موسوعة اللغة العربية

تَمْهيدٌ: النَّثْرُ في العَصْرِ الأُمَوِيِّ


كانَ العَصْرُ الأُمَوِيُّ خُطوةً تالِيةً لمَسيرةِ التَّطوُّرِ الَّتي ابْتَدَأها عَصْرُ صَدْرِ الإسلامِ؛ إذ تَنَوَّعَتِ الخُطَبُ وكَثُرَتْ، واسْتَحدَثَتْ لها مِن الأغْراضِ والمَعاني الكَثيرَ، كما أنَّها هذَّبَتْ بعضَ الأغْراضِ القَديمةِ وأهْمَلَتْ ما لا يَليقُ بالدِّينِ مِن الأغْراضِ البالِيةِ، كالدَّعْوةِ إلى الشِّرْكِ، وإثارةِ العَصَبيَّاتِ القَبَليَّةِ، ونَحْوِ ذلك، كما أنَّ الكِتابةَ في عَصْرِ صَدْرِ الإسلامِ كَثُرَ الاعْتِمادُ عليها، وبَدَأَتْ لتَأديةِ الغَرَضِ كما هو الحالُ لدى الجاهِليِّينَ، وإن كانَتِ الكِتابةُ لديهم على قِلَّةٍ، فإنَّه بمُرورِ الوَقْتِ نَجِدُ طَفْرةً بَيانيَّةً في الخَطابةِ والكِتابةِ، وقد رَأيْنا رَسائِلَ عُثْمانَ بنِ عفَّانَ إلى عليٍّ، والمُراسَلاتِ الَّتي بَيْنَ عليٍّ ومُعاوِيةَ رَضيَ اللهُ عنهم أجْمَعينَ، وما فيها مِن الأُسلوبِ البَلاغيِّ، والاعْتِناءِ بالتَّنْميقِ والسُّموقِ البَيانيِّ.
غيْرَ أنَّ الفُنونَ الأدَبيَّةَ النَّثْريَّةَ بما حَوَتْه مِن الخَطابةِ وسائِرِ الفُنونِ المُعْتمِدةِ على الكِتابةِ قد أخَذَتْ خُطوةً واسِعةً غيْرَ مَعْهودةٍ في العَصْرِ الأُمَوِيِّ، فلم يَحدُثْ أن تَطوَّرَ فَنٌّ بصورةٍ جَذْريَّةٍ مِثلَما تَطوَّرَ الفَنُّ النَّثْريُّ في العَصْرِ الأُمَوِيِّ، وقد هيَّأَ لذلك عِدَّةُ أمورٍ سِياسيَّةٍ ودينيَّةٍ وعِلميَّةٍ:
أمَّا السِّياسيَّةُ فإنَّ الأمورَ لم تَهْدَأْ بتَنازُلِ الحَسَنِ بنِ عليٍّ لمُعاوِيةَ بالخِلافةِ؛ إذ كانَ قد سَبَقَ ذلك أنِ انْفَصَلَتْ فِرْقةُ الخَوارِجِ عن مُعَسْكَرِ عليِّ بنِ أبي طالِبٍ حينَ وافَقَ على التَّحْكيمِ، وانْتَهى بهمُ الأمْرُ إلى تَكْفيرِ المُعَسْكَرَينِ، واعْتِبارِ بِلادِ الإسلامِ دارَ حَرْبٍ، فلم يَزالوا في حَرْبٍ معَ الطَّرَفَينِ، وقد اخْتَلَفَ الخَوارِجُ أنْفُسُهم إلى فِرَقٍ مُخْتلِفةٍ؛ كالأزارِقةِ والنَّجَداتِ والصُّفْريَّةِ والإباضِيَّةِ.
وعلى صَعيدٍ آخَرَ حينَ يَموتُ مُعاوِيةُ بنُ أبي سُفْيانَ رَضيَ اللهُ عنهما، ويَتَولَّى الأمْرَ يَزيدُ بنُ مُعاوِيةَ، يُسارِعُ عبْدُ اللهِ بنُ الزُّبَيْرِ رَضِي اللهُ عنهما في تَنْصيبِ نفْسِه حاكِمًا شَرْعيًّا للبِلادِ، ويَستقِلُّ بالحِجازِ، وتَصِلُ أطْرافُ دَوْلتِه إلى العِراقِ ومِصْرَ كذلك، وتَسْتمِرُّ دَوْلتُه عشْرَ سَنَواتٍ حتَّى قَضى عليه عبْدُ المَلِكِ بنُ مَرْوانَ، ومِن قبْلِه يَتَّصِلُ الشِّيعةُ في العِراقِ بالحُسَينِ بنِ عليٍّ رَضِيَ اللهُ عنهما ويَذهَبُ إليهم، ويُناصِرونَه ليُحارِبَ يَزيدَ ويَقْتنِصَ الخِلافةَ مِنه، بَيْدَ أنَّهم سُرْعانَ ما تَخلَّوا عنه وخَذَلوه حتَّى قُتِلَ شَهيدًا معَ أهْلِ بَيْتِه، هذا فَضْلًا عن الثَّوْراتِ والفِتَنِ الَّتي لم يَخْلُ مِنها زَمَنُ خَليفةٍ مِن خُلَفاءِ بَني أُمَيَّةَ، مِثلُ ثَوْرةِ ابنِ الأشْعَثِ، ويَزيدَ بنِ المُهَلَّبِ، وغيْرِ ذلك، إلَّا أنَّ الأحْزابَ الَّتي اسْتَمرَّتْ طَويلًا: الحِزْبُ الأُمَوِيُّ، والشِّيعةُ، والخَوارِجُ، والزُّبَيْريُّونَ.
وقد أثْرَتْ تلك الفِتَنُ والحُروبُ ذلك الجانِبَ الأدَبيَّ؛ فكَثُرَتِ الخُطَبُ واسْتَعانَتْ كلُّ فِرْقةٍ بالخُطَباءِ والكُتَّابِ، كما اسْتَعانَتْ بالشُّعَراءِ، فكانَ لكلِّ حِزْبٍ خَطيبٌ مُفوَّهٌ وكاتِبٌ مُسدَّدٌ، وكلُّ خَطيبٍ يُبادِرُ إلى نُصْرةِ حِزْبِه، ويُسارِعُ إلى إقْناعِ الحُضورِ بصِحَّةِ مَذهَبِه، مُسْتَعينًا بالأدَلَّةِ والبَراهينِ العَقْليَّةِ للإقْناعِ، وبالبَلاغةِ والصُّوَرِ البَيانيَّةِ للتَّأثيرِ في النُّفوسِ والأرْواحِ.
أمَّا الجانِبُ الدِّينيُّ فقد تمثَّل في شِقَّينِ؛ الأوَّلُ: خُطَباءُ الوَعْظِ والقِصَصِ؛ حيثُ انْتَشَرَ كثيرًا الخُطَباءُ والوُعَّاظُ والقُصَّاصُ، الَّذين يَهتَمُّونَ ببَيانِ أحْكامِ الدِّينِ وتَفْسيرِ القُرآنِ، ويَربِطونَ آياتِه بما لديهم مِن القِصَصِ مِن أخْبارِ السَّابِقينَ وحِكاياتِهم الَّتي انْتَشَرَتْ في السُّنَّةِ والكُتُبِ السَّماوِيَّةِ القَديمةِ، وقد ساعَدَ في نَشْرِ ذلك مَحبَّةُ النَّاسِ وشَغَفُهم بالقِصَصِ والأخْبارِ، فكانَ في كلِّ مَسجِدٍ تَقْريبًا وُعَّاظٌ وقُصَّاصٌ.
الشِّقُّ الثَّاني مِن ذلك الجانِبِ تَمثَّلَ في الاخْتِلافاتِ العَقَديَّةِ الَّتي حَدَثَتْ في ذلك الزَّمانِ، ابْتِداءً مِن القَدَريَّةِ الَّذين يَنْفونَ القَدَرَ، أو الَّذين يَزعُمونَ أنَّ الإنْسانَ مُجبَرٌ مَقْهورٌ غيْرُ مُخيَّرٍ، ثُمَّ فِتْنةِ المُعْتزِلةِ وقَولِهم بأنَّ صاحِبَ الكَبيرةِ في مَنزِلةٍ بَيْنَ مَنزِلَتَينِ؛ فلا هو بكافِرٍ كما يقولُ الخَوارِجُ، ولا مُسلِمٍ كما يقولُ أهْلُ السُّنَّةِ، ثُمَّ انْخِراطِهم بعْدَ ذلك في نَفْيِ صِفاتِ اللهِ تعالى، وادِّعائِهم بأنَّ القُرآنَ مَخْلوقٌ، ونَحْوِ ذلك، فكانَ لِزامًا أن تُلهِبَ تلك الخِلافاتُ النُّضْجَ الأدَبيَّ للخَطابةِ والنَّثْرِ؛ حيثُ كانَ كلُّ فَريقٍ يقومُ ليُبيِّنَ مُعْتقَدَه وصِحَّةَ رأيِه، ويُفنِّدَ بالدَّليلِ قَولَ خَصْمِه، كما عَمِلَتِ المُكاتَباتُ كذلك عَمَلَ الخَطابةِ في تَثْبيتِ الأتْباعِ وتَفْنيدِ آراءِ الخُصومِ وحُجَجِهم.
وأخيرًا تَمثَّلَ الجانِبُ العَقْليُّ في ازْدِهارِ الحَياةِ العِلميَّةِ زَمانَ الأُمَوِيِّينَ؛ فقدْ حرَصوا على تَرْجمةِ الكُتُبِ العِلميَّةِ، كما كانَ بعضُ الأُمَراءِ مُهْتمًّا بالعِلمِ كخالِدِ بنِ يَزيدَ بنِ مُعاويةَ الَّذي اهْتَمَّ بكُتُبِ الكيمياءِ والطِّبِّ ونَحْوِها، وأرْسَلَ مَن يَأتي له بها مِن الغَرْبِ، هذا كلُّه فَضْلًا عن دُخولِ الأجْناسِ المُخْتلِفةِ في الإسلامِ، وإفادةِ العَربِ بعُلومِها ومَعارِفِها، فأثَّرَ ذلك في تَوْسِعةِ مَدارِكِ العَربيِّ وتَدْعيمِ طُرُقِه في الاحْتِجاجِ والإقْناعِ [488] يُنظر: ((الفن ومذاهبه في النثر العربي)) لشوقي ضيف (ص: 63). .

انظر أيضا: