موسوعة اللغة العربية

المَطْلَبُ الخامِسُ: الخَمْريَّاتُ


فَشا في الجاهِليَّةِ الحَديثُ عن الخَمْرِ ومُنادَمةِ النِّساءِ والقِيَانِ على مَجالِسِ الشَّرابِ، والإمْعانُ في وَصْفِ الخَمْرِ وآنِيتِها وساقيها، بلِ اعْتَمدَتْ بعضُ القَصائِدِ على المُقدِّمةِ الخَمْريَّةِ بَدَلًا مِن المُقدِّماتِ الطَّلَليَّةِ، مِثلُ عَمْرِو بنِ كُلْثومٍ الَّذي صَدَّرَ مُعلَّقتَه بقَوْلِه:
ألَا هُبِّي بصَحْنِك فاصْبَحينا
ولا تُبْقي خُمورَ الأنْدَرينا
لكنْ لمَّا جاءَ الإسلامُ وحَرَّمَ الخَمْرَ لم يَبْقَ مَجالٌ للتَّغنِّي بالخَمْرِ ووَصْفِها، فانْدَثَرَ ذلك في الشِّعْرِ الإسلاميِّ، كما انْدَثَرَ قبْلَه الغَزَلُ والفَخْرُ القَبَليُّ ونَحْوُهما.
ومعَ التَّرفُّهِ واللَّهْوِ الَّذي أصابَ النَّاسَ في زَمانِ الدَّولةِ الأُمَوِيَّةِ، عادَ الشُّعَراءُ إلى مَجالِسِ الخَمْرِ والشَّرابِ، فرَجَعَ الأمْرُ إلى الحالِ الأوَّلِ، فتَغنَّى الشُّعَراءُ بالخَمْرِ ووَصْفِ كُؤوسِها والغِلْمانِ الَّذين يَدورونَ بها، وبَيانِ مَذاقِ تلك الخَمْرِ وتَأثيرِها في نُفوسِ الشَّارِبينَ.
ويُلحَظُ في القَصيدةِ الخَمْريَّةِ خِفَّةُ الأوْزانِ والمَيلُ إلى الإطْرابِ والغِناءِ، واخْتِيارُ الألْفاظِ السَّهْلةِ السَّلِسةِ، والبُعْدُ عن الألْفاظِ الوَحْشيَّةِ والمَعاني العالِيةِ الغَريبةِ.
ولعلَّ أبْرَزَ الشُّعَراءِ الَّذين تَناوَلوا وَصْفَ الخُمورِ والتَّغنِّي بها: الوَليدُ بنُ يَزيدَ بنِ عبْدِ المَلِكِ، الشَّاعِرُ المُبدِعُ والخَليفةُ الماجِنُ الَّذي اشْتَهرَتْ في الأرْجاءِ أخْبارُ فِسْقِه ولَهْوِه، وقد كانَ -مِثلَ أبيه- مُدْمِنًا للخَمْرِ عاكِفًا على مَجالِسِ القِيَانِ والمَلاهي؛ ولِهذا تَميَّزَتْ أشْعارُه الخَمْريَّةُ بأنَّ الخَمْرَ لم تَعُدْ جُزْءًا في أثْناءِ قَصيدةٍ أو مُقدِّمةً مِن المُقدِّماتِ المَألوفةِ كما عنْدَ الأعْشى وعَديِّ بنِ زيدٍ وغيْرِهما، بلْ صارَتْ غَرَضًا مِن أغْراضِ الشِّعْرِ، تُنظَمُ له القَصيدةُ كامِلةً، تَتَماثَلُ فيها أرْكانُ القَصيدةِ مِن الوَحْدةِ العُضويَّةِ والمَعْنويَّةِ، كما أنَّه يَتَجلَّى في قَصائِدِه أنَّه عاشِقٌ للخَمْرِ مُتَيَّمٌ بها [451] يُنظر: ((تاريخ الأدب العربي)) لشوقي ضيف (2/ 382). .
فمِن ذلك قَوْلُه:
عَلِّلاني واسْقِياني
مِن شَرابٍ أصْبَهاني
مِن شَرابِ الشَّيخِ كِسْرى
وشَرابِ القَيْرَواني
وامْزُجِ الكأسَ ولا تُكْ
ثِرْ مِزاجَ العَسْقَلاني
إنَّ بالكَأسِ لَمِسْكًا
وبِكَفَّيْ مَن سَقاني
إنَّما الكَأسُ رَبيعٌ
يُتَعاطى بالبَنانِ [452] ((ديوان الوليد بن يزيد)) (ص: 57).

انظر أيضا: