موسوعة اللغة العربية

المَطْلَبُ الثَّاني: المَدْحُ


لمَّا كانَ المَدْحُ هو الثَّناءَ وذِكْرَ المَحاسِنِ الَّتي يَتَّصِفُ بها الإنْسانُ، كانَ النَّاسُ يَعْتَزُّونَ بِهذا الإطْراءِ، ويَرَونَه تَسْجيلًا لمآثِرِهم وديوانًا لمَفاخِرِهم، وقدْ كانَ المَدْحُ صادِقًا حتَّى دَخَلَه تَكَسُّبُ الشُّعَراءِ، فتَحَوَّلَ مِن المَدْحِ الصَّادِقِ إلى النِّفاقِ الصُّراحِ في كَثيرٍ مِن الأوْقاتِ للحُصولِ على المالِ والعَطاءِ.
وقد حافَظَتِ المَدائِحُ الأنْدَلُسيَّةُ على الأُسْلوبِ القَديمِ نَوْعًا ما، فكانَ الشُّعَراءُ يُعْنَونَ بالاسْتِهلالِ وحُسْنِ التَّخَلُّصِ، ورُبَّما قَلَّدوا المَشارِقةَ فاسْتَهلُّوا قَصائِدَهم بذِكْرِ الخَمْرِ، أو بوَصْفِ الطَّبيعةِ أو المَرْأةِ، وبعضُهم وَصَفَ الفَلَواتِ والنِّياقَ ووَقَفَ على الدِّيارِ وبَكى الأطْلالَ، لكنَّهم وَقَفوا على تلك المُقدِّماتِ وَقفةً عابِرةً فلم يُسْهِبوا فيها كما فَعَلَ المَشارِقةُ، ولم يُضَمِّنوها الألْفاظَ الغَريبةَ، ولا الأساليبَ المُعَقَّدةَ [706] ينظر: ((في الادب الأندلسي)) لجودة الركابي (ص: 114). .
وقدْ تَفنَّنَ الشُّعَراءُ في الأنْدَلُسِ في المَديحِ، وقدْ كانَ للأُمَوِيِّينَ حُظْوةٌ كُبْرى عنْدَ أهْلِ الأنْدَلُسِ، يَمدَحُهم الشُّعَراءُ ويُناصِبونَ العَداءَ لمَن خالَفَهم، وقدْ قالَ أحَدُ وُلاتِهم -وهو عُبَيْدُ اللهِ بنُ أحْمَدَ بنِ يَعْلى بنِ وَهْبٍ- شِعْرًا في مَدْحِهم:
تَرى الأرْضَ فينا لا يَقَرُّ قَرارُها
إذا لم يَسُسْها مِن أُمَيَّةَ سائِسُ
ذَوو الهَضَباتِ الشُّمِّ والأبْحُرِ الَّتي
تَفيضُ مِلاءً والمُلوكُ الأشاوِسُ
همُ ذَهَبوا بالمَكْرُماتِ ولم يَزَلْ
لهم جَبَلُ العِزِّ القَديمُ القَوامِسُ
وهم نَزَلوا مِن خِنْدِفٍ حيثُ تَلْتَقي
رُؤوسُ قُصَيٍّ في الذُّرى والمَعاطِسُ
إذا سُوجِلوا لم يَحْتَمِلْهم مُساجِلٌ
وإن قُويِسوا لم يَسْتَطِعْهم مُقايِسُ
تطيفُ بهم ساحاتُ مَكَّةَ في العُلا
وتَكنُفُهم مِنها البِطاحُ الأمالِسُ [707] يُنظر: ((الحلة السيراء)) لابن الأبار (1/ 256).
ومِن المَديحِ أيضًا مَدْحُ ابنِ دَرَّاجٍ القَسْطَليِّ للحاجِبِ المَنْصورِ بنِ أبي عامِرٍ، وقد كَثُرَتْ مَدائِحُ الشُّعَراءِ فيه؛ لأنَّه كانَ بَطَلًا شُجاعًا سَخيًّا كَريمًا، على اسْتِبدادٍ فيه، يقولُ ابنُ دَرَّاجٍ:
ما كُفْرُ نُعْماك مِن شأني فيَثْنيني
عمَّن تَوالى لنَصْرِ المَلْكِ والدِّينِ
ولا ثَنائي وشُكْري بالوَفاءِ بما
أوْلَيْتَني دونَ بَذْلِ النَّفْسِ يَكْفيني
حَقٌّ على النَّفْسِ أن تَبْلى ولو فَنِيَتْ
في شُكْرِ أيْسَرِ ما أضْحَيْتَ تُوليني
ها إنَّها نِعْمةٌ ما زالَ كَوْكَبُها
إليك في ظُلُماتِ الخَطْبِ يَهْديني [708] يُنظر: ((يتيمة الدهر)) لأبي منصور الثعالبي (2/119)، ((تاريخ الأدب الأندلسي (عصر سيادة قرطبة))) لإحسان عباس (ص: 193).
ومِنه أيضًا مَدْحُ الشَّاعِرِ عليِّ بنِ حَزْمونَ للمَنْصورِ يَعْقوبَ لمَّا انْتَصَرَ على ألفونسَ مَلِكِ قَشْتالةَ:
حَيَّتْك ‌مُعَطَّرةَ ‌النَّفَسِ
نَفَحاتُ الفَتْحِ بأنْدَلُسِ
فذَرِ الكُفَّارَ ومَأتَمَهمْ
إنَّ الإسْلامَ لَفي عُرُسِ
أإمامَ الحَقِّ وناصِرَه
طَهَّرْتَ الأرْضَ مِن الدَّنَسِ
ومَلأتَ قُلوبَ النَّاسِ هُدًى
فدَنا التَّوْفيقُ لمُلْتَمِسِ
ورَفَعْتَ مَنارَ الدِّينِ على
عَمَدٍ شُمٍّ وعلى أُسُسِ
وصَدَعْتَ رِداءَ الكُفْرِ كما
صَدَعَ الدَّيْجورَ سَنَا قَبَسِ [709] ينظر: ((المعجب في تلخيص أخبار المغرب)) لعبد الواحد المراقشي (ص:214).
وقَولُ ابنِ القَزَّازِ يَمْدحُ المُعْتَمِدَ بنَ عَبَّادٍ:
ثَناؤُك ‌ليس ‌تَسْبِقُه الرِّياحُ
يَطيرُ ومِن نَداك له جَناحُ
لقدْ حَسُنَتْ بك الدُّنْيا وشَبَّتْ
فغَنَّتْ وهْي ناعِمةٌ رَداحُ
ثَناؤُك في طَلاها حَلْيُ دُرٍّ
وفي أعْطافِها مِنهُ وِشاحُ
تَطيبُ بذِكْرِك الأفْواهُ حتَّى
كأنَّ رُضابَها مِسْكٌ وراحُ [710] ينظر: ((الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة)) لأبي الحسن الشنتريني (2/802)
على أنَّ أشْعارَ هؤلاء المَدَّاحينَ كانَت في أغْلَبِها نِفاقًا خالِصًا؛ إذ كانَ الشُّعَراءُ يَمدَحونَ الوُلاةَ الصَّاغرينَ، الَّذين يَدفَعونَ الجِزْيةَ للعَدُوِّ للحِفاظِ على كُرْسيِّهم، في حادِثةٍ لم تَحدُثْ أبَدًا في تاريخِ الإسْلامِ!

انظر أيضا: