَأذَنَ له في اعْتِلاءِ المِنبَرِ بالبَلَدِ الَّذي كانَ يَليه له ليُقيمَ الجُمُعةَ ويَخطُبَهم؛ ليُحييَ رُسومَ سَلَفِهم ويُنَوَّهَ به في اتِّباعِهم، فوَقَّعُ على ظَهْرِ كِتابِه: قالَتِ الحُكَماءُ: لو كانَ الكَلامُ مِن فِضَّةٍ، لكانَ الصَّمْتُ مْن ذَهَبٍ، وإنِّي لَأُشْفِقُ عليك مِمَّا تُحسِنُه، فكيف مِمَّا تُوُهِّمَ عليك بعضُ التَّقْصيرِ فيه؟
ووَقَّعَ عبْدُ الرَّحْمنِ الأوْسَطُ على رِسالةٍ كَتَبَها ابنُ قَرْلَمانَ أحَدُ خَواصِّه، وكانَ غائِبًا حينَ وَزَّعَ عبْدُ الرَّحْمنِ بعضَ العَطايا، فكَتَبَ إليه شِعْرًا يَستَحِثُّه فيه على أن يُرسِلَ إليه نَصيبَه، فوَقَّعَ عبْدُ الرَّحْمنِ: (مَن آثَرَ التَّضَجُّعَ فلْيَرْضَ حَظَّه مِن النَّوْمِ) [795] ((محاضرات في الفنون الأدبية بالأندلس)) لشعبان مرسي (ص: 185). .
ثالثًا: المَقاماتُ
وَصَلَتْ مَقاماتُ بَديعِ الزَّمانِ الهَمَذانيِّ إلى بِلادِ الأنْدَلُسِ في القَرْنِ الخامِسِ الهِجريِّ، على أيْدي طُلَّابِ العِلمِ الأنْدَلُسيِّينَ الَّذين رَحَلوا إلى الشَّرْقِ لتَحْصيلِ العُلومِ العَربيَّةِ، ثُمَّ عادوا بكُنوزِ المَشرِقِ إلى الأنْدَلُسِ، وقدْ أُعجِبَ الأنْدَلُسيُّونَ بذلك النَّوْعِ مِن النَّثْرِ الأدَبيِّ، فحاكَوه وقَلَّدوه، والْتَزموا أُسلوبَه في السَّجْعِ، فأُغْرِمَ بذلك ابنُ شُهيدٍ وأبو المُغيرةِ ابنُ حَزْمِ وغيْرُهما، ويَظهَرُ في رِسالةِ التَّوابِعِ والزَّوابِعِ لابنِ شُهيدٍ مَدى افْتِتانِه بالسَّجْعِ على مِنْوالِ المَقاماتِ.
أمَّا مَقاماتُ الحَريريِّ فقدْ وَصَلَتِ الأنْدَلُسَ في القَرْنِ السَّادِسِ الهِجريِّ تَقْريبًا، على يَدِ الأنْدَلُسيِّينَ مِن تَلامِذةِ الحَريريِّ مُباشَرةً. وقدْ اهْتَمَّ الأنْدَلُسيُّونَ بتلك المَقاماتِ اهْتِمامًا كَبيرًا، فشَرَحوها أكْثَرَ منِ شَرْحٍ؛ حتَّى إنَّ أهَمَّ شُروحاتِها شَرْحُ الشَّريشيِّ الأنْدَلُسيِّ الَّذي شَرَحَها في ثَلاثةِ شُروحٍ: صَغيرٍ ومُتوسِّطٍ وكَبيرٍ.
ولم يَتَوقَّفِ اهْتِمامُهم بتلك المَقاماتِ على مُجرَّدِ شَرْحِها والاعْتِناءِ بلُغتِها، بلْ قَصَدوا مُجاراتَها ومُحاكاتَها، فكَتَبَ بعضُهم مَقاماتٍ تُشبِهُها، كابنِ شَرَفٍ وابنِ الخَطيبِ والسَّرَقُسْطيِّ، إلَّا أنَّ الواضِحَ في تلك المَقاماتِ هو ابْتِعادُ أكْثَرِ المُقلِّدينَ لمَوْضوعِ الكُدْيةِ؛ إذ كانتِ الأنْدَلُسُ تَأنَفُ مِن التَّسوُّلِ ومَدِّ اليَدِ، ولِهذا عَدَلَ أصْحابُ المَقاماتِ إلى الأغْراضِ الأخرى، مِثلُ النَّقْدِ الأدَبيِّ والاجْتِماعيِّ، والوَصْفِ، والعَلاقاتِ الاجْتِماعيَّةِ، ورَوابِطِ الأصْدقاءِ، والمُشكِلاتِ اليَوْميَةِ المُتَعلِّقةِ بحِرفةِ الإنْسانِ ومِهْنتِه، والضُّيوفِ والكَرَمِ والبُخْلِ ... فمَقامةُ ابنِ شَرَفٍ تَقومُ على النَّقْدِ الأدَبيِّ، ولابنِ الخَطيبِ مَقامةٌ: "خَطْرةُ الطَّيف ورِحلةُ الشِّتاءِ والصَّيْف" تَقومُ على الوَصْفِ، إلَّا أنَّ السَّرَقُسْطيَّ حَرَصَ على أن يَحْذوَ حَذْوَ الحَريريِّ في كلِّ شيءٍ حتَّى في مَوْضوعِ الكُدْيةِ.
وقدْ حَفِظَتْ لنا المَصادِرُ حَوالَي مِئةِ مَقامةٍ، نِصْفُها للسَّرَقُسْطيِّ، والباقي لمُؤَلِّفينَ آخَرينَ، على أنَّ المَصادِرَ لم تكنْ دائِمًا تَنقُلُ المَقامةَ كامِلةً، بلْ كانَ المُؤَلِّفونَ -كابنِ بَسَّامٍ ولِسانِ الدِّينِ بنِ الخَطيبِ- يَجْتَزِئونَ بعضَها أحْيانًا، ويَنْقلونَها كامِلةً أحْيانًا أخرى.
وقدْ وَضَعَ أبو الطَّاهِرِ مُحمَّدُ بنُ يوسُفَ بنِ عبْدِ اللهِ بنِ يوسُفَ بنِ إبْراهيمَ التَّميميُّ السَّرَقُسْطيُّ مَقاماتِه على مِنْوالِ الحَريريِّ، بلْ إنَّه كانَ مُغْرَمًا بالسَّجْعِ جدًّا حتَّى الْتَزَمَ بأمورٍ لم يَلتَزِمْ بها الحَريريُّ نفْسُه؛ حيثُ كانَ يَجعَلُ كلَّ جُملةٍ مِن جُمَلِه مَسْجوعةً بحَرْفَينِ لا بحَرْفٍ واحِدٍ، بحيثُ تَتَّفِقُ كَلِمتا الفاصِلتَينِ في آخِرِ حَرْفَينِ، بلْ رُبَّما جَعَلَها مَسْجوعةً بثَلاثةِ حُروفٍ في آخِرِ كلِّ كَلِمةٍ، وسَمَّاها المُثَلَّثةَ، كما كانَ يَجعَلُ المَقامةَ مِن أوَّلِها إلى آخِرِها أحْيانًا على حَرْفٍ واحِدٍ كما في الرَّوِيِّ للقَصيدةِ، كما حَرَصَ كذلك على التَّرْصيعِ في مَقاماتِه، وكذلك التَّدْبيجُ، وهو أن يَأتيَ بالسَّجْعِ ليس فقط في أواخِرِ الجُمَلِ، بلْ بَيْنَ الكَلِماتِ في الجُمْلةِ الواحِدةِ، وهذا كلُّه في مُحاوَلةٍ مِنه للتَّفوُّقِ على الحَريريِّ صاحِبِ المَقاماتِ.
وقدْ عَرَضَ السَّرَقُسْطيُّ في مَقاماتِه لمَوْضوعاتِ الكُدْيةِ والنَّقْدِ الاجْتِماعيِّ والأدَبيِّ والوَصْفِ، وكانَ يَضَعُ الأشْعارَ في مَقاماتِه كما يَفعَلُ الحَريريُّ، وأغْلَبُ تلك الأشْعارِ له، على أنَّ هوَى التَّقْليدِ قد خَرَجَ به إلى أن تكونَ مَقاماتُه صورةً للطَّبيعةِ المَشرِقيَّةِ وعاداتِ أهْلِها وتَقاليدِهم، والأصْلُ أن يكونَ الأدَبُ مِرآةً لصاحِبِه وقَوْمِه وطَبيعةِ مَوْطِنِه وعاداتِهم وتَقاليدِهم.
ومعَ مُرورِ الوَقْتِ اتَّجهَ الأنْدَلُسيُّونَ نَحْوَ الإبْداعِ الأدَبيِّ ومُحاوَلةِ التَّفوُّقِ على المَشارِقةِ، فألْغَوا كَثيرًا مِن القُيودِ الخاصَّةِ بالمَقاماتِ، كالبَطَلِ والرِّوايةِ والمَوْضوعاتِ، مِثْلُ الدَّجَلِ والكُدْيةِ، حتَّى صارَتِ المَقامةُ لا تَحْتفِظُ إلَّا بالسَّجْعِ فحسْبُ، وهي بِهذا لا تَمُتُّ للمَقاماتِ بصِلةٍ، وإنَّما هي مُجرَّدُ رِسالةٍ مَسْجوعةٍ، ومِن هنا أتى الخَلْطُ بَيْنَ المَقاماتِ والرَّسائِلِ في العُصورِ الأنْدَلُسيَّةِ المُتأخِّرةِ [796] يُنظر: ((تاريخ الأدب العربي)) لشوقي ضيف (8/ 517)، ((محاضرات في الفنون الأدبية بالأندلس)) لشعبان مرسي (ص: 200)، ((أشكال الخطاب النثري في الأدب الأندلسي)) لحسين هنداوي (ص: 97). .
ومِن هذه المَقاماتِ المَقامةُ الأُولى للسَّرَقُسْطيِّ: يقولُ: (حَدَّثَ المُنذِرُ بنُ حَمامٍ، قالَ: حَدَّثَ السَّائِبُ بنُ تمَّامٍ، قالَ: إنِّي لفي بعضِ البِلاد، وقدْ أقْوَيْتُ مِن الطَّريفِ والتِّلاد، أسْتافُ الأرْضَ، وأذْرَعُ الطُّولَ والعَرْضَ، أفْتِلُ الدَّهْرَ في الذِّروةِ والغارِب، وأرْقُبُ مِنه كلَّ شارِقٍ أو غارِب، قد أفْرَدَني حتَّى الأمَل، ونابَذَني حتَّى السَّعْيُ والعَمَل، غُبْرُ أسْفار، ونِضْوُ مَهامِهٍ وقِفار، ولا صاحِبَ على طولِ الاغْتِراب، إلَّا رَقْراقُ آلٍ أو سَراب، إذ دُفِعْتُ إلى أباطِحَ وأجارِعَ ومَسارِحَ ومَشارِعَ، فأجَلْتُ الطَّرْفَ في نورٍ وزَهَر، وأحَلْتُ العَيْنَ على جَدْولٍ أو نَهَر، وإذا بلُمَّةٍ كالنُّجومِ يَترامَونَ في الكُؤوسِ بالرُّجوم، يَتَهلَّلونَ طَلاقةً، ويَتَبذَّلونَ خَلاقةً، قد نَبَذوا الوَقارَ، واسْتَحلُّوا العُقار، واسْتَنْفَذوا العَيْنَ والعَقار، وعَوَّضوا مِن المِسْكِ الدَّنَّ والقار، تَنُمُّ عن شَمائِلِهم الرِّياض، وتَخْجَلُ مِن أيْمانِهم الحِياض، قد غَفَلوا عن العَواقِب، ولم يَشْعروا بالزَّمانِ المُراقِب، (يُحَيَّونَ بالرَّيْحانِ يَوْمَ السَّباسِبِ)، ويَنْتَمون إلى أكْرَمِ المَناصِبِ والمَناسِبِ، قد لفَّهم الشَّبابُ في بُرودِه، ورَوَّاهم مِن سَلْسَلهِ وبَرودِه، يَتَنقَّلونَ جَنِيَّاتِ اللَّمَمِ، ويَجُرُّونَ فُضولَ الرَّيطِ واللَّمَمِ، والكأسُ قد دَبَّتْ في المَفاصِل، فما تَرى غيْرَ مُساعِدٍ أو مُواصِل، قد نَزَلوا مِن الأرْضِ وِهادًا، وافْتَرَشوا الرَّوْضَ مِهادًا، وإذا أمامَهم شَيْخٌ رائِعُ السَّبَلاتِ، ضَخْمُ العَبَلات، يُصْغونَ إلى حَديثِه، ويُفْتَنونَ بقَديمِه وحَديثِه، فهو يُعلِّلُهم مِن خَبَرِه بطَرَف، ويُهدي إليهم مِنَّا أنْدى تُحَفٍ وطُرَف، يُحبِّبُ إليهم البَطالة، فما يَمَلُّونَ مِنه إسْهابًا ولا إطالة.
فمِلْتُ إلى مُنْتَداهم، وكنْتُ الَّذي حَيَّاهم وفَدَّاهم، فقالوا: (كَرَمٌ رائِع، ومَجْدٌ ضائِع، ونِضْوٌ هازِل، وضَيفٌ نازِل)، وابْتَدَر الشَّيْخُ فقالَ: (خَبَرٌ ذائِع، وحَديثٌ شائِع، وخَبٌّ هازِل، وعودٌ بازِل، مِن أين يا أشْعَثُ ويا أشْعَب؟ كِلا أمْرَيك أشَدُّ أو أصْعَب، لقد اجْتَرَأْتَ على المُلوك، وتَخَلَّلْت نَظْمَ السُّلوك، ورَكِبْتَ المَهالِك، وتَوغَّلْتَ المَسالِك، هلْ عنْدَك مِن مُغَرِّبةٍ يا أخا هُذَيل، فإنَّك ما شِئْتَ مِن عُذَيقٍ أو جُذَيل، أنَّى وأنت أخو الصَّعاليك، سَمَوْتَ إلى ذوي الرُّتَبِ والمَماليك). فقلْتُ: مَهْلًا أيُّها الشَّيْخُ مَهْلًا، وهَلَّا مَرْحبًا بك وأهلًا؟! إن تَرَني وقد نَفِدَ زادي، وصَفِرَ مَزادي، وطُفِئَ شِهابي، وأَخْلَقَ إهابي، وخَشُنَ أديمي، ونَفَرَ عنِّي صاحبي ونَديمي، فلقد فَتَنْتُ الكَواعِب، وذَلَّلْتُ المَصاعِب، وراضَيْتُ الأُمَّال، وتَسَوَّغْتُ الآمال، وبَذَلْتُ الخَطير، ووَصَلْتُ الشَّطير، وأكْرَمْتُ النَّزيل، ووَهَبْتُ الجَزيل، وسَحَبْتُ فَضْلَ الذَّيْل، وأرْسَلْتُ طَرْفي بَيْنَ الخَولِ والخَيْل، وقُدْتُ الجِياد، ومَنَعْتُ القِياد، ثُمَّ لم يكنْ إلَّا أن تَقَلَّبَتْ أحْوال، وتَعاقَبَتْ سِنونَ وأحْوال، ذَهَبَتْ بالحَديثِ والقَديم، وأثَّرَتْ في الصَّميمِ والأديم، فبُدِّلْتُ مِن النَّعيمِ البُوس، ومِن البِشْرِ القُطوبُ والعُبوس، وعُوِّضْتُ مِن العَذْبِ المُجاج بالمِلْحِ الأُجاج، ومِن الإعْزازِ بالإذْلال، ومِن الإكْثارِ بالإقْلال.
فابْتَدَرَ الشَّيْخُ يُفدِّيني بأبْنائِه، ويُهَدِّيني بهَنائِه، ويقولُ: (إنَّه لكما قال، ومِن أين لِعاثِرٍ أن يُقال، أنا أعْرِفُ آباءَه وأجْدادَه، وشَهِدْتُ جُموعَه وأعْدادَه، طالَما رَكِبَ السَّرير، ولَبِسَ الحَرير، وصَبَتْ إليه الكِعاب، وانْقَصَفَتْ دونَه الكِعاب، وخَضَعَتْ لجِدِّه الأمْلاك، وكانَ به القَوامُ والمِلاك، لقد أطاعَتْه الأنْداد، وأجابَتْه الأعْداد، ودَوَّخَ البُلدان، فذَلَّ كلٌّ له ودان، فيا لك مِن دَهْرٍ لا يُبْقي على أحَد، ولا يَبْقى على مُسْتأنِسٍ وَحَد، يُعْنى بالقَريبِ والبَعيد، ويولَعُ بالشَّقيِّ والسَّعيد، ومِن حَقِّ ذلك الفَضْلِ أن توصَلَ أسْبابُه، وتُرفَعَ قِبابُه، ويُصانَ مذالُه، ويُحلَّى جيدُه وقَذالُه، وأنتم يا بَني الأكارِم، وذَوي الهِمَمِ والمَكارِم، رِقُّوا للأفاضِل، واعْطِفوا بالفَواضِل، وارْحَموا عَزيزًا ذَلَّ، وكَثيرًا قَلَّ، ومُثْريًا أدْقَع، وحائِمًا على مَورِدِكم وَقَع).
فكلٌّ خَلَعَ ما عليه، وألْقى بما عنْدَه إليه، وخَلَعَ عنِّي خَلَقَ تلك الأسْمال، وجاءَ بما شاءَ وشِئْتُ مِن كِسْوةٍ ومال، فمَلأَ اليَمينَ والشِّمال، واسْتَقْبَلَ الجَنوبَ والشَّمال، ثُمَّ قال: (اللَّهُمَّ يا رافِعَ الإعْدام، وجامِعَ النُّدَّام، وعالِمَ الخَفيَّات، وواهِبَ الحَفيَّات، ومُلطِّفَ الأسْباب، ومُؤلِّفَ الأحْباب، مَتِّعْهم بالمَسرَّات والحَبَرَات، وألْحِفْهم بالمُروطِ والحِبَرَات، وأَفِضْ عليهم جَدْواك، وزَحْزِحْ عنهم بَلْواك، واحْرُسْهم عن الغِيَر، ولا تَجْعَلْهم عِظةَ الأمْثالِ والسِّيَر، وأرْسِلْ عليهم مِن سِتْرِك مَديدًا، وخُذْ بهم مِن أمْرِك سَديدًا.
وقالَ لي: (خُذْها إليك، وإذا كنْتُ معَك فلا عليك). فسِرْنا وقد أظَلَّ العِشاء، وسَقَطَ بي عليه العَشاء، يَقُودُني -زَعَمَ- إلى أُسْرتِه، ويُحادِثُني عن يُسْرِه وعُسْرتِه، وجَعَلَ يومِئُ ويُشير، ويقولُ: (هناك العَدَدُ والعَشير، كلٌّ لك خَوَل وطاعة، ولك عليَّ إمْرةٌ مُطاعة)، فسِرْتُ حتَّى دَنا بي إلى خِيام، ومَعشَرٍ نِيام، فقالَ: (امْكُثْ هاهنا قَليلًا، حتَّى أُرِيَك جَليلًا، وأَكْشِفَ لك مِن أمْري عَجيبًا، وأقودَ إليك سابِحًا ونَجيبًا، تَحُلُّ مِن مَتْنِ هذا في أَنِيق، وتَسْمو مِن ذِروةِ ذاك على نِيق، ثُمَّ تَتَبوَّأُ القَصْرَ المَشيد، وتَخلُفُ المَأمونَ أو الرَّشيد).
فتَخَلَّلَ تلك الخِيام، وأيْقَظَ النِّيام، فما شَعَرْتُ إلَّا بالقَوْم، وقدْ أخَذوني باللَّوْم، (مَن المُنْتابُ والطَّارِق، ولَعلَّه الخائِنُ البارِحةَ والسَّارِق)، والأكُفُّ لا تَكُفُّ، واليَمينُ تَصفَع، والشِّمالُ لا تُرْفَع، ولا قَوْلَ لي يُسمَع، ولا أنا في حَياةٍ أطْمَع، حتَّى طَرحوني عن حِماهم، ورَمَوا بي إلى مَرْماهم، لا أُقَلِّبُ طَرْفًا، ولا أَقْدِرُ حَرْفًا، والشَّيْخُ معَ ذلك يَرْميني بسِهامي، ويَعجَبُ مِن صَيبِه وجِهامي، ويُذَكِّرُني بالعَهْد، ويقولُ: (ما أحْوَجَك إلى المَهْد!)، ثُمَّ انْصَلَتَ عنِّي انْصِلاتًا، ووَلَّى انْسِرابًا وانْفِلاتًا، وهو يُنشِدُ:
دَعا بك الدَّهْرُ لو تُجيبُ
يا حَبَّذا السَّامِعُ المُجيبُ
كم تَصحَبُ الدَّهْرَ بالأماني
يَغُرُّك الطَّرْفُ والنَّجيبُ
فخُذْ حَديثًا عن اللَّيالي
فكلُّ أنْبائِها عَجيبُ
المَجْدُ فَوْزُ الفَتى بحَظٍّ
فما تَميمٌ وما تُجيبُ
مَن خادَعَ الدَّهْرَ والبَرايا
فذلك السَّيِّدُ النَّجيبُ
يا رُبَّ خِدْنٍ تَرَكْتُ يَوْمًا
وحَظُّه الوَجْدُ والوَجيبُ
مُجَدَّلًا في التُّرابِ يُدْعى
مِنه سَميعٌ فلا يُجيبُ
فعَلِمْتُ أنَّه الشَّيْخُ أبو حَبيب، وقلْتُ: ما لِداءِ كَيْدِهِ مِن طَبيب!) [797] ((المقامات اللزومية)) للسرقسطي (ص: 17). .
رابعًا: الوَصايا
الوَصايا مِن الفُنونِ الأدَبيَّةِ المُلازِمةِ للأدَبِ، المُسْتمرَّةِ باسْتِمْرارِه؛ فهو نَوْعٌ مِن الفَنِّ يَحمِلُ الجَمالَ الفَنِّيَّ المُؤثِّرَ، الصَّادِرَ مِن أديبٍ خَبيرٍ بأمورِ الحَياةِ وتَقَلُّباتِها، مُحِبٍّ للموصى له، يُخلِصُ له النَّصيحةَ والمَوْعِظةَ، وتكونُ غالِبًا عن قُرْبِ رَحيلٍ؛ سَواءٌ بدُنُوِّ الأجَلِ أو السَّفَرِ.
ومِن هذه الوَصايا:
وَصيَّةُ لِسانِ الدِّينِ بنِ الخَطيبِ لأوْلادِه: (الحَمْدُ للهِ الَّذي لا يَرُوعُه الحِمامُ المَرْقُوب، إذا شمَّ نَجْمُه المَثْقوب، ولا يَبْغَتُه الأجَلُ المَكْتوب، ولا يَفْجَؤُه الفِراقُ المَعْتوب، مُلْهِمِ الهُدى الَّذي تَطْمئِنُّ به القُلوب، ومُوَضِّحِ السَّبيلِ المَطْلوب، وجاعِلِ النَّصيحةِ الصَّريحةِ مِن قِسْمِ الوُجوب، لا سِيَّما للوالي المَحْبوب، والوَلَدِ المَنْسوب، القائِلِ في الكِتابِ المُعْجِزِ الأُسْلوب: أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ [البقرة: 133] ، وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ [البقرة: 132] ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على سَيِّدِنا ومَوْلانا مُحمَّدٍ رَسولِه، أكْرَمِ مَن زُرَّتْ على نورِه جُيوبُ الغُيوب، وأشْرَفِ مَن خُلِعَتْ عليه حُلَلُ المَهابةِ والعِصْمةِ فلا تَقْتَحِمُه العُيونُ ولا تَصِمُهُ العُيوب، والرِّضا عن آلِه وأصْحابِه المُثابِرينَ على لِسانِ الاسْتِقامةِ بالهَوَى المَغْلوب، والأمَلِ المَسْلوب، والاقْتِداءِ المُوَصِّلِ إلى المَرْغوب، والعِزِّ والأمْنِ مِن الُّلغوب، وبَعْدُ؛ فإنِّي لمَّا عَلاني المَشِيبُ بقُمَّتِه، وقادَني الكِبَرُ بِرُمَّتِه، وادَّكَرْتُ الشَّبابَ بَعْدَ أُمَّتِه، أَسِفْتُ لِما أضَعْتُ، ونَدِمْتُ بَعْدَ الفِطامِ على ما رَضَعْتُ، وتَأكَّدَ وُجوبُ نُصْحي لمَن لَزِمَني رَعْيُه، وتَعلَّقَ بعَيْني سَعْيُه، وأمَّلْتُ أن تَتَعدَّى إليَّ ثَمَرةُ اسْتِقامتِه، وأنا رَهينُ فَوات، وفي بَرْزَخِ أمْوات، ويَأمَنُ العُثورَ في الطَّريقِ الَّتي اقْتَضَتْ عِثاري، إن سَلَكَ -وعسى ألَّا يكونَ ذلك- على آثاري، فقُلْتُ أخاطِبُ الثَّلاثةَ الوَلَد، وثَمَراتِ الخَلَد، بَعْدَ الضَّراعةِ إلى اللهِ تعالى في تَوْفيقِهم، وإيْضاحِ طَريقِهم، وجَمْعِ تَفْريقِهم، وأن يَمُنَّ عليَّ مِنهم بحُسْنِ الخَلَف، والتَّلافي مِن قَبْلِ التَّلَف، وأن يُرزَقَ خَلَفُهم التَّمَسُّكَ بهَدْيِ السَّلَف؛ فهو وَليُّ ذلك، والهادي إلى خَيْرِ المَسالِك.
اعْلَموا -هَداكم اللهُ تعالى الَّذي بأنْوارِه تَهْتَدي الضُّلَّال، وبرِضاه تُرْفَعُ الأغْلال، وبالْتِماسِ قُرْبِه يَحصُلُ الكَمال، وإذا ذَهَبَ المال، وأخْلَفَتِ الآمال، وتَبَرَّأَتْ مِن يَمينِها الشِّمال- أنِّي مُودِّعُكم وإن سَالَمني الرَّدى، ومُفارِقُكم وإن طالَ المَدى، وما عدا ممَّا بَدا، فكيف وأدَواتُ السَّفَرِ تُجْمَع، ومُنادي الرَّحيلِ يُسمَع، ولا أقَلَّ للحَبيبِ المُودَّع، مِن وَصيَّةِ مُحتَضَر، وعُجالةِ مُقْتَصِر، ورَتيمةٍ تُعقَدُ في خِنْصِر، ونَصيحةٍ تكونُ نَشيدةَ واعٍ مُبْصِر، تَتَكفَّلُ لكم بحُسْنِ العَواقِب مِن بعدي، وتُوَضِّحُ لكم مِن الشَّفَقةِ والحُنُوِّ قَصْدي، حسَبَما تَضمَّنَ وَعْدُ اللهِ مِن قَبْلِ وَعدي، فهي أَرَبُكم الَّذي لا يَتَغيَّرُ وَقْفُه، ولا يَنالُكم المَكْروهُ ما رَفَّ عليكم سَقْفُه، وكأنِّي بشَبابِكم قد شاخ، وبراحِلِكم قد أناخ، وبناشِطِكم قد كَسِل، واسْتَبْدَلَ الصَّابَ مِن العَسَل، ونُصولُ الشَّيْبِ تُروِّعُ بأَسَل، لا بلِ السَّامُ مِن كلِّ حَدَبٍ قد نَسَل، والمَعادُ اللَّحْدُ ولا تَسَل، فبالأمْسِ كنْتُم فِراخَ حَجْر، واليَوْمَ أبْناءَ عَسْكَرِ مَجْر، وغَدًا شُيوخَ مَضْيَعةٍ وهَجْر، والقُبورُ فاغِرة، والنُّفوسُ عن المَألوفِ صاغِرة، والدُّنْيا بأهْلِها ساخِرة، والأُولى تَعْقُبُها الآخِرة، والحازِمُ مَن لم يَتَّعِظْ به في أمْر، وقالَ: "بيَدي لا بيَدِ عَمْرو".
فاقْتَنوها مِن وَصيَّة، ومَرَامٍ في النُّصْحِ قَصِيَّة، وخُصُّوا بها أوْلادَكم إذا عَقَلوا؛ ليَجِدوا زادَها إذا انْتَقَلوا، وحَسْبي وحَسْبُكم اللهُ الَّذي لم يَخلُقِ الخَلْقَ هَمَلًا، ولكن ليَبْلُوَهم أيُّهم أحْسَنُ عَمَلًا، ولا رَضيَ الدُّنْيا مَنزِلًا، ولا لَطَفَ بمَن أصْبَحَ عن فِئَةِ الخَيْرِ مُنعزِلًا، ولْتُلَقَّنُوا تَلْقينًا وتُعَلَّمُوا عِلمًا يَقينًا، وأنَّكم لن تَجِدوا -بَعْدَ أن أنْفَرِدَ بذَنْبي، ويَفْتَرِشَ التُّرابَ جَنْبي، ويَسُحَّ انْسِكابي، وتُهَرْوِلَ عن المُصَلَّى رِكابي- أحْرَصَ مِنِّي على سَعادةٍ إليكم تُجْلَب، أو غايةِ كَمالٍ بسَبَبِكم تُرْتَادُ وتُطْلَب، حتَّى لا يكونَ في الدِّينِ والدُّنْيا أَوْرَفَ مِنكم ظِلًّا، ولا أشْرَفَ مَحَلًّا، ولا أَغْبَطَ نَهْلًا وعَلًّا، وأقَلُّ ما يوجِبُ ذلك عليكم أن تُصِيخوا إلى قَوْلي الآذانَ ...) [798] ((نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب)) للمقري التلمساني (7/ 392)، ((جمهرة خطب العرب في عصور العربية الزاهرة)) لأحمد زكي صفوت (3/ 187). .
ومِنها أيضًا وَصيَّةُ الحَكَمِ بنِ هِشامٍ الرَّبَضيِّ لوَلَدِه ووَليِّ عَهْدِه عبْدِ الرَّحْمنِ، حينَ حَضَرَتْه الوَفاةُ: (يا بُنيَّ، احْفَظْ ما أقولُ لك وأوْصيك به، وأصْغِ إليه بسَمْعِك وذِهْنِك: إنِّي وَطَّدْتُ لك الدُّنْيا، وذَلَّلْتُ لك الأعْداءَ، وأقَمْتُ أوَدَ الخِلافةِ، وأمِنْتُ عليك الاخْتِلافَ والمُنازَعةَ، فاجْرِ على ما نَهَجْتُ لك مِن الطَّريقةِ، واعْلَمْ أنَّ أَولى الأمورِ بك وأوْجَبَها عليك حِفْظُ أهْلِك ثُمَّ عَشيرتِك، ثُمَّ الَّذين يَلونَهم مِن مَواليك وشيعتِك، فهْمُ أنْصارُك وأهْلُ دَعْوتِك، ومُشارِكوك في حُلْوِك ومُرِّك، فبهِمْ أنْزِلْ ثِقَتَك، وإيَّاهم واسِ مِن نِعْمتِك، وعِصابتَهم اسْتَشْعِرْ دونَ المُتَوثِّبينَ إلى مَراتِبِهم مِن عَوامِّ رَعيَّتِك، الَّذين لا يَزالونَ ناقِمينَ على المُلوكِ أفْعالَهم، مُسْتثقِلينَ لأعْبائِهم، فاحْسِمْ عِلَلَهم ببَسْطِ العَدْلِ لكافَّتِهم، واعْتِيامِ أُولي الفَضْلِ والسَّدادِ لأحْكامِ عَمالاتِهم، دونَ أن تَرفَعَ عنهم ثِقَلَ الهَيْبةِ وإصْرَ الرَّهْبةِ، فلْتُحيِّهم ما تَحمِلُهم عليه مِن قَصْدِ السِّيرةِ وبَذْلِ النَّصَفةِ، فلا تُمكِّنْهم مِن الارْتقاءِ إلى فوقِ مَنازِلهم البَتَّةَ، إلَّا أن تَرى رَجُلًا قد نَهَضَتْ به نفْسُه، وسَمَتْ به خِصالُه، فانْهَضْ به وأعِنْه؛ فإنَّ أوَّلَ كلِّ شَرَفٍ خارِجيَّةٌ، ولا تَدَعْ كلَّ وَقْتٍ وعلى كلِّ حالٍ تَعْجيلَ مُكافأةِ المُحسِنِ بإحْسانِه، وتَنْكيلِ المُسيءِ بإساءتِه؛ فهما يَحبِسانِ عنك الرَّغْبةَ والرَّهْبةَ.
ومِلاكُ أمْرِك كلِّه المالُ وحِفْظُه، بأخْذِه مِن حِلِّه، وصَرْفِه في حَقِّه؛ فإنَّه رُوحُ المُلْكِ المُدبِّرُ لجُثْمانِه، فلا تَجعَلْ بيْنَك وبَيْنَه أحَدًا في الإشْرافِ على اجْتِبائِه وادِّخارِه، والتَّثْقيفِ لإنْفاقِه وعَطائِه، وخِتامُ وَصيَّتي إليك بإحْكامِك في أحْكامِك؛ فاتَّقِ اللهَ ما اسْتَطَعْتَ، وإلى اللهِ أَكِلُكَ، وإيَّاه أسْتَحْفِظُك) [799] (الوصايا في الأدب الأندلسي)) لحذيفة عزام (ص: 58). .
خامسًا: المُناظَراتُ
المُناظَراتُ فَنٌّ مِن الفُنونِ العَقْليَّةِ العِلميَّةِ يَقومُ على المُحاوَرةِ والمُجادَلةِ بَيْنَ شَخْصَينِ أو أكْثَرَ، يُدْلي كلُّ واحِدٍ فيه بدَلْوِه، ويُقدِّمُ رأيَه وحُجَجَه، للوُصولِ إلى رأيٍ صَحيحٍ مُؤيَّدٍ بالأدِلَّةِ والبَراهينِ.
وأصْلُ المُناظَراتِ راجِعٌ إلى اخْتِلافِ الآراءِ والمَذاهِبِ، ومُحاوَلةِ كلِّ فَريقٍ الانْتِصارَ لنفْسِه، وبَيانَ صِحَّةِ رأيِه، وتَفْنيدَ رأيِ مُخالِفِه، مُعْتمِدًا على مَخْزونِه الثَّقافيِّ ومَوْروثِه العِلميِّ مِن القُرآنِ والحَديثِ وأقْوالِ العُلَماءِ؛ ولِهذا انْتَشَرَتِ المُناظَراتُ بَيْنَ أصْحابِ المَذاهِبِ الفِقْهيَّةِ، وبَيْنَ المَدارِسِ النَّحْويَّةِ، كما وُجِدَتْ بَيْنَ أهْلِ السُّنَّةِ وعُلَماءِ الكَلامِ والفَلاسِفةِ، وهذه المُناظَراتُ لا تَمُتُّ لفَنِّ المُناظَراتِ الأدَبيَّةِ بصِلةٍ؛ إذ مَبْناها على المُناظَرةِ العِلميَّةِ ودَحْضِ الحُجَّةِ بالحُجَّةِ. ومِن أمْثِلةِ تلك المُناظَراتِ ما جَرى بَيْنَ أبي الحُسَينِ بنِ أبي الرَّبيعِ النَّحْويِّ وبَيْنَ مالِكِ بنِ المُرَحَّلِ في مَسْألةِ: "كانَ ماذا؟".
وقدْ كانَ للطَّبيعةِ الغَنَّاءِ في شِبْهِ الجَزيرةِ الأنْدَلُسيَّةِ أكْبَرُ الأثَرِ في الأدَبِ عامَّةً، وفي المُناظَراتِ خاصَّةً؛ إذ كانَتْ أغْلَبُ المُناظَراتِ تَنْبَني على الوَصْفِ، ولِهذا فَشَتْ في الأدَبِ الأنْدَلُسيِّ المُناظَراتُ في تَفْضيلِ بعضِ المُدُنِ الأنْدَلُسيَّةِ على بعضِها، سَواءٌ كانت تلك المُناظَراتُ تُعقَدُ بَيْنَ رَجُلَينِ، كما وَقَعَ بَيْنَ أبي الوَليدِ بنِ رُشْدٍ الفَقيهِ القُرْطُبيِّ وبَيْنَ الرَّئيسِ أبي بَكْرِ بنِ زُهْرٍ الإشْبيليِّ في التَّفْضيلِ بَيْنَ قُرْطُبةَ وإشْبيليَة؛ حيثُ انْتَصَرَ ابنُ رُشْدٍ على ابنِ زُهْرٍ بتَفْضيلِ قُرْطُبةَ بقَوْلِه: لا أدْري ما تقولُ، غيْرَ أنَّه إذا ماتَ عالِمٌ بإشْبيليَة فأُرِيدَ بَيْعُ كُتُبِه حُمِلَتْ إلى قُرْطُبةَ حتَّى تُباعَ فيها، وإن ماتَ مُطرِبٌ بقُرْطُبةَ فأُريدَ بَيْعُ آلاتِه حُمِلَتْ إلى إشْبيليَة، وقُرْطُبةُ أكْثَرُ كُتُبًا مِن إشْبيليَة [800] يُنظر: ((نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب)) للتلمساني (1/ 155). !
وقد تكونُ تلك المُناظَرةُ خَياليَّةً، يَعقِدُها الأديبُ بقَلَمِه، يَتَمثَّلُ في نفْسِه صورةَ المُتناظِرَينِ ومَزاياهما وعُيوبَهما، ويَجْري على لِسانِ قَلَمِه حِوارُ الطَّرفَينِ، في أسلوبٍ ماتِعٍ مُقنِعٍ، رُبَّما انْتَهى مِنه الكاتِبُ إلى الانْتِصارِ لأحَدِ الطَّرَفَينِ، ورُبَّما أبْقى الأمْرَ مِن غيْرِ فَصْلٍ، بحيثُ يَميلُ القارِئُ إلى مَن شاءَ مِنهما، ورُبَّما أعْلَنَ تَساويَ كَفَّتَيِ الطَّرَفَينِ، وانْتِهاءَ الأمْرِ على التَّعادُلِ.
ومِن أرْوَعِ تلك المُناظَراتِ ما عَقَدَه ابنُ بُرْدٍ الأصْغَرُ بَيْنَ السَّيْفِ والقَلَمِ، وقدْ رَمَزَ بالسَّيْفِ لرِجالِ الجَيْشِ، وبالقَلَمِ لأرْبابِ الفِكْرِ.
يقولُ فيها: (أمَّا بَعْدَ حَمْدِ اللهِ بجَميعِ مَحامِدِه وآلائِه، والصَّلاةِ على خاتَمِ أنْبيائِه؛ فإنَّ التَّسابُقَ مِن جَوادَينِ سَبَقا في حَلْبة، وقَضيبَينِ نُسِقا في تُرْبة، والتَّحاسُدَ مِن نَجْمَينِ أنارا في أفُق، وسَهْمَينِ صارا على نَسَق، والتَّفاخُرَ مِن زَهْرتَينِ تَفتَّحَتا مِن كِمامة، وبارِقتَينِ تَوضَّحَتا مِن غَمامة- لَأَحْمَدُ وُجوهِ الحَسَد، وإن كانَ مَذْمومًا معَ الأبَد، ورُبَّما امْتَدَّ أحَدُ الجَوادَينِ بخُطْوة، أو خُصَّ أحَدُ ‌القَضيبَينِ ‌برَبْوة، أو كانَ أحَدُ السَّهمَينِ أنْفَذَ مَصيرًا، أو راحَ أحَدُ النَّجمَينِ أضْوَأَ تَنْويرًا، أو غَدَتْ أيُّ الزَّهْرتَينِ أنْدَى غَضارة، أو أمْسَتْ إحْدى البارِقتَينِ أسْنى إنارة؛ فالمُقصِّرُ يَرْتقِبُ تَقدُّمًا، وتَقارُبُ الحالتَينِ في المُجانَسة يَشُبُّ نارَ المُنافَسة، وإن حالَ بيْنَهما قَدْحُ النُّقَّاد، وقُبْحُ تَحاسُدِ الأضْداد.
وإنَّ السَّيْفَ والقَلَمَ لمَّا كانا مِصباحَينِ يَهْديانِ إلى القَصْد مَن باتَ يَسْري إلى المَجْد، وسُلَّمَينِ يُلْحِقانِ بالكَواكِب مَن ارْتَقى لسامِياتِ المَراتِب، وطَريقَينِ يَشرَعانِ نَهْجَ الشَّرَفِ لمَن تَقَوَّى إليه، ويَجْمَعانِ شَمْلَ الفَخْرِ لمَن تَأَشَّبَ عليه، ووَسيلتَينِ يُرَشِّفَانِ العُلا فَمَ عاشِقِها، ويَبسُطانِ في وِصالِ المُنى يَدَ وامِقِها، وشَفيعَينِ لا يُؤَخَّرُ تَشْفيعُهما، ومُجمِّعَينِ لا يُفرَّقُ تَجْميعُهما، جَرَّرا أذْيالَ الخُيَلاءِ تَفاخُرًا، وأشَمَّا بأنْفِ الكِبْرياءِ تَنافُرًا، وادَّعى كلُّ واحِدٍ مِنهما أنَّ الفَوْزَ لقِدْحِه، وأنَّ الوَرْيَ لقَدْحِه، وأنَّ الدُّرَّ مِن أصْدافِه، وأنَّ البِكْرَ مِن زِفافِه، وأنَّ البِناءَ مِن تَشْييدِه، وأنَّ المِلاءَ مِن تَعْضيدِه، وأنَّ كُباءَ الثَّناءِ مَوْقوفٌ على مَجامِرِه، وأنَّ خَطيبَ الفَخْرِ مَحْبوسٌ على مَنابِرِه، وأنَّ حُلَلَ المَآثِرِ مِن نَسيجِه، وأنَّ أفْرادَ المَفاخِرِ مِن تَزْويجِه.
وحينَ كَشَفَ الجِدالُ قِناعَه، ومَدَّ الخِصامُ ذِراعَه، وهَزَّ الإباءُ مِن عِطْفِه، وأشمَّ الأنْفُ مِن أنفِه، قاما يَتَبارَيانِ في المَقال، ويَتَساجَلانِ في الخِصال، ويَصِفُ كلُّ واحِدٍ مِنهما جَلالَ نفْسِه، ويَذكُرُ فَضْلَ ما اجْتُنِيَ مِن غَرْسِه، ويَبأى بمَنْقبةٍ نافَرَتِ السُّها، ومَرْتبةٍ رَيِّضةٍ خَيَّسَها، ورِياسةٍ مِن ذَوائِبِ الجَوْزاءِ صادَها، ونَباهةٍ في صَهوةِ العَيُّوقِ أفادَها.
فقالَ القَلَمُ: ها، اللهُ أكْبَرُ! أيُّها المُسائِلُ بَدْءًا يَعقِلُ لسانَك، ويَحيِّرُ جَنانَك، وبَديهةً تَملَأُ سَمْعَك، وتَضيِّقُ ذَرْعَك. خَيْرُ الأقْوالِ الحَقُّ، وأحْمَدُ السَّجايا الصِّدْقُ، والأفْضَلُ مَن فَضَّلَه اللهُ عزَّ وجَلَّ في تَنْزيلِه، مُقْسِمًا به لرَسولِه، فقالَ: ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ [القلم: 1] ، وقالَ: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ [العلق: 3، 4]، فَجَلَّ مِن مُقْسِمٍ، وعَزَّ مِن قَسَمٍ، فما تَراني وقدْ حَلَلْتُ بَيْنَ جَفْنِ الإيمانِ وناظِرِه، وجُلْتُ بَيْنَ قَلْبِ الإنْسانِ وخاطِرِه، لقد أخَذْتُ الفَضْلَ برُمَّتِه، وقُدْتُ الفَخْرَ بأزِمَّتِه!
فقالَ السَّيْفُ: عُدْنا مِن ذِكْرِ الطَّبيعة إلى ذِكْرِ الشَّريعة، ومِن وَصْفِ الخَصلة إلى وَصْفِ المِلَّة، لا أُسِرُّ ولكنْ أُعْلِن: قيمةُ كلِّ امْرِئٍ ما يُحسِن. إنَّ عاتِقًا حَمَلَ نِجادي لسَعيد، وإنَّ عَضُدًا باتَ وِسادي لسَديد، وإنَّ فَتًى اتَّخَذَني دَليلَه لمَهْديٌّ، وإنَّ امْرَأً صَيَّرَني رَسيلَه لمَفْديٌّ؛ يَشُقُّ منِّي الدُّجى بمِصباح، ويُقابِلُ كلَّ بابٍ بمِفْتاح، أُفْصِحُ والبَطَلُ قد خَرِس، وأَبْتَسِمُ والأجَلُ قد عَبَس، أقْضي فلا أُنْصِف، وأمْضي فلا أصْرِف، أزْري بالوَفاء، وأهْتِكُ اللَأْمةَ هَتْكَ الرِّداء.
فقالَ القَلَمُ: نَعوذُ باللهِ مِن الحَوْر بَعْدَ الكَوْر، وقُبْحًا للتَّحلِّي بالجَوْر، وتُسَوِّدُ ما بَيَّضَ الصَّفاء، وتُكَدِّرُ ما أخْلَصَ الإخاء، وتُوكِّدُ أسْبابَ الفِتَن، وتَضرِبُ بقِداحِ الفِتَن. الحَقُّ أبْلَج، والباطِلُ لَجْلَج، إن تأبَّى للنَّصَفة، فإنَّها في قِدْحِها لمأمونةُ الطَّائِر، مَحْمودةُ الباطِنِ والظَّاهِر، أحْكُمُ فأعْدِلُ، وأشْهَدُ فأُقْبَلُ، وتَرحَلُ عَزَماتي شَرْقًا وغَرْبًا ولا أرْحَلُ، أَعِدُ فأفي، وأُسْتَكْفى فأكْفي، أحْلُبُ الغِنى مِن ضُروعِه، وأجْتَني النَّدى مِن فُروعِه، وهلْ أنا إلَّا قُطْبٌ تَدورُ عليه الدُّور، وجَوادٌ شَأوُه يُدرِكُ الأمَل، شَفيعُ كلِّ مَلِكٍ إلى مَطالِبِه، ووَسيلتُه إلى مَكاسِبِه، وشاهِدُ نَجْواه قَبْلَ كلِّ شاهِد، ووارِدُ مَعْناه قَبْلَ كلِّ وارِد.
فقالَ السَّيْفُ: يا لَلَّهِ! اسْتَنَّتِ الفِصالُ حتَّى القَرْعى، ورُبَّ صَلَفٍ تحتَ الراعِدة؛ لقد تُحاوِلُ امْتِدادًا بباعٍ قَصيرة، وانْتِفاضًا بجَناحٍ كَسيرة، أمْسْتَعْرِبٌ والفَلْسُ ثَمَنُك، ومُسْتَجْلَبٌ وكلُّ بُقْعةٍ وَطَنُك؟! جِسْمٌ عارٍ، ودَمْعٌ بارٍ، تَحْفى فتُنعِلُ بَرْيًا، حتَّى يَعودَ جِسْمُك فيًّا. إنَّ المُلوكَ لتُبادِرُ إلى دَرَكي، ولتَتَحاسَدُ في مُلْكي، ولتَتَوارَثُني على النَّسَب، ولتُغالي فيَّ على الحَسَب، فتُكلِّلُني المَرْجان، وتُنْعِلُني العِقيان، وتُلْحِفُني بخلَلٍ كحُلَل، وحَمائِلَ كخَمائِل، حتَّى أبْرُزَ بَرازَ الهِنْديِّ يَوْمَ الجَلاء، والرَّوْضِ غِبَّ السَّماء....
وهكذا تَدورُ المُحادَثةُ بيْنَهما دونَ أن يَنْتصِرَ لواحِدٍ مِنهما؛ إذ مُرادُه إعْلاءُ قَدْرِهما، ومَدْحُ المُتَّصِفِ بهما، وقد كَتَبَ تلك المُناظَرةَ إلى أبي الجَيْشِ المُوفَّقِ مُجاهِدٍ، مادِحًا له بالجَمْعِ بَيْنَ مَزيَّتَيِ السَّيْفِ والقَلَمِ؛ فهو مُجاهِدٌ شُجاعٌ، وكاتِبٌ أديبٌ؛ ولِهذا يقولُ في آخِرِ تلك المُناظَرةِ الماتِعةِ شِعْرًا:
قد آنَ للسَّيْفِ ألَّا يَفضُلَ القَلَما
مُذْ سُخِّرا لفَتًى حازَ العُلا بهما
إنْ يُجْتَنَ المَجْدُ غَضًّا مِن كَمائِمِه
فإنَّما يُجْتَنى مِن بعضِ غَرْسِهما
ما جارَيَا أمَلًا أو وافَيَا أمَدًا
إلَّا وكانت خِصالُ السَّبْقِ بيْنَهما
سَقاهما الدَّهْرُ مِن تَشْتيتِه جُرَعًا
وللَّيالي صُروفٌ تَقطَعُ الرَّحِما
حتَّى إذا نامَ طَرْفُ الجَهْلِ وانْتَبَهَتْ
عَيْنُ النُّهى قَرَعا سِنَّيْهِما نَدَما
راحا بكَفِّ أبي الجَيْشِ الَّتي خُلِقَتْ
غَمامةً كلَّ حينٍ تُمطِرُ النِّعَما
فعادَ حَلْبُهما المُنْبَتُّ مُنْعقِدًا
وراحَ شَمْلُهما المُنْفَضُّ مُلْتئِما
يا أيُّها المَلِكُ السَّامي بهِمَّتِه
إلى سَماءِ عُلًا قد أعْيَتِ الهِمَما
لولا طِلابي غَريبَ المَدْحِ فيك لَما
وَصَفْتُ قَبْلَ عُلاك السَّيْفَ والقَلَما
وإنَّما كانَ تَعْريضًا كَشَفْتُ به
مِن البَلاغةِ وَجْهًا كانَ مُلْتَثِما [801] ((الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة)) لابن بسام (1/525). .
وقدْ أكْثَرَ الأنْدَلُسيُّونَ مِن المُناظَراتِ الَّتي تَقومُ على التَّفْضيلِ بَيْنَ البُلدانِ والمُدُنِ الأنْدَلُسيَّةِ، وهو لَوْنٌ قد طَغى على أدَبِهم بصِفةٍ عامَّةٍ، غَلَبوا فيه المَشارِقةَ؛ فإذا كانَ المَشارِقةُ بَرَعوا في المُناظَراتِ وفُنونِ الأدَبِ، فإنَّ الأنْدَلُسيِّينَ فاقوهم في فُنونِ الوَصْفِ عامَّةً شِعْرًا ونَثْرًا، وخاصَّةً المُناظَراتِ الوَصْفيَّةَ.
وقْد أرْجَعَ الدَّارِسونَ ذلك لأسْبابٍ؛ مِنها:
1- تَفرُّقُ الأنْدَلُسِ وتَشتُّتُ أهْلِها، وحُبُّهم لمُدُنِهم، وإعْلاؤُها على غيْرِها.
2- التَّنافُسُ بَيْنَ الأنْدَلُسِ والمَغرِبِ في الحَضارةِ والبُنيانِ والأدَبِ.
3- رَحيلُ العُلَماءِ مِن الأنْدَلُسِ، واضْطِرابُ الأحْوالِ السِّياسيَّةِ في عَهْدِ المُوحِّدينَ؛ ممَّا دَفَعَ أدَباءَ الأنْدَلُسِ إلى التَّعْريفِ بمُدُنِهم، والدِّفاعِ عن أنْدَلُسيَّتِهم، والكَشْفِ عن الرُّقيِّ الحَضاريِّ الَّذي وَصَلَتْ إليه الأنْدَلُسُ وتَطوُّرُها المِعْماريُّ [802] ينظر: ((المناظرة بين المدن الأندلسية، مجلة التراث العربي)) لحسناء أقدح (العدد: 144-145/18). .
ومِن هذه المُناظَراتِ: مُناظَرةُ صَفْوانَ بنِ إدْريسَ، وهي مُناظَرةٌ أقامَها في التَّفْضيلِ بَيْنَ مُدُنِ الأنْدَلُسِ؛ حيثُ وَهَبَ لكلِّ مَدينةٍ لِسانًا ناطِقًا تَذكُرُ به مآثِرَها وما وُهِبَتْ مِن الجَمالِ والنَّعيمِ، وتَفْخَرُ به على سائِرِ المُدُنِ الأنْدَلُسيَّةِ وقُراها، وقدْ كَتَبَ صَفْوانُ تلك المُناظَرةَ لعبْدِ الرَّحْمنِ ابنِ السُّلْطانِ يوسُفَ بنِ عبْدِ المُؤْمِنِ، وإلى صَفْوانَ يَرجِعُ الفَضْلُ في ابْتِكارِ هذا الفَنِّ.
يقولُ في مُناظَرتِه: (مَوْلاي، ‌أمْتَعَ ‌اللهُ ‌ببَقائِك الزَّمانَ وأبْناءَه، كما ضَمَّ على حُبِّك أحْناءَهم وأحْناءَه، ووَصَلَ لك ما شِئْتَ مِن اليُمْنِ والأمان، كما نَظَمَ قَلائِدَ فَخْرِك على لبَّةِ الدَّهْرِ نَظْمَ الجُمان، فإنَّك المَلِكُ الهُمام، والقَمَرُ التَّمام، أيَّامُك غُرَرٌ وحُجول، وفِرَنْدُ بَهائِها في صَفَحاتِ الدَّهْرِ يَجول، ألْبَسْتَ الرَّعيَّةَ بُرودَ التَّأمين، فتَنافَسَتْ فيك مِن نَفيسٍ ثَمين، وتَلقَّتْ دَعَواتِ خُلْدِك لها باليَمينِ، فكم للنَّاس مِن أمْنٍ بك وإيناس، وللأيَّام مِن لَوْعةٍ فيك وهُيام، وللأقْطار مِن لُباناتٍ لديك وأوْطار، وللبِلاد مِن قِراعٍ لها على تَمَلُّكِك لها وجِلاد، يَتَمنَّونَ شَخْصَك الكَريمَ على اللهِ ويَقْترِحون، ويَغْتبِقونَ في رِياضِ ذِكْرِك العاطِرِ بمُدامِ حُبِّك ويَصْطَبحون، كلُّ حِزْبٍ بما لديهم فَرِحون؛ مَحبَّةً مِن اللهِ ألْقاها لك حتَّى على الجَماد، ونَصْرًا مُؤزَّرًا تَنطِقُ به ألْسِنةُ السُّيوفِ على أفْواهِ الأغْماد، ومَن أسَرَّ سَريرةً ألْبَسَه اللهُ رِداءَها، ومَن طَوى حُسْنَ نِيَّةٍ خَتَمَ اللهُ له بالجَميلِ إعادتَها وإبْداءَها، ومَن قَدَّمَ صالِحًا فلا بُدَّ أن يُوازيَه، ومَن يَفْعلِ الخَيْرَ لا يَعْدَمْ جَوازيَه.
ولمَّا تَخاصَمَتْ فيك مِن الأنْدَلُسِ الأمْصار، وطالَ بها الوُقوفُ على حُبِّك والاقْتِصار، كلُّها يُفصِحُ قَوْلا، ويقولُ: أنا أحَقُّ وأَولى، ويُصيخُ إلى إجابةِ دَعْوتِه ويُصْغي، ويَتْلو إذا بُشِّرَ بك: ذلك ما كُنَّا نَبْغي، تَنَمَّرَتْ حِمْصٌ غَيظًا، وكادَتْ تَفيظُ فَيظًا، وقالتْ:
ما لهم يَزيدونَ ويَنْقُصون، ويَطْمَعون ويَحْرِصون، إن يَتَّبعونَ إلَّا الظَّنَّ وإن هُمْ إلَّا يَخْرُصون؟! لي السَّهْمُ الأسَدُّ، والسَّاعِدُ الأشَدُّ، والنَّهْرُ الَّذي يَتَعاقَبُ عليه الجَزْرُ والمَدُّ، أنا مِصْرُ الأنْدَلُسِ والنِّيلُ نَهري، وسَماءُ التَّأنُّسِ والنُّجومُ زَهْري، إن تَجارَيتم في ذلك الشَّرَف، فحَسْبي أن أفيضَ في ذِكْرِ الشُّرَف، وإن تَبَجَّحْتُم بأشْرَفِ اللَّبوس، فأيُّ إزارٍ اشْتَمَلْتُموه كشَنْتَبوس؟ لي ما شِئْتُ مِن أبْنيةٍ رِحاب، ورَوْضٍ يُسْتَغْنى بنُضْرتِه عن السَّحاب، قد مَلَأتْ زَهَراتي وِهادًا ونِجادًا، وتَوشَّحَ سَيْفُ نَهْري بحَدائِقي نِجادًا، فأنا أوْلاكم بسَيِّدِنا الهُمامِ وأحَقُّ، الآنَ حَصْحَصَ الحَقُّ.
فنَظَرَتْها قُرْطُبةُ شَزْرًا، وقالت: لقد كَثَّرْتِ نَزْرًا، وبَذَرْتِ في الصَّخْرِ الأصَمِّ بَزْرًا، كَلامُ العِدَى ضَرْبٌ مِن الهَذَيان، وأنَّى للإيْضاحِ والبَيان، متى اسْتَحالَ المُستَقْبَحُ مُسْتحْسَنًا، ومَن أوْدَعَ أجْفانَ المَهْجورِ وَسَنًا، أفمَن زُيِّنَ له سوءُ عَمَلِه فرآه حَسَنًا؟ يا عَجَبًا للمَراكِزِ تُقَدَّمُ على الأسِنَّة، وللأثْفارِ تُفَضَّلُ على الأعِنَّة، إن ادَّعَيْتُم سَبْقًا، فما عنْدَ اللهِ خَيْرٌ وأبْقى، لي البَيْتُ المُطَهَّرُ الشَّريف، والاسمُ الَّذي ضُرِبَ على رُواقِه التَّعْريف، في بَقيعي مَحَلُّ الرِّجالِ الأفاضِل، فليَرْغَمْ أنْفُ المُناضِل، وفي جامِعي مَشاهِدُ لَيلةِ القَدْر، فحَسْبي مِن نَباهةِ القَدْر، فما لأحَدٍ أن يَسْتأثِرَ عليَّ بهذا السَّيِّدِ الأعلى، ولا أرْتَضي له أن يُوَطِّئَ غيْرَ تُرابي نَعْلًا، فأقِرُّوا لي بالأبُوَّة، وانْقادوا على حُكْمِ البُنوَّة، ولا تكونوا كالَّتي نَقَضَتْ غَزْلَها مِن بَعْدِ قُوَّةٍ، وكُفُّوا عن تَباريكم؛ ذلكم خَيْرٌ لكم عنْدَ باريكم.
فقالَتْ غَرْناطةُ: لي المَعقِلُ الَّذي يَمْتنِعُ ساكِنُه مِن النُّجوم، ولا تَجْري إلَّا تحتَه جِيادُ الغَيمِ السَّجوم، فلا يَلْحَقُني مِن مُعانِدٍ ضَرَرٌ ولا حَيْف، ولا يَهْتَدي إليَّ خَيالٌ طارِقٌ ولا طَيْف، فاسْتَسْلِموا قَوْلًا وفِعْلًا، فقدْ أفْلَحَ اليَوْمَ مَن اسْتَعْلى، لي بِطاحٌ تَقَلَّدَتْ مِن جَداوِلِها أسْلاكًا، وأطْلَعَتْ كَواكِبُ زَهْرِها فعادَتْ أفْلاكًا، ومِياهٌ تَسيلُ على أعْطافي كأدْمُعِ العُشَّاق، وبَرْدُ نَسيمٍ يَرُدُّ ذَماءَ المُسْتَجيرِ بالانْتِشاق، فحُسْني لا يُطمَعُ فيه ولا يُحْتال، فدَعوني فكلُّ ذاتِ ذَيْلٍ تَخْتال، فأنا أَولى بِهذا السَّيِّدِ الأعْدَل، وما لي به مِن عِوَضٍ ولا بَدَل، ولمَ لا يَعطِفُ عليَّ عِنانَ مَجْدِه ويَثْني، وإن أنْشَدَ يَوْمًا فإيَّاي يَعْني:
بِلادٌ بها عَقَّ الشَّبابُ تَمائِمي
وأوَّلُ أرْضٍ مَسَّ جِلْدي تُرابَها
 فما لكم تَعْتَزُون لفَخْري وتَنْتَمون، وتَتَأخَّرونَ في مَيْداني وتَتَقدَّمون، تَبَرَّؤُوا إليَّ ممَّا تَزْعُمون، ذلكم خَيْرٌ لكم إن كنْتُم تَعْلَمون.
فقالَتْ مالَقةُ: أتَتْرُكوني بيْنَكم هَمَلًا، ولم تُعْطوني في سَيِّدِنا أمَلًا، ولمَ وَلِيَ البَحْرُ العَجاج، والسُّبُلُ الفِجاج، والجَنَّاتُ الأثيرة، والفاكِهةُ الكَثيرة؟ لديَّ مِن البَهْجةِ ما تَسْتغني به الحَمامُ عن الهَديل، ولا تَجْنَحُ الأنْفُسُ الرِّقاقُ الحَواشي إلى تَعْويضٍ عنه ولا تَبْديل، فما لي لا أُعْطى في ناديكم كَلامًا، ولا أَنْشُرُ في جَيْشِ فَخارِكم أعْلامًا؟!
فكأنَّ الأمْصارَ نَظَرَتْها ازْدِراءً، فلم تَرَ لحَديثِها في مَيْدانِ الذِّكْرِ إجْراءً؛ لأنَّها مَوطِنٌ لا يُحْلى مِنه بطائِلٍ، ونَظُنُّ البِلادَ تَأوَّلَتْ فيها قَوْلَ القائِلِ:
إذا نَطَقَ السَّفيهُ فلا تُجِبْه
فخَيْرٌ مِن إجابتِه السُّكوتُ
فقالَتْ مُرْسِيَةُ: أمامي تَتَعاطَونَ الفَخْر، وبحَضْرةِ الدُّرِّ تُنَفِّقونَ الصَّخْر! إن عُدَّتِ المَفاخِر، فلي مِنها الأوَّلُ والآخِر، أين أوْشالُكم مَن بَحْري، وخَرَزُكم مِن لُؤْلُؤِ نَحْري، وجَعْجَعَتُكم مِن نَفَثاتِ سِحْري؟ فلي الرَّوْضُ النَّضير، والمَرأى الَّذي ما له مِن نَظير، وزَنَقاتي الَّتي سارَ مَثلُها في الآفاق، وتَبَرْقَعَ وَجْهُ جَمالِها بغُرَّةِ الإصْفاق، فمِن دَوحات كم لها مِن بُكورٍ ورَوحات، ومِن أرْجاء إليها تُمَدُّ أيْدي الرَّجاء، فأبْنائي فيها في الجَنَّةِ الدُّنْيويَّةِ مُودَعون، يَتَنعَّمونَ فيما يَأْخُذون ويَدَعون، ولهم فيها ما تَشْتَهي أنْفُسُهم ولهم فيها ما يَدَّعون؛ فانْقادوا لأمْري، وحاذِروا اصْطِلاءَ جَمْري، وخَلُّوا بيْني وبَيْنَ سَيِّدِنا أبي زَيْد، وإلَّا ضَرَبْتُكم ضَرْبَ زَيْد، فأنا أَولاكم بِهذا المَلِكِ المُسْتأثِرِ بالتَّعْظيم، وما يُلَقَّاها إلَّا ذو حَظٍّ عَظيم ...) [803] ((نفح الطيب)) للتلمساني (1/174). .
فمِثلُ هذه المُناظَراتِ تَنُمُّ على العَقْليَّةِ الأنْدَلُسيَّةِ الخِصْبةِ الَّتي صالَتْ وجالَتْ في مَيادينِ الفِكْرِ وعَوالِمِ المَعْرفةِ، ولم تكنْ عالةً على المَشرِقيِّينَ في آدابِها وعُلومِها، بلِ اخْتَرَقَتْ حُجُبَ الزَّمانِ والمَكان، وشَقَّتْ عن جَسَدِها دِثارَ التَّقْليدِ الَّذي تَدَثَّرَتْ به أعْوامًا عَديدة وسِنينَ مَديدة، فاسْتَطاعَتْ أن تُخلِّدَ ذِكْرَها، وأن تَطبَعَ بَصْمتَها الأدَبيَّة على أعْمالِها الفَنِّيَّة، وأن تُزاحِمَ المَشرِقَ بمَنكِبِ الفِكْرِ والمَعْرفةِ.
سادسًا: القِصَصُ
ازْدَهَرَتِ القِصَصُ عنْدَ أدَباءِ الأنْدَلُسِ ازْدِهارًا كَبيرًا؛ حيثُ تَطَوَّرَتْ عن المَقاماتِ وبَوادِرِ الفَنِّ القَصَصيِّ الَّذي عَرَفَتْه الأنْدَلُسُ، سواءٌ مِن الأدَبِ المَشرِقيِّ أو ممَّا جادَتْ به قَريحةُ الأنْدَلُسيِّينَ مِن الفُنونِ والحِكاياتِ.
وقدِ امْتَلأَتْ كُتُبُ الأدَبِ الأنْدَلُسيِّ بمِثلِ تلك الحِكاياتِ، والنَّاظِرُ في "العِقْدِ الفَريدِ" لابنِ عبْدِ رَبِّه يَلحَظُ امْتِلاءَ الكِتابِ بأمْثالِ تلك القِصَصِ، سواءٌ الحَقيقيَّةُ مِنها كأخْبارِ امْرِئِ القَيْسِ وحِكاياتِه كقِصَّةِ يَوْمِ دارةِ جُلْجُلِ، وأخْبارِ أبي نُواسٍ، ونَوادِرِ أشْعَبَ، وفُكاهاتِ الأعْمَشِ، ونَحْوِ ذلك.
ومِنها كذلك تلك القِصَصُ المُبْتكَرةُ الَّتي لا يُعقَلُ أن تكونَ حَقيقيَّةً، وهي كَثيرةٌ؛ فمِنها قِصَّةُ عبَّاسِ بنِ الأحْنَفِ، وقِصَّةُ زَواجِ المَأمونِ ببُورانَ بِنْتِ الحَسَنِ بنِ سَهْلٍ، وحَديثُ المُجَرَّدِ الَّذي كانَ مِن أمْرهِ أنَّ ابنَ وَهْبٍ الشَّاعِرَ قالَ: (بينا أنا بسوقِ الكَيْلِ بمَكَّةَ بَعْدَ أيَّامِ المَوسِمِ، إذ أنا بامْرأةٍ مِن نِساءِ مَكَّةَ، معَها صَبيٌّ يَبْكي، وهي تُسْكِتُه فيَأبى أن يَسكُتَ، فسَفَرَتْ فأخْرَجَتْ مِن فيها كِسْرةَ دِرْهَمٍ، فدَفَعَتْها إلى الصَّبيِّ فسَكَتَ، فإذا وَجْهٌ رَقيقٌ كأنَّه كَوكَبٌ دُرِّيٌّ، وإذا شَكْلٌ رَطبٌ ولِسانٌ فَصيحٌ، فلمَّا رَأتْني أُحِدُّ النَّظَرَ إليها، قالَتْ: اتْبَعْني، فقلْتُ: إنَّ شَريطتي الحَلالُ، قالَتْ: ارْجِعْ في حَرامِك، ومَن يُريدُك على حَرامٍ؟! فخَجِلْتُ وغَلَبَتْني نفْسي على رَأيي، فتَبِعْتُها، فدَخَلَت زُقاقَ العَطَّارينَ فصَعِدَتْ دَرَجةً وقالَتْ: اصْعَدْ، فصَعِدْتُ، فقالَتْ: أنا مَشْغولةٌ وزَوْجي رَجلٌ مِن بَني مَخْزومٍ، وأنا امْرأةٌ مِن زُهْرةٍ، ولكن عنْدي حِرٌ ضَيِّقٌ، عليه وَجْهٌ أحْسَنُ مِن العافيةِ، في مِثلِ خُلُقِ ابنِ سُرَيجٍ، وتَرنُّمِ مَعبِدٍ، وتيهِ ابنِ عائِشةَ!
أجْمَعُ لك هذا كلَّه في بَدَنٍ واحِدٍ بأشْقَرَ سَليمٍ، قُلْتُ: وما أشْقَرُ سَليمٌ؟ قالَتْ: بدينارٍ واحِدٍ يَوْمَك ولَيلتَك، فإذا قُمْتَ جَعَلْتُ الدِّينارَ وَظيفةً وتَزْويجًا صَحيحًا، قلْتُ: فذلك لكِ إن اجْتَمَعَ لي ما ذَكَرْتِ، قالَ: فصَفَّقَتْ بيَدِها إلى جاريتِها، فاسْتَجابَتْ لها، قالَتْ: قولي لفُلانةٍ: البَسي عليكِ ثِيابَكِ وعَجِّلي، وباللهِ لا تَمَسِّي غَمرًا ولا طيبًا، فحَسْبُكِ بدَلالكِ وعِطْرِكِ!
قالَ: فإذا جارِيةٌ أقْبَلَتْ ما أحْسَبُ أنَّ الشَّمْسَ وَقَعَتْ عليها، كأنَّها دُمْيةٌ، فسَلَّمَتْ وقَعَدَتْ كالخَجِلةِ.
فقالَتْ لها الأُولى: إنَّ هذا الَّذي ذَكَرْتُه لكِ، وهو في هذه الهَيْئةِ الَّتي تَرَينَ.
قالَتْ: حَيَّاه اللهُ وقَرَّبَ دارَه، قالَتْ: وقدْ بَذَلَ لكِ مِن الصَّداقِ دينارًا، فقالَتْ: أيْ أمَّ، أخْبَرْتِه بشَريطتي؟ قالَتْ: لا واللهِ يا بُنَيَّةُ، لقد نَسيتُها، ثُمَّ نَظَرَتْ إليَّ فغَمَزَتْني وقالَتْ: أتَدْري ما شَريطتُها؟ قلْتُ: لا، قالَتْ: أقولُ لك بحُضورِها ما إخالُها تَكرَهُه، هي واللهِ أفْتَكُ مِن عَمْرِو بنِ مَعْديكَرِب، وأشْجَعُ مِن رَبيعةَ بنِ مُكدَّمِ، ولسْتَ بواصِلٍ إليها حتَّى تَسكَرَ وتُغلَبَ على عَقْلِها، فإذا بَلَغَتْ تلك الحالُ ففيها مَطمَعٌ! قلْتُ: ما أهْوَنَ هذا وأسْهَلَه! قالَتِ الجارِيةُ: وتَركْتِ شيئًا آخَرَ! قالَتْ: نَعمْ واللهِ، اعْلَمْ أنَّك لن تَصِلَ إليها حتَّى تَتَجرَّدَ لها، وتَراك مُجرَّدًا مُقبِلًا ومُدبِرًا، قلْتُ: وهذا أيضًا أفَعَلُه، قالَتْ: هَلمَّ دِينارَك! فأخْرَجْتُ دينارًا فنَبَذْتُه إليها، فصَفَّقَتْ صَفقةً أخرى، فأجابَتْها امْرأةٌ، قالَتْ: قولي لأبي الحَسَنِ وأبي الحُسَينِ: هَلُمَّا السَّاعةَ! فقلْتُ في نفْسي: أبو الحَسَنِ وأبو الحُسَينِ؟ هو عليُّ بنُ أبي طالِبٍ!
قالَ: فإذا شَيْخانِ خاضِبانِ نَبيلانِ قد أقْبَلا، فصَعِدا، فقَصَّتِ المَرأةُ عليهما القِصَّةَ، فخَطَبَ أحَدُهما وأجابَ الآخَرُ، وأقْرَرْتُ بالتَّزْويجِ وأقَرَّتِ المَرأةُ، فدَعَوا بالبَرَكةِ ثُمَّ نَهَضا، فاسْتَحْييتُ أن أُحَمِّلَ المَرأةَ شيئًا مِن المَؤونةِ، فأخْرَجْتُ دينارًا آخَرَ فدَفَعْتُه إليها، وقلْتُ: اجْعَلي هذا لِطيبِكِ، قالَتْ: يا أخي، لسْتُ ممَّن يَمَسُّ طيبًا لرَجُلٍ، إنَّما أتَطيَّبُ لنفْسي إذا خَلَوْتُ، قلْتُ: فاجْعَلي هذا لغَدائِنا اليَوْمَ، قالَتْ: أمَّا هذا فنَعمْ.
فنَهَضَتِ الجاريةُ، وأمَرَتْ بإصْلاحِ ما يُحتاجُ إليه، ثُمَّ عادَتْ، وتَغَدَّيْنا، وجاءَتْ بأداةٍ وقَضيبٍ، وقعَدَتْ تِجاهي، ودَعَتْ بنَبيذٍ فأعَدَّتْه، وانْدَفَعَتْ تُغنِّي بصَوْتٍ لم أسْمَعْ مِثلَه قَطُّ، فإنِّي ألِفْتُ القَيْناتِ نَحْوًا مِن ثَلاثينَ سَنَةً، ما سَمِعْتُ مِثلَ تَرنُّمِها قَطُّ؛ فكِدْتُ أُجَنُّ سُرورًا وطَرَبًا، فجَعَلْتُ أريغُ أن تَدنوَ منِّي فتَأبى، إلى أن غَنَّتْ بشِعْرٍ لم أعْرِفْه، وهو:
راحوا يَصيدونَ الظِّباءَ وإنَّني
لأرى تَصيُّدَها عليَّ حَراما
أعْزِزْ عليَّ بأن أرَوِّعَ شِبْهَها
أو أن تَذوقَ على يَدَيَّ حِماما
فقلْتُ: جُعِلْتُ فِداكِ! مَن يُغنِّي هذا؟ قالَتْ: اشْتَرَكَ فيه جَماعةٌ، هو لمَعبَدٍ، وتَغنَّى به ابنُ سُرَيجٍ وابنُ عائِشةَ.
فلمَّا نُعِيَ إلينا النَّهارُ وجاءَتِ المَغرِبُ، تَغنَّتْ بصَوْتٍ لم أفْهَمْه؛ للشَّقاءِ الَّذي كُتِبَ عليَّ! فقالتْ:
كأنِّي بالمُجرَّدِ قد عَلَتْه
نِعالُ القَوْمِ أو خَشَبُ السَّواري
قلْتُ: جُعِلْتُ فِداكِ! ما أفْهَمُ هذا البَيْتَ ولا أحْسَبُه ممَّا يُتغَنَّى به! قالَتْ: أنا أوَّلُ مَن تَغنَّى به، قلْتُ: فإنَّما وهو بَيْتٌ عابِرٌ لا صاحِبَ له؟ قالَتْ: معَه آخَرُ ليس هذا وَقْتَه، هو آخِرُ ما أتَغنَّى به، قالَ: وجَعَلْتُ لا أنازِعُها في شيءٍ إجْلالًا لها، فلمَّا أمْسَيْنا وَصلَّيْنا المَغرِبَ وجاءَتِ العِشاءُ الأخيرةُ، وَضَعَتِ القَضيبَ، فقُمْتُ فصَلَّيْتُ العِشاءَ وما أدْري كم صَلَّيْتُ؛ عَجَلةً وشَوْقًا، فلمَّا صَلَّيْتُ قُلْتُ: تَأذَنينَ جُعِلْتُ فِداكِ في الدُّنُوِّ مِنك؟ قالَتْ: تَجَرَّدْ، وأشارَتْ إلى ثِيابِها كأنَّها تُريدُ أن تَتَجرَّدَ، فكِدْتُ أشُقُّ ثِيابي عَجَلةً للخُروجِ مِنها؛ فتَجَرَّدْتُ وقُمْتُ بَيْنَ يَدَيها مُكفِّرًا لها، قالَتْ: امْضِ إلى زاوِيةِ البَيْتِ وأقْبِلْ وأدْبِرْ، حتَّى أراك مُقبِلًا ومُدبِرًا.
قالَ: وإذا حَصيرٌ في الغُرفةِ، عليه طَريقٌ إلى زاويةِ البَيْتِ، فخَطَرْتُ عليه وإذا تحتَه خَرْقٌ إلى السُّوقِ، فإذا أنا في السُّوقِ قائِمًا مُجرَّدًا مُنعِظًا، وإذا الشَّيْخانِ الشَّاهِدانِ قد أعَدَّا لي نِعالَهما، وكَمَنا لي في ناحيةٍ، فلمَّا هَبَطْتُ عليهما بادَرا إليَّ فقَطَعا نِعالَهما على قَفاي، واسْتَعانا بأهْلِ السُّوقِ، فضُرِبْتُ -واللهِ- حتَّى نَسيتُ اسمي، فبينا أنا أُضْرَبُ بنِعالٍ مَخْصوفةٍ وأيْدٍ شَديدةٍ، إذا صَوْتٌ يُغنِّي به مَن فوقَ البَيْتِ، وهو:
ولو عَلِمَ المُجرَّدُ ما أرَدْنا
لحارَبَنا المُجرَّدُ بالصَّحاري
فقلْتُ في نفْسي: هذا واللهِ وَقْتُ هذا البَيْتِ! فنَجَوْتُ إلى رَحْلي وما فيَّ عَظْمٌ صَحيحٌ، فسألْتُ عنها فقيلَ لي: إنَّها امْرأةٌ مِن آلِ أبي لَهَبٍ! فقلْتُ: لَعَنَها اللهُ ولَعَنَ الَّذي هي مِنه! [804] ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (8/ 98). .
وقدْ أُغْرِمَ الأنْدَلُسيُّونَ بفُنونِ القِصَصِ والحِكاياتِ؛ ولِهذا امْتَلَأتِ المَساجِدُ بالقُصَّاصِ الَّذين يُكْثِرونَ مِن ذِكْرِ قِصَصِ الأنْبياءِ والصَّالِحينَ، وأخْبارِ النَّاجينَ والهالِكينَ في القُرآنِ الكَريمِ، وما أوْرَدَتْه السُّنَّةُ مِن تلك القِصَصِ، وما جاءَ عن بَني إسْرائيلَ مِن أخْبارِ الأنْبياءِ ومُعْجزاتِهم معَ أقْوامِهم، ولا رَيْبَ أنَّ القَصَصَ الأنْدَلُسيَّ قد تَأثَّرَ كَثيرًا بتلك الأقاصيصِ.
وكما تَأثَّرَتِ القِصَصُ المَشرِقيَّةُ بالمَقاماتِ وتَطوَّرَتْ عنها، فكذلك القِصَصُ الأنْدَلُسيَّةُ؛ فإنَّ بَوادِرَ القِصَصِ الَّتي أُلِّفَتْ في الأنْدَلُسِ كانت على غِرارِ المَقاماتِ؛ حيثُ أعْجِبَ ابنُ شُهيدٍ بالمَقاماتِ جدًّا، وسَعى جاهِدًا للسَّيْرِ على مِنْوالِها في الخَيالِ والسَّجْعِ، فجاءَتْ إحدى أبْرَعِ رَسائِلِه "التَّوابِعُ والزَّوابِعُ".
يَبدأُ ابنُ شُهَيدٍ القِصَّةَ مُعْتمِدًا على اعْتِقادِ النَّاسِ قَديمًا أنَّ للشُّعَراءِ قُرَناءَ مِن الجِنِّ يُلْهِمونَهم تلك الأشْعارَ ويَبثُّونَها فيهم، مِن غيْرِ أن يكونَ في الشَّاعِرِ أدْنى مَوْهبةٍ؛ اعْتِقادًا مِنهم أنَّ ذلك الشِّعْرَ لا يَسْتطيعُ قَوْلَه أبْلَغُ النَّاسِ، وقدْ سَعى الشُّعَراءُ أنْفُسُهم إلى تَوْكيدِ تلك المَزاعِمِ؛ ليَرْفَعوا قَدْرَهم عنْدَ النَّاسِ، وليَظُنَّ النَّاسُ أنَّهم أُوتوا ما لم يُؤْتَه بَشَرٌ.
يَذكُرُ ابنُ شُهيدٍ لصَديقِه أبي بَكْرٍ يَحْيى بنِ حَزْمٍ أنَّه أُرتِجَ عليه الشِّعْرُ يَوْمًا، فجاءَه أحَدُ الجِنِّ، فألْقى عليه الشِّعْرَ، ثُمَّ إنَّ ابنَ شُهيدٍ اسْتَخْبرَه عن نفْسِه، فقالَ له: أنا زُهَيْرُ بنُ نُمَيرٍ، مِن قَبيلةِ أشْجَعَ في الجِنِّ، وابنُ شُهيدٍ مِن قَبيلةِ أشْجَعَ الإنْسيَّةِ؛ فلِهذا كانَ ذلك الجِنِّيُ قَرينَه، ثُمَّ إنَّ الجِنِّيَّ عَلَّمَه بعضَ الأبْياتِ يَقولُها إذا أرادَ أن يَحضُرَ له، فكانَ إذا أُرْتِجَ على ابنِ شُهيدٍ يُنشِدُ تلك الأبْياتَ فيَحضُرُ الجِنِّيُّ ويُلهِمُه الأشْعارَ!
ولمَّا تَأكَّدَتِ الصَّداقةُ بيْنَهما طَلَبَ مِنه ابنُ شُهيدٍ أن يَذهَبَ به إلى قُرَناءِ الشُّعَراءِ والكُتَّابِ مِن الجِنِّ، فاسْتأذَنَ الجِنِّيُّ مِن شَيْخِ الجِن فأذِنَ له، فأخَذَه الجِنِّيُّ إلى وادي الجِنِّ، وطافَ به بَيْنَ قُرَناءِ الشُّعَراءِ والكُتَّابِ، في حِوارٍ شائِقٍ وأُسْلوبٍ أدَبيٍّ ماتِعٍ.
فمِنها قِصَّتُه معَ قَرينِ امْرِئِ القَيْسِ، يقولُ: (تَذاكَرْتُ يَوْمًا معَ زُهَيْرِ بنِ نُمَيرٍ أخْبارَ الخُطَباءِ والشُّعَراءِ، وما كانَ يَألَفُهم مِن تَوابِعَ وزَوابِعَ، وقلْتُ: هل حيلةٌ في لِقاءِ مَن اتَّفَقَ مِنهم؟ قالَ: حتَّى أسْتأذِنَ شَيْخَنا، وطارَ عنِّي ثُمَّ انْصَرَفَ كلَمْحٍ بالبَصَرِ، وقدْ أُذِنَ له، فقالَ: حُلَّ على مَتْنِ الجَوادِ، فصِرْنا عليه، وسارَ بنا كالطَّائِرِ يَجْتابُ الجَوَّ فالجَوَّ، ويَقطَعُ الدَّوَّ فالدَّوَّ، حتَّى الْتَمَحْتُ أرْضًا لا كأرَضِنا، وشارَفْتُ جَوًّا لا كجَوِّنا، مُتفرِّعَ الشَّجَرِ، عَطِرَ الزَّهَرِ، فقالَ لي: حَلَلْتَ أرْضَ الجِنِّ أبا عامِرٍ، فبمَن تُريدُ أن نَبدَأَ؟ قلْتُ: الخُطَباءُ أَولى بالتَّقْديمِ، لكنِّي إلى الشُّعَراءِ أشْوَقُ، قالَ: فمَن تُريدُ مِنهم؟ قلْتُ: صاحِبَ امْرِئِ القَيْسِ، فأوْمَأَ العِنانَ إلى وِادٍ مِن الأوْديةِ ذي دَوْحٍ، تَتَكسَّرُ أشْجارُه، وتَتَرنَّمُ أطْيارُه، فصاحَ: يا عُتَيبةُ بنَ نَوْفَل، بسِقْطِ اللِّوى فحَوْمَل، ويَوْمِ دارةِ جُلْجُل، إلَّا ما عَرَضْتَ علينا وَجْهَك، وأنْشَدْتَنا مِن شِعْرِك، وسَمِعْتَ مِن الإنْسيِّ، وعَرَّفْتنا كيف إجازَتُك له!
فظَهَرَ لنا فارِسٌ على فَرَسٍ شَقْراءَ كأنَّها تَلْتَهِبُ، فقالَ: حيَّاك اللهُ يا زُهَيْرُ، وحيَّا صاحِبَك، أهذا فتاهم؟ قلْتُ: هو هذا، وأيُّ جَمْرةٍ يا عُتَيبةُ! فقالَ لي: أنْشِدْ؛ فقلْتُ: السَّيِّدُ أَولى بالإنْشادِ، فتَطامَحَ طَرْفُه، واهْتَزَّ عِطْفُه، وقَبَضَ عِنانَ الشَّقْراءِ وضَرَبَها بالسَّوْطِ، فسَمَتْ تُحضِرُ طَولًا عنَّا، وكَرَّ فاسْتَقْبَلَنا بالصَّعْدةِ هازًّا لها، ثُمَّ رَكَزَها وجَعَلَ يُنشِدُ:
سَما لك شَوْقٌ بعْدَما كانَ أقْصَرا [805] صدر بيتٌ مِن الطَّويل، وهو مطلَعُ قَصيدةٍ لامرئِ القَيسِ يتمدَّحُ بها قيصَرَ ليساعِدَه على الأخْذِ بالثَّأرِ لأبيه. يُنظر: ((ديوان امرئ القيس)) (ص: 93).
حتَّى أكْمَلَها ثُمَّ قالَ: لي: أنْشِدْ؛ فهِمْتُ بالحَيْصةِ، ثُمَّ اشْتدَّتْ قُوى نفْسي وأنْشَدْتُ:
شَجَتْهُ مَغانٍ مِن سُلَيْمى وأدْؤُرُ ...
حتَّى انْتَهَيْتُ فيها إلى قَوْلي:
ومِن قُبَّةٍ لا يُدرِكُ الطَّرْفُ رأسَها
تَزِلُّ بها ريحُ الصَّبا فتَحدَّرُ
تَكلَّفْتُها واللَّيلُ قد جاشَ بَحْرُهُ
وقد جَعَلَتْ أمْواجُهُ تَتَكسَّرُ
ومِن تحتِ حضْني أبْيَضٌ ذو سَفاسِقٍ
وفي الكَفِّ مِن عَسَّالةِ الخَطِّ أسْمَرُ
هُما صاحِباي مِن لدُن كنْتُ يافِعًا
مُقيلانِ مِن جِدِّ الفَتى حينَ يَعْثُرُ
فذا جَدوَلٌ في الغِمْدِ تُسْقى به المُنى
وذا غُصُنٌ في الكَفِّ يُجْنى فيُثْمِرُ
فلمَّا انْتَهيْتُ تَأمَّلَني عُتيبةُ ثُمَّ قالَ: اذْهَبْ أجَزْتُك. وغابَ عنَّا [806] ((رسالة التوابع والزوابع)) لابن شهيد (ص: 87). .
ومِنها أيضًا لِقاؤُه بخاتِمةِ قُرَناءِ الشُّعَراءِ، صاحِبِ أبي الطَّيِّبِ المُتَنبِّي: (فقالَ لي زُهَيْرٌ: ومَنْ تُريدُ بَعْدُ؟ قلْتُ له: خاتِمةَ القَوْمِ صاحِبَ أبي الطَّيِّبِ، فقالَ: اشْدُدْ له حَيازيمَك، وعَطِّرْ له نَسِيمَك، وانْثُرْ عليه نُجومَك، وأمالَ عِنانَ الأدْهَمِ إلى طَريقٍ، فجَعَلَ يَركُضُ بنا، وزُهَيْرٌ يَتأمَّلُ آثارَ فَرَسٍ لَمَحْناها هناك؟ فقلْتُ له: ما تَتبُّعُك لِهذه الآثارِ؟ قالَ: هي آثارُ فَرَسِ حارِثةَ بنِ المُغلَّسِ صاحِبِ أبي الطَّيِّبِ، وقَصْدي هو صاحِبُ قَنْص، فلم يَزَلْ يَتَقرَّاها حتَّى دَفَعَنا إلى فارِسٍ على فَرَسٍ بَيْضاءَ كأنَّه قَضيبٌ على كَثيبٍ، وبيَدِه قَناةٌ قد أسْنَدَها إلى عُنُقِه، وعلى رأسِه عِمامةٌ حَمْراءُ قد أرْخى لها عَذَبةً صَفْراءَ. فحيَّاه زُهَيْرٌ، فأحْسَنَ الرَّدَّ ناظِرًا مِن مُقْلةٍ شَوْساءَ، قد مُلِئَتْ تِيهًا وعُجْبًا، فعَرَّفَه زُهَيْرٌ قَصْدي، وألْقى إليه رَغْبتي، فقال: بَلَغَني أنَّه يَتَناوَلُ، قلْتُ: للضَّرورةِ الدَّافِعة، وإلَّا فالقَريحةُ غيْرُ صادِعة، والشَّفْرةُ غيْرُ قاطِعة، قالَ: فأنْشِدْني، وأكْبَرْتُه أن أسْتَنْشِدَه، فأنْشَدْتُه قَصيدتي الَّتي أوَّلُها:
أَبَرْقٌ بَدا أمْ لَمْعُ أبْيَضَ قاصِلِ ...
حتَّى انْتَهَيْتُ إلى قَوْلي:
تَرَدَّدَ فيها البَرْقُ حتَّى حَسِبْتُهُ
يُشيرُ إلى نَجْمِ الرُّبا بالأنامِلِ
رُبًا نَسَجَتْ أيْدي الغَمامِ للُبْسِها
غَلائِلَ صُفْرًا فوقَ بِيضٍ غَلائِلِ
سَهِرْتُ بها أرْعى النُّجومَ وأنْجُمًا
طَوالِعَ للرَّاعينَ غيْرَ أوافِلِ
وقدْ فَغَرَتْ فاهًا بها كُلُّ زَهْرةٍ
إلى كلِّ ضَرعٍ للغَمامةِ حافِلِ
ومَرَّتْ جُيوشُ المُزْنِ رَهوًا كأنَّها
عَساكِرُ زَنْجٍ مَذْهَباتُ المَناصِلِ
فلمَّا انْتَهيْتُ قالَ: أنْشِدْني أشَدَّ مِن هذا، فأنْشَدْتُه قَصيدتي:
هاتيكَ دارُهمُ فقِفْ بمَعانِها ...
فلمَّا انْتَهيْتُ، قالَ لزُهَيْرٍ: إن امْتَدَّ به طَلقُ العُمُرِ، فلا بُدَّ أن يَنفُثَ بدُرَر، وما أُراه إلا سيُحتضَر، بَيْنَ قريحةٍ كالجَمْر، وهِمَّةٍ تَضَعُ أخْمُصَه على مَفرِقِ البَدْر، فقلْتُ: هلَّا وَضَعْتَه على صَلْعةِ النَّسْرِ؟ فاسْتَضْحَكَ إليَّ وقالَ: اذْهَبْ فقدْ أجَزْتُك بهذه النُّكْتةِ، فقبَّلْتُ على رأسِه وانْصَرَفْنا [807] ((رسالة التوابع والزوابع)) لابن شهيد (ص: 107). .
ومِنها خَبَرُه معَ صاحِبَيِ الجاحِظِ وعبْدِ الحَميدِ الكاتِبِ: (فقالَ لي زُهَيْرٌ: مَن تُريدُ بَعْدَه؟ فقلْتُ: مِلْ بي إلى الخُطَباءِ؛ فقدْ قَضَيْتُ وَطَرًا مِن الشُّعَراءِ، فرَكَضْنا حينًا طاعِنينَ في مَطلَعِ الشَّمْسِ، ولَقينا فارِسًا أسَرَّ إلى زُهَيْرٍ، وانْجَزَعَ عنَّا، فقالَ لي زُهَيْرٌ: جُمِعَتْ لك خُطَباءُ الجِنِّ بمَرْجِ دُهْمان، وبَيْنَنا وبَيْنَهم فَرْسخان، فقدْ كُفِيتَ العَناءَ إليهم على انْفِرادِهم، قلْتُ: لمَ ذاك؟ قالَ: للفَرْقِ بَيْنَ كَلامَينِ اخْتَلَفَ فيه فِتْيانُ الجِنِّ.
وانْتَهَيْنا إلى المَرْجِ فإذا بِنادٍ عَظيمٍ، قد جَمَعَ كلَّ زَعيمٍ، فصاحَ زُهَيْرٌ: السَّلام على فُرْسانِ الكَلام، فرَدُّوا وأشاروا بالنُّزولِ، فأفْرَجوا حتَّى صِرْنا مَركَزَ هالةِ مَجلِسِهم، والكلُّ مِنهم ناظِرٌ إلى شَيخٍ أصْلَعَ، جاحِظِ العَيْنِ اليُمْنى، على رأسِه قَلَنْسُوةٌ بَيْضاءُ طويلةٌ، فقلْتُ سِرًّا لزُهَيْرٍ: مَن ذلك؟ قالَ: عُتْبةُ بنُ أرْقَمَ صاحِبُ الجاحِظِ، وكُنْيتُه أبو عُيَينةَ، قلْتُ: بأبي هو! ليس رَغبتي سِواه، وغيْرَ صاحِبِ عبْدِ الحَميدِ، فقالَ لي: إنَّه ذلك الشَّيخُ الَّذي إلى جَنْبِه، وعَرَّفَه صَغْوي إليه وقَوْلي فيه، فاسْتَدْناني وأخَذَ في الكَلامِ معي، فصَمَتَ أهْلُ المَجلِسِ، فقالَ: إنَّك لخَطيبٌ، وحائِكٌ للكَلامِ مُجيدٌ، لولا أنَّك مُغْرًى بالسَّجْعِ، فكَلامُك نَظْمٌ لا نَثْرٌ.
فقلْتُ في نفْسي: قَرَعَك -باللهِ- بقارِعتِه، وجاءَك بمُماثَلتِه، ثُمَّ قلْتُ له: ليس هذا -أعزَّك اللهُ- منِّي جَهْلًا بأمْرِ السَّجْعِ، وما في المُماثَلةِ والمُقابَلةِ مِن فَضْلٍ، ولكنِّي عَدِمْتُ ببَلَدي فُرْسانَ الكَلامِ، ودُهيْتُ بغَباوةِ أهْلِ الزَّمانِ، وبالحَرا أن أحَرِّكَهم بالازْدِواجِ، ولو فَرَشْتُ للكَلامِ فيهم طَوْلقًا، وتَحَرَّكْتُ لهم حَرَكةَ مَشُولِم، لكانَ أرْفَعَ لي عنْدَهم، وأوْلَجَ في نُفوسِهم!
فقالَ: أهذا على تلك المَناظِر، وكُبْرِ تلك المَحابِر، وكمالِ تلك الطَّيالسِ؟ قلْتُ: نَعمْ، إنَّها لِحاءُ الشَّجَرِ، وليس ثَمَّ ثَمَرٌ ولا عَبَق. قالَ لي: صَدَقْتَ، إنِّي أراك قد ماثَلْتَ معي، قلْتُ: كما سَمِعْتَ، قالَ: فكيف كَلامُهم بيْنَهم؟ قلْتُ: ليس لسيبَوَيْهِ فيه عَمَلٌ، ولا للفَراهيديِّ إليه طَريقٌ، ولا للبَيانِ عليه سِمةٌ، إنَّما هي لُكْنةٌ أعْجميَّةٌ يُؤدُّون بها المَعانيَ تَأديةَ المَجوسِ والنَّبَطِ، فصاحَ: إنَّا للهِ، ذَهَبَتِ العَربُ وكَلامُها! ارْمِهم يا هذا بسَجْعِ الكُهَّانِ، فعَسى أن يَنفَعَك عنْدَهم، ويُطيرَ لك ذِكْرًا فيهم، وما أُراك -معَ ذلك- إلَّا ثَقيلَ الوَطأةِ عليهم، كَريْهَ المَجيءِ إليهم.
فقالَ الشَّيْخُ الَّذي إلى جانِبِه، وقد عَلِمْتُ أنَّه صاحِبُ عبْدِ الحَميدِ، ونَفْسي مُرتَقِبةٌ إلى ما يكونُ مِنه: لا يَغُرَّنَّك مِنه أبا عُيَينةَ ما تَكلَّفَ لك مِن المُماثَلةِ؛ إنَّ السَّجْعَ لطَبْعُه، وإنَّ ما أسْمَعَك كُلْفةٌ، ولو امْتَدَّ به طَلَقُ الكَلامِ، وجَرَتْ أفْراسُه في مَيْدانِ البَيانِ، لَصلَّى كَودَنُه وكَلَّ بُرثُنُه، وما أراه إلَّا مِن اللَّكْنِ الَّذين ذَكَر، وإلَّا فما للفَصاحةِ لا تَهدِر، ولا للأعْرابيَّةِ لا تومِض؟ فقلْتُ في نَفْسي: طَبْعُ عبْدِ الحَميدِ ومَساقُه، ورَبِّ الكَعْبةِ! فقلْتُ له: لقدْ عَجِلْتَ أبا هُبَيْرةَ -وقدْ كانَ زُهَيْرٌ عَرَّفَني بكُنْيتِه- إنَّ قَوْسَك لنَبْعٌ، وإنَّ سَهْمَك لسُمٌّ، أحِمارًا رَمَيْتَ أمْ إنْسانًا، وقَعْقَعةً طَلَبْتَ أم بَيانًا؟! وأبيك، إنَّ البَيانَ لصَعْبٌ، وإنَّك مِنه لفي عَباءةٍ تَتَكَشَّفُ عنها أسْتاهُ مَعانيك تَكشُّفَ اسْتِ العَنْزِ عن ذَنَبِها!
الزَّمانُ دِفءٌ لا قَرٌّ، والكَلامُ عِراقيٌّ لا شاميٌّ، إنِّي لأَرَى مِن دَمِ اليَرْبوعِ بكَفَّيك، وألْمَحُ مِن كُشى الضَّبِّ على ماضِغَيك، فتَبسَّمَ إليَّ وقالَ: أهكذا أنت يا أُطَيلِسُ، تَركَبُ لكلٍّ نَهْجَه، وتَعِجُّ إليه عَجَّه؟! فقلْتُ: الذِّئْبُ أطْلَسُ، وإنَّ التَّيْسَ ما عَلِمْتَ! فصاحَ به أبو عُيَينةَ: لا تَعرِضْ له، وبالحَرا أن تَخْلُصَ مِنه، فقلْتُ: الحَمْدُ للهِ خالِقِ الأنامِ في بُطونِ الأنْعامِ! فقالَ: إنَّها كافِيةٌ لو كانَ له حِجْرٌ، فبَسَطاني وسألاني أن أقْرَأَ عليهما مِن رَسائِلي، فقَرَأْتُ رِسالَتي في صِفةِ البَرْدِ والنَّارِ والحَطَبِ، فاسْتَحْسَناها [808] ((رسالة التوابع والزوابع)) لابن شهيد (ص: 111). .
وهذه الرِّسالةُ وإن كانَتْ في الأصْلِ رسالةً بَيانيَّةً أدَبيَّةً، تُبيِّنُ مَدى قُدْرةِ ابنِ شُهيدٍ في الأدَبِ شِعْرًا ونَثْرًا، وإحاطتَه وعِلمَه بمَذاهِبِ الشُّعَراءِ والكُتَّابِ، وكيف عارَضَ عُيونَ قَصائِدِ الشُّعَراءِ الكِبارِ، وسارَ على دَرْبِ الكُتَّابِ، فحَدَّثَ كلَّ واحِدٍ بأُسْلوبِه وطَريقتِه، إلَّا أنَّها بما حَوَتْ مِن عَناصِرِ الخَيالِ والوَصْفِ والحِوارِ جاءَت على خَيْرِ مِثالٍ للعَمَلِ القَصَصيِّ النَّاجِحِ.
وتُعْتَبرُ قِصَّةُ أبي بَكْرِ مُحمَّدِ بنِ عبْدِ المَلِكِ بنِ طُفَيلٍ القَيْسيِّ "حيُّ بنُ يَقْظانَ" غايةَ ما وَصَلَ إليه الأنْدَلُسيُّونَ في فَنِّ القِصَّةِ، وهي أفْضَلُ ما كُتِبَ مِن القِصَصَ في العُصورِ الوُسْطى، ليس فقط في الأنْدَلُسِ أو العالَمِ الإسلاميِّ، وإنَّما في العالَمِ كلِّه.
وابنُ طُفَيلٍ كاتِبٌ فَيْلسوفٌ، تِلْميذُ ابنِ سينا فَيْلسوفِ الشَّرْقِ، والقِصَّةُ هذه أقْرَبُ إلى القِصَصِ الفِكْريَّةِ مِنها إلى الأدَبيَّةِ، وتَنبُعُ أهَمِّيَّتُها مِن هَدَفِها السَّامي، وهو مُحاوَلةُ الوُصولِ إلى الخالِقِ والإيمانِ به.
وفي التُّراثِ العَربيِّ يوجَدُ أكْثَرُ مِن قِصَّةٍ تَحمِلُ اسمَ "حيُّ بنُ يَقْظانَ"، أوَّلُها لابنِ سينا الفَيْلسوفِ، ثُمَّ أعادَ شِهابُ الدِّينِ السَّهْرَوَرْديُّ صِياغتَها، ثُمَّ صاغَها مِن جَديدٍ الفَيْلسوفُ الأنْدَلُسيُّ ابنُ طُفَيلٍ، ومِن بعْدِه أعادَ ابنُ النَّفيسِ كِتابتَها، غيْرَ أنَّ أشْهَرَ مُؤلِّفٍ مِن هؤلاء هو ابنُ طُفَيلٍ.
وقدِ اشْتَهرَتْ تلك القِصَّةُ في الأدَبِ العالَميِّ، حتَّى إنَّ قِصَصًا غَربيَّةً مِثلُ: "طَرَزان" و"روبنسون كروزو"، قد جاءَت مُتأثِّرةً بها، تَسيرُ على مِنْوالِها. وتَقومُ قِصَّةُ "حيُّ بنُ يَقْظانَ" على أنَّ طِفلًا وُلِدَ في جَزيرةٍ نائِيةٍ مِن غيْرِ أبٍ ولا أُمٍّ -وفي بعضِ الرِّواياتِ: ألْقَتْه أمُّه في اليَمِّ؛ خَوْفًا مِن غَضَبِ أخيها؛ لأنَّها تَزَوَّجَتْ بدونِ عِلمِه، فألْقاهُ اليَمُّ في الجَزيرةِ- فصادَفَ ذلك أنَّ ظَبيةً كانت تَبْحثُ عن وَلَدِها الضَّائِعِ، فسَمِعَتْ أنينَ الطِّفْلِ فأخَذَتْه وألْقَمَتْه ثَدْيَها، واحْتَضَنَتْه ورَبَّته كما تُربِّي أوْلادَها، ونَشَأَ "حَيٌّ" في تلك الغابةِ واكْتَسَبَ مِن أمِّه طَريقةَ المَشْيِ والعَيْشِ.
غيْرَ أنَّه يَتَرقَّى في المَعارِفِ شيئًا فشيئًا، فيَرى سَوأَتَه ظاهِرةً فيَستَتِرُ بأوْراقِ الأشْجارِ، ثُمَّ يَبْتَكِرُ الصَّيْدَ ليَأكُلَ اللُّحومَ بَدَلًا مِن الاعْتِمادِ على الخَضْرواتِ فحَسْبُ، ثُمَّ يَصنَعُ ثِيابًا لنَفْسِه مِن جُلودِ النُّسورِ الَّتي يَصْطادُها، ثُمَّ تَكْتَمِلُ مَعارِفُه شيئًا فشيئًا حتَّى يَصِلَ إلى تَشْريحِ جَسَدِ أمِّه الظَّبْيةِ حينَ ماتَتْ ليَكتَشِفَ سَبَبَ مَوْتِها، وذلك بعْدَما أَلِفَ اسْتِخدامَ حَواسِّه ومُدْركاتِه العَقْليَّةِ.
ثُمَّ يَصِلُ بعْدَ ذلك إلى مَعْرفةِ الخالِقِ، وأنَّه لا بُدَّ لِهذا الكَوْنِ مِن مُدَبِّرٍ، واكْتَشَفَ أنَّ النَّفْسَ مُنْفصِلةٌ عنِ الجَسَدِ، وأنَّ بداخِلِه مَحبَّةً وشَوْقًا إلى الخالِقِ واجِبِ الوُجودِ.
والقِصَّةُ قد نَسَجَها ابنُ طُفَيلٍ تَعْبيرًا عن مَبادِئِه وآرائِه الفَلْسفيَّةِ، يَجمَعُ فيها بَيْنَ الشَّريعةِ والفَلْسفةِ، وأنَّه لا تَعارُضَ بيْنَهما، ويُصوِّرُ حَياةَ الإنْسانِ ونُضْجَ فِكْرِه عبْرَ المَراحِلِ، ويُؤكِّدُ على فِكْرتِه أنَّ الإنْسانَ يَسْتطيعُ عبْرَ عَقْلِه أن يَصِلَ إلى قَوانينِ الكَوْنِ وحَقائِقِ الوُجودِ بالفِطْرةِ والتَّأمُّلِ. وقدْ ذَكَرَ في قِصَّتِه تلك أنَّ حَيًّا انْتَقلَ إلى جَزيرةٍ أخرى، فوَجَدَ فيها شابَّينِ: سلامان وأبسال، سلامانُ يُعلِّمُ النَّاسَ أمورَ الدِّينِ ويَضرِبُ لهم الأمْثالَ، وأبسالُ فيه نَزْعةٌ صوفيَّةٌ يَحرِصُ على التَّأمُّلِ والتَّفكُّرِ، فذَكَرَ حَيٌّ لأبسالَ أنَّ ما عليه سلامانُ وأبسالُ وَجْهانِ لعُمْلةٍ واحِدةٍ؛ فالدِّينُ واحِدٌ، والخالِقُ واحِدٌ، وإنَّما يَحْتاجُ العامَّةُ إلى أُسلوبِ سلامانَ لأنَّهم لا قُدْرةَ لهم على التَّأمُّلِ؛ ولِهذا يَأخُذُ حَيٌّ أبسالَ ويَنْطلِقُ به إلى الجَزيرةِ الأُولى ليَتَعبَّدا معًا وَحْدَهما.
وقدْ تُرْجِمَتْ تلك القِصَّةُ إلى اللَّاتينيَّةِ واللُّغاتِ الأوْروبيَّةِ الحَديثةِ، وشاعَ ذِكْرُها في الآفاقِ، مُرْتَبطةً بالكاتِبِ الفَيْلسوفِ أبي بَكْرِ بنِ طُفَيلٍ القَيْسيِّ [809] يُنظر: ((أشكال الخطاب النثري في الأندلس)) لحسين هنداوي (ص: 109). .

انظر أيضا: