موسوعة اللغة العربية

المَطلَبُ الخامِسُ: الاعْتِذارُ


لم يكنْ شِعْرُ الاعْتِذارِ شائِعًا بيْنَ العَربِ؛ لِما فيهم مِن أنَفةٍ وكِبْرياءَ، فيَأنَفُ أحَدُهم عن الاعْتِرافِ بخَطأٍ أوِ النَّدَمِ على فِعْلٍ، فهُمْ قَوْمٌ كما قالَ قائِلُهم:
لا يَسْأَلونَ أخاهمْ حينَ يَندُبُهم
في النَّائِباتِ على ما قالَ بُرْهانا
إلَّا أنَّ النَّابِغةَ الذُّبْيانيَّ برَعَ في هذا الجانِبِ وأسْهَبَ فيه، حتَّى قيلَ: إنَّه أضافَ إلى الشِّعْرِ فَنًّا جَديدًا.
وقد كانَ النَّابِغةُ نَديمًا للنُّعْمانِ بنِ المُنْذِرِ مَلِكِ الحِيرةِ، كما كانَ يَدخُلُ على الغَساسِنةِ في الشَّامِ ويَمدَحُهم، فلمَّا ساءَتِ الأحْوالُ بيْنَ المَناذِرةِ والغَساسِنةِ انْقَطعَ النَّابِغةُ عنِ الغَساسِنةِ، وعكَفَ على مَدْحِ النُّعْمانِ بنِ المُنْذِرِ، إلَّا أنَّ بعضَ الحاسِدينَ وشى به لدى النُّعْمانِ بنِ المُنْذِرِ، فتَوَعَّدَه النُّعْمانُ، فهَرَبَ النَّابِغةُ إلى قَوْمِه في نَجْدٍ، ومِنها إلى الغَساسِنةِ، حيثُ قدِمَ عليهم، وظَلَّ يَمدَحُهم وفي نفْسِه أن يَرجِعَ للنُّعْمانِ ويَسْتَرْضيَه، ولمَّا تَمكَّنَ مِن ذلِك عادَ إلى النُّعْمانِ وأنْشَدَ اعْتِذارِيَّتَه المَشْهورةَ:
أتاني أبَيْتَ اللَّعْنَ أنَّكَ لُمْتَني
وتلك الَّتي أهْتَمُّ مِنها وأنْصَبُ
فبِتُّ كأنَّ العائِداتِ فَرَشْنَ لي
هَراسًا به يُعْلى فِراشي ويُقشَبُ
حَلَفْتُ فلم أتْرُكْ لنَفْسِكَ رِيبةً
وليس وَراءَ اللهِ للمَرْءِ مَذهَبُ
لئِنْ كنْتَ قد بُلِّغْتَ عنِّي خِيانةً
لمُبلِغُكَ الواشي أغَشُّ وأكْذَبُ
ولكنَّني كنْتُ امْرَءًا ليَ جانِبٌ
مِنَ الأرْضِ فيهِ مُسْتَرادٌ ومَذهَبُ
مُلوكٌ وإخْوانٌ إذا ما أتَيْتُهم
أُحَكَّمُ في أمْوالِهم وأُقرَّبُ
كفِعْلِكَ في قَوْمٍ أراكَ اصْطَنَعْتَهم
فلم تَرَهمْ في شُكْرِ ذلِك أذْنَبوا
وإنَّكَ شَمْسٌ والمُلوكُ كَواكِبٌ
إذا طلَعَتْ لم يَبْدُ مِنهنَّ كَوْكَبُ
فلا تَتْرُكَنِّي بالوَعيدِ كأنَّني
إلى النَّاسِ مَطْليٌّ به القارُ أجْرَبُ
ألم تَرَ أنَّ اللهَ أعْطاكَ سورةً
تَرى كلَّ مَلْكٍ دونَها يَتَذَبْذَبُ
ولسْتُ بمُسْتَبْقٍ أخًا لا تَلُمُّهُ
على شَعَثٍ أيُّ الرِّجالِ المُهذَّبُ
فإن أكُ مَظْلومًا فعَبْدٌ ظَلَمْتَه
وإن تَكُ ذا عُتْبى فمِثْلُكَ يُعتِبُ [191] ((ديوان النابغة الذبياني)) (ص: 72).
قالَ الأصْمَعيُّ: (كفاكَ مِن الشُّعَراءِ أرْبَعةٌ: زُهَيْرٌ إذا طَرِبَ، والنَّابِغةُ إذا رَهِبَ، والأعْشى إذا غَضِبَ، وعَنْتَرةُ إذا كَلِبَ). [192] ((جمهرة أشعار العرب)) لأبي زيد القرشي (ص:70).
والمُرادُ بقولِ الأصْمَعيِّ: إذا رَهِبَ، أي: خافَ فاعْتَذَرَ، ومعنى: إذا كَلِبَ: أي: اشتدَّ غضبُه.

انظر أيضا: