موسوعة اللغة العربية

المَطْلَبُ الأوَّلُ: الغَزَلُ


هذا الغَرَضُ ضَرَبَ فيه الشُّعَراءُ بسَهْمٍ وافِرٍ؛ فلقد كانَ الغَزَلُ يَسيلُ على ألْسِنةِ الشُّعَراءِ الأنْدَلُسيِّينَ سَيَلانًا، وقد عَرَفَتِ الأنْدَلُسُ شِعْرَ الغَزَلِ بنَوْعَيه؛ العُذْريِّ العَفيفِ، والحِسِّيِّ الفاحِشِ، كما أنَّها عَرَفَتِ التَّغزُّلَ بالمُذكَّرِ معَ سُقوطِ الدَّوْلةِ الأُمَوِيَّةِ في الأنْدَلُسِ وبدايةِ عُصورِ الطَّوائِفِ ونَحْوِها.
وقد ألْهَبَتِ الطَّبيعةُ الخَلَّابةُ مَشاعِرَ الشُّعَراءِ، وأذْكَتْ عَواطِفَهم، وأرَقَّتْ ألْفاظَهم وأساليبَهم؛ لِما للطَّبيعةِ مِن أثَرٍ في تَرقيقِ طِباعِهم واسْتِثارةِ دَواخِلِ قُلوبِهم؛ فإنَّ الأنْدَلُسَ كانَتْ أجْمَلَ بِلادِ اللهِ مَنْظَرًا، وأحْلاها رَوْنَقًا، وأبْدَعَها صُنْعًا، فكانَتِ الطَّبيعةُ بما فيها مِن مَظاهِرِ الجَمالِ تُلهِمُ الشُّعَراءَ.
ومِن عَوامِلِ إكْثارِهم مِن الغَزَلِ أيضًا فَراغُ خَواطِرِ النَّاسِ مِن مَشاغِلِ الحَياةِ، ومِمَّا يُكدِّرُ صَفْوَ الذِّهْنِ ويَجلِبُ الهَمَّ والغَمَّ؛ فجاءَ شِعْرُهم في الغَزَلِ صادِقًا يَشِفُّ عن عاطِفةٍ قَويَّةٍ، مُدَبَّجًا بحُسْنِ الصُّورةِ واللَّفْظِ والأسْلوبِ؛ فخَلَّفوا وَراءَهم سَيْلًا مِن الأشْعارِ الغَزَليَّةِ الَّتي صَوَّرَتْ مَشاعِرَهم تِجاهَ مَحْبوباتِهم، وكانَ شِعْرُ الَّذين لم يَتَكسَّبوا بالشِّعْرِ أو يَمْتَهِنوه أرْوَعَ وأصْدَقَ عاطِفةً [699] ينظر: ((تاريخ الأدب العربي)) لشوقي ضيف (8/256). .
وقد تَنَوَّعَتْ طُرُقُ الغَزَلِ الأنْدَلُسيِّ، واتَّخَذَ أكْثَرَ مِن مَسلَكٍ، فجاءَتْ على النَّحْوِ الآتي:
أ- الغَزَلُ الحِسِّيُّ:
وهو الَّذي يُعبِّرُ فيه الشَّاعِرُ عن أحاسيسِه الماديَّةِ، ومَشاعِرِه الغَريزيَّةِ، بدافِعِ اللَّهْوِ والعَبَثِ.
وقدِ انْتَشَرَ الغَزَلُ الحِسِّيُّ في الأنْدَلُسِ بفَضْلِ ما كانَ فيها مِن الجَواري والقِيَانِ، وقد كانَتِ الجارِيةُ في الأنْدَلُسِ تُحسِنُ مِن الخَطِّ ونَظْمِ الشِّعْرِ والرَّقْصِ والغِناءِ ما لا تَعرِفُه الحُرَّةُ في المَشرِقِ، كما أنَّ بِلادَ الأنْدَلُسِ لم تكنْ تَعرِفُ احْتِجابَ النِّساءِ عنِ الرِّجالِ، بلْ كانَتِ المَرأةُ بارِزةً يَراها الرَّجُلُ ويُحدِّثُها ويُكلِّمُها مِن غَيْرِ ريبةٍ أو نَكيرٍ!
ومِن أمْثِلةِ ذلك قَوْلُ ‌‌أبي بَكْرٍ يَحْيى بنِ بَقِيٍّ القُرْطُبيِّ الأنْدَلُسيِّ:
بأبي ‌غَزالٌ ‌غازَلَتْهُ مُقْلَتي
بَيْنَ العُذيبِ وبَيْنَ شَطَّيْ بارِقِ
وسألْتُ مِنه زِيارةً تَشْفي الجَوى
فأجابَني مِنها بوَعْدٍ صادِقِ
بِتْنا ونحن مِن الدُّجى في لُجَّةٍ
ومِن النُّجومِ الزُّهْرِ تحت سُرادِقِ
عاطَيْتُهُ واللَّيلُ يَسحَبُ ذَيْلَهُ
صَهْباءَ كالمِسْكِ الفَتيقِ لناشِقِ
وضَمَمْتُه ضَمَّ الكَمِيِّ لسَيْفِهِ
وذُؤابَتاهُ حَمائِلٌ في عاتِقي
حتَّى إذا أخَذَتْ بهِ سِنةُ الكَرى
زَحْزَحْتُه عنِّي وكانَ مُعانِقي
أبْعَدْتُه عن أضْلُعٍ تَشْتاقُهُ
كَيْ لا يَنامَ على فِراشٍ خافِقِ
لمَّا رأيْتُ اللَّيلَ آخِرَ عَهْدِهِ
قد شابَ في لمَمٍ لهُ ومَفارِقِ
ودَّعْتُ مَن أهْوى وقُلْتُ تَأسُّفًا
أعْزِزْ عليَّ بأنْ أراك مُفارِقي [700] ينظر: ((خريدة القصر وجريدة العَصْر)) للعماد الأصفهاني (ص:236).
ومِنه قَوْلُ أبي عامِرِ بنِ شُهَيدٍ، شاعِرِ قُرْطُبةَ وصاحِبِ المُغامَراتِ العاطِفيَّةِ الَّتي تُشبِهُ مُغامَراتِ امْرِئِ القَيْسِ:
ولمَّا تَمَلَّأَ مِن سُكْرِهِ
فنامَ ونامَتْ عُيونُ العَسَسْ
دَنَوْتُ إليهِ على بُعْدِهِ
دُنُوَّ رَفيقٍ دَنا ما الْتَمَسْ
أدِبُّ إليهِ دَبيبَ الكَرى
وأسْمو إليه سُمُوَّ النَّفَسْ
أُقَبِّلُ مِنهُ بَياضَ الطِّلى
وأرْشُفُ مِنه سَوادَ العَلَسْ
وبِتُّ بهِ لَيْلَتي ناعِمًا
إلى أنْ تَبَسَّمَ ثَغْرُ الغَلَسْ [701] ((ديوان ابن شهيد الأندلسي)) (ص: 121).
ب- الغَزَلُ العُذْرِيُّ:
ويَظهَرُ في هذا الشِّعْرِ طُهْرُ المُحِبِّ، ونَقاءُ قَلْبِه، وصَفاءُ رُوحِه، وتَقْديسُه لمَحْبوبتِه، فلا يَنظُرُ إليها نَظْرةَ شَهْوةٍ، بلْ نَظْرةَ عاشِقٍ أنْهَكَه الحُبُّ وأهْلَكَه الهَوى، فلا يتَناوَلُ صِفاتِ المَحْبوبةِ الحِسِّيَّةَ، وإنَّما يَصِفُ شِدَّةَ شَوْقِه، ولَهيبَ وَجْدِه، وعَذاباتِ قَلْبِه، ولا يَصِفُ مِن مَحْبوبتِه إلَّا صِفاتِها المَعْنويَّةَ.
ومِن ذلك قَوْلُ صَفْوانَ بنِ إدْريسَ:
يا حُسْنَهُ والحُسْنُ بعضُ صِفاتِهِ
والسِّحْرُ مَقْصورٌ على حَرَكاتِهِ
بَدْرٌ لوَ انَّ البَدْرَ قيلَ له: اقْتَرِحْ
أمَلًا لقالَ أكونُ مِن هالاتِهِ
صاحَبْتُه واللَّيلُ يُذْكي تحتَهُ
نارَينِ مِن نَفَسي ومِن وَجَناتِهِ
وضَمَمْتُه ضَمَّ البَخيلِ لمالِهِ
أحْنو عليهِ مِن جَميعِ جِهاتِهِ
‌أوْثَقْتُهُ في ‌ساعِديَّ ‌كأنَّهُ
ظَبْيٌ أخافُ عليه مِن فَلَتاتِهِ
وأبى عَفافي أن أُقَبِّلَ ثَغْرَهُ
والقَلْبُ مَطْويٌّ على جَمَراتِهِ
فاعْجَبْ لمُلتَهِبِ الجَوانِحِ غُلَّةً
يَشْكو الظَّما والماءُ في لَهَواتِهِ [702] ينظر((المغرب في حلى المغرب)) لعلي ابن موسى المغربي (2/261).
وقدْ شارَكَ الخُلَفاءُ والأُمَراءُ في هذا النَّوْعِ مِن الغَزَلِ؛ فهذا الخَليفةُ عبْدُ الرَّحْمنِ الأوْسَطُ كانَتْ له جارِيةٌ يُحِبُّها حُبًّا جَمًّا، واسمُها "طَروبُ"، وقدْ أكْثَرَ التَّغزُّلَ بها، حتَّى إنَّه في بعضِ غَزَواتِه في بِلادِ جِلِّيقِيَّةَ أنْشَأَ يقولُ:
فَقَدْتُ الهَوى مُذْ فَقَدْتُ الحَبيبا
فما أقْطَعُ اللَّيلَ إلَّا نَحيبا
وإمَّا بَدَتْ ليَ شَمْسُ النَّها
رِ طالِعةً ذَكَّرَتْني طَروبا
فيا طولَ شَوْقي إلى وَجْهِها
ويا كَبِدًا أوْرَثَتْها نُدوبا
ويا أحْسَنَ الخَلْقِ في مُقْلَتي
وأوْفَرَهم في فُؤادي نَصيبا
لئِنْ حالَ دونَك بُعْدُ المَزا
رِ مِن بَعْدِ أن كنْتِ منِّي قَريبا
لقد أوْرَثَ الشَّوْقُ جِسْمي الضَّنى
وأضْرَمَ في القَلْبِ منِّي لَهيبا [703] يُنظر: ((الحلة السيراء)) لابن الأبار (1/ 114).
ج- الغَزَلُ بالنَّصْرانيَّاتِ:
ظَهَرَتْ في الأدَبِ الأنْدَلُسيِّ ظاهِرةُ التَّغزُّلِ بالنَّصْرانيَّاتِ الفاتِناتِ، وحُسْنِهنَّ الأخَّاذِ، وهي ظاهِرةٌ لم يَعرِفْها الأدَبُ الإسْلاميُّ مِن قَبْلُ؛ فسارَعَ الشُّعَراءُ في التَّغزُّلِ بِهنَّ تَغزُّلًا حِسِّيًّا، يَصِفونَ حُسْنَهنَّ ومَفاتِنَهنَّ، ولم يَغِبْ عن ذلك الشِّعْرِ بعضُ الألْفاظِ والمُصْطَلحاتِ النَّصْرانيَّةِ.
ومِن ذلك قَوْلُ ابنِ الحَدَّادِ:
عساكِ بحَقِّ عيساكِ
مُريحةُ قَلْبيَ الشَّاكي
فإنَّ الحُسْنَ قد ولَّا
كِ إحْيائي وإهْلاكي
وأوْلَعَني بصُلْبانٍ
ورُهْبانٍ ونُسَّاكِ
ولم آتِ الكَنائِسَ عن
هَوًى فيهنَّ لولاكِ
وها أنا مِنكِ في بَلْوى
ولا فَرَجٌ لبَلْواكِ
ولا أسْطيعُ سُلْوانًا
فقدْ أوْثَقْتِ أشْراكي
فكم أبْكي عليكِ دَمًا
ولا تَرْثينَ للباكي
فهلْ تَدْرينَ ما تَقْضي
على عَيْنيَّ عَيْناكِ
وما يُذْكيهِ مِن نارٍ
بقَلْبي نورُكِ الذَّاكي
حَجَبْتِ سَناكِ عن بَصَري
وفوقَ الشَّمْسِ سيماكِ
وفي الغُصْنِ الرَّطيبِ وفي الن
نَقا المُرتَجِّ عِطْفاكِ
وعنْدَ الرَّوْضِ خَدَّاكِ
ومِن رَيَّاه رَيَّاكِ
نُوَيرةُ إن قَلَيْتِ فإنْ
نَني أهْواكِ أهْواكِ [704] ((ديوان ابن الحداد)) (ص: 241).
د- الغَزَلُ بالمُذكَّرِ:
 لمَّا ضَعُفَتْ قُوَّةُ الدَّوْلةِ في الأنْدَلُسِ، وكَثُرَ المُجونُ واللَّهْوُ وانْتَشَرَتِ الخَمَّاراتُ، مالَ الشُّعَراءُ إلى التَّغزُّلِ بالمُذكَّرِ؛ جَرْيًا مِنهم على مِنْوالِ المَشارِقةِ كأبي نُواسٍ، وحَمَّاد عَجْرَدٍ، ومُطيعِ بنِ إياسٍ، وغيْرِهم، فانْصَرَفَ الشُّعَراءُ إلى التَّغزُّلِ بالغِلْمانِ الَّذين يَسْقونَهم الخَمْرَ، ومِن ذلك قَوْلُ ابنِ عَمَّارٍ:
وهَوَيْتُه يَسْقي المُدامَ كأنَّهُ
قَمَرٌ يَدورُ بكَوْكَبٍ في مَجلِسِ
مُتأرِّجُ الحَرَكاتِ تَنْدى ريحُهُ
كالغُصْنِ هَزَّتْهُ الصَّبا بتَنَفُّسِ
يَسْقي بكَأسٍ ‌في ‌أنَامِلِ ‌سَوْسَنٍ
ويُديرُ أُخرى مِن مَحاجِرِ نَرْجِسِ
عنَّا بكَأسِك قد كَفَتْنا مُقْلَةٌ
حَوْراءُ قائِمةٌ بسُكْرِ المَجلِسِ [705] ينظر: ((الذخيرة في محاسن اهل الجزيرة)) لأبي الحسن الشنتريني (3/391).

انظر أيضا: