موسوعة اللغة العربية

المَطلَبُ الثَّالِثُ: الفَخْرُ


الفَخْرُ هو غَرَضٌ مِن أبْرَزِ أغْراضِ الشِّعْرِ في العَصْرِ الجاهِليِّ، يَنْطوي على الزَّهْوِ والاعْتِزازِ بالنَّفْسِ والقَبيلةِ، والتَّغنِّي بالأمْجادِ، ويكونُ عادةً بادِّعاءِ أشْياءَ للنَّفْسِ أوِ للقَبيلةِ ليستْ في مُتَناوَلِ الجَميعِ [172] ينظر: ((في تاريخ الشعر الجاهلي)) لعلي الجندي (ص:364)، ((الأدب الجاهلي؛ قضاياه أغراضه أعلامه فنونه)) لزكي طليمات وعرفات الأشقر (ص: 135). .
وقدْ كانَ لطَبيعةِ المُجْتمَعِ القَبَليِّ دَوْرٌ بارِزٌ في إذكاءِ ذلِك الغَرَضِ الشِّعْريِّ وتَقْويتِه؛ إذ كانَ المُجْتمَعُ البَدَويُّ يُقَدِّرُ الحَميَّةَ والأنَفةَ والعِزَّةَ والقُوَّةَ الجَسديَّةَ والصَّبْرَ على المَكارِهِ، ويَتغنَّونَ بالشَّجاعةِ والتَّهوُّرِ والانْدِفاعِ؛ ولِهذا كانَ يَطْغى ذلِك الجانِبُ على جَميعِ الأغْراضِ الأخرى؛ كالمَدْحِ والغَزَلِ والرِّثاءِ وغيْرِها، بدَليلِ أنَّ المَجْموعاتِ الَّتي سُمِّيَتْ بالحَماسةِ إنَّما أخَذَتْ هذا الاسمَ لغَلَبةِ الحَماسةِ على سائِرِ الأغْراضِ والأبْوابِ، والحَماسةُ ما هي إلَّا لَونٌ مِن الفَخْرِ [173] يُنظر: ((الأدب الجاهلي؛ قضاياه أغراضه أعلامه فنونه)) لزكي طليمات وعرفات الأشقر (ص: 136). .
وقدِ اعْتَبَرَ ابنُ رَشيقٍ الفَخْرَ نَوْعًا مِن المَدْحِ؛ لأنَّ المُفْتخِرَ يَمدَحُ نفْسَه أو قَوْمَه [174] يُنظر: ((العمدة في محاسن الشعر وآدابه)) لابن رشيق (2/ 143). .
كما أنَّ الفَخْرَ أيضًا قد يكونُ تَعْريضًا للهِجاءِ، إذا افْتَخرَ الإنْسانُ بنَفْسِه بذِكْرِ صِفاتٍ ومَآثِرَ فيه وخَلا مِنها خَصْمُه، أو تَنْزيهِ نفْسِه عن نَقائِصَ وعُيوبٍ عنْدَ خَصْمِه [175] ينظر: ((تاريخ آداب العرب)) للرافعي (3/69). .
والفَخْرُ في الشِّعْرِ الجاهِليِّ نَوْعانِ:
أحَدُهما: فَخْرٌ شَخْصيٌّ؛ حيثُ يَتغنَّى الشَّاعِرُ بأمْجادِه وأخْلاقِه وبُطولاتِه ومَآثِرِه ومَحامِدِه، ومِن أبْرَزِ شُعَراءِ هذا اللَّوْنِ مِن الشِّعْرِ عَنْتَرةُ بنُ شَدَّادٍ، فهو القائِلُ:
هَلَّا ‌سَأَلْتِ ‌الخَيْلَ يا ابنةَ مالِكٍ
إنْ كُنْتِ جاهِلةً بِما لمْ تَعْلَمي
لا تَسْأليني واسألي بي صُحْبَتي
يَمْلأْ يَدَيْكِ تَعَفُّفي وتكَرُّمي
يُخْبِرْكِ مَنْ شَهِدَ الوَقيعةَ أنَّنِي
أَغْشى الوَغى وأَعِفُّ عنْدَ المَغنَمِ
إذْ لا أزالُ على رِحالةِ سابِحٍ
نَهْدٍ، تَعاوَرُهُ الكُماةُ مُكَلَّمِ
ومُدَجَّجٍ كَرِهَ الكُماةُ نِزالَهُ
لا مُمعِنٍ هَرَبًا ولا مُسْتَسْلِمِ
جادَتْ يَدايَ لَهُ بِعاجِلِ طَعْنَةٍ
بِمُثَقَّفٍ صَدْقِ الكُعوبِ مُقَوَّمِ
فشَكَكْتُ بالرُّمْحِ الأَصَمِّ ثِيابَهُ
ليسَ الكَريمُ عَلَى القَنا بِمُحَرَّمِ [176] ((ديوان عنترة)) (ص: 207).
ومِنه كذلِك طَرَفةُ بنُ العَبْدِ؛ حيثُ يقولُ [177] ((ديوان طرفة بن العبد)) (ص: 24). :
إِذَا القومُ قالوا مَن فَتًى؟ خِلتُ أنَّني
عُنِيتُ فلمْ أكسَلْ ولم أتبَلَّدِ
ولَستُ بِحَلَّالِ التِّلَاعِ مَخافةً
ولكنْ متى يَسترْفِدِ القومُ أرْفِدِ
فإن تَبْغِني في حَلْقةِ القَوْمِ تَلقَني
وإنْ تَقتَنِصْني في الحوانيتِ تَصْطَدِ
متى تَأتِني أَصْبَحْكَ كَأَسًا رَوِيَّةً
وإنْ كنتَ عنها ذا غِنًى فاغْنَ وازْدَدِ
وإنْ يَلتَقِ الحَيُّ الجَمِيعُ تُلَاقِني
إلى ذِروةِ البَيتِ الرَّفِيعِ المُصَمَّدِ
وأمَّا الآخَرُ: ففَخْرٌ قَبَليٌّ، وهو أن يَفخَرَ الشَّاعِرُ بقَبيلتِه الَّتي هو مِنها، ويُعدِّدَ مَآثِرَها ويَذكُرَ مَكارِمَها وأيَّامَها وحُروبَها ووَقائِعَها. ومِن أبْرَزِ مَن تَكلَّمَ في هذا اللَّونِ مِن الشِّعْرِ عَمْرُو بنُ كُلْثومٍ في مُعلَّقتِه، فيقولُ عن قَوْمِه بَني تَغْلِبَ:
وَرِثْنا المَجْدَ قد عَلِمَتْ مَعَدٌّ
نُطاعِنُ دونَهُ حتَّى يَبينا
إذا ما المَلْكُ سامَ النَّاسَ خَسْفًا
أَبَيْنا أنْ نُقِرَّ الخَسْفَ فينا
لنا الدُّنيا ومَنْ أَضْحى عليها
ونَبطِشُ حينَ نَبطِشُ قادِرينا
إذا بَلَغَ الفِطَامَ لَنا رَضيعٌ
تَخِرُّ لهُ الجَبابِرُ ساجِدينا
مَلأْنا البَرَّ حتَّى ضاقَ عَنَّا
كَذاك البَحْرُ نَملَؤهُ سَفينا
ألا لا يَحسَبِ الأعْداءُ أنَّا
تَضَعْضَعْنا وأنَّا قَدْ فَنِينا
تَرانا بارِزينَ وكلُّ حَيٍّ
قَدِ اتَّخَذوا مَخافَتَنا قَرينا
كأنَّا والسُّيوفُ مُسَلَّلاتٌ
وَلَدْنا النَّاسَ طُرًّا أَجْمَعينا
ألَا لا يَجْهَلَنْ أحَدٌ عَلَيْنا
فَنَجْهَلَ فوقَ جَهْلِ الجاهِلينا [178] ((ديوان عمرو بن كلثوم)) (ص: 75).
ومِنه قولُ وَدَّاكِ بنِ ثُمَيلٍ المازِنيِّ إذ يَفخَرُ بقَوْمِه أمامَ أعْدائِهم مِن بَني شَيْبانَ [179] يُنظر: ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (6/ 59)، ((شرح ديوان الحماسة)) للمرزوقي (ص: 95). :
رُوَيْدَ بَني شَيْبانَ بعْضَ وَعيدِكم
تُلاقوا غدًا خَيْلي على سَفَوانِ
تُلاقوا جِيادًا لا تَحيدُ عنِ الوَغى
إِذا ما غَدَتْ في المأزِقِ المُتَداني
عليها الكُماةُ الغُرُّ مِن آلِ مازِنٍ
لُيوثُ طِعانٍ عِنْدَ كلِّ طِعانِ
تُلاقوهمُ فتَعْرِفوا كيفَ صَبْرُهُمْ
على ما جَنَتْ فيهم يَدُ الحَدَثانِ
مَقاديمُ وَصَّالونَ في الرَّوْعِ خَطْوَهم
بِكلِّ رَقيقِ الشَّفْرتَينِ يَمانِ
إذا استُنْجِدوا لم يَسْأَلوا مَن دَعاهُمُ
لِأيَّةِ حَرْبٍ أَمْ بأيِّ مَكانِ
وقدْ كانَ إكْبارُ الشُّعَراءِ وافْتِخارُهم بقَبيلتِهم لا يُوصَفُ، بل إنَّ الواحِدَ مِنهم إن رأى قَوْمَه على ضَلالةٍ ضَلَّ معَهم، وهذا دُرَيْدُ بنُ الصِّمَّةِ، كانَ معَ قَوْمِه في غارةٍ على غَطَفانَ، فغَنِموا ورجَعوا، فأرادَ قَوْمُه أن يَقْسِموا الغَنائِمَ في طَريقِهم وأن يَنحَروا -على عادتِهم- ناقةً فيُطعِموا مِنها أصْحابَهم، فأبى عليهم وقالَ: إنَّ غَطَفانَ قد تُدرِكُنا، فأبَوْا حينَئذٍ، فنزَلَ عن رأيِه وأخَذَ برَأيِهم، وبالفِعلِ أدْرَكَتْهم غَطَفانُ واسْتَردَّتْ مِنهم ما غَنِموه، فأنْشَأَ يقولُ [180] يُنظر: ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (6/ 33)، ((ديوان المعاني)) لأبي هلال العسكري (1/ 122). :
أمَرْتُهُمُ أمْري بمُنعَرِجِ اللِّوى
فلَمْ يَسْتَبينُوا الرُّشْدَ إلَّا ضُحى الغَدِ
فلمَّا عَصَوني كُنْتُ مِنهمْ وقدْ أَرى
غِوايتَهمْ وأنَّني غيْرُ مُهتَدِ
وما أنا إلَّا مِن غَزِيَّةَ إنْ غَوَتْ
غَوَيْتُ وإنْ تَرشُدْ غَزِيَّةُ أَرشُدِ
خَصائِصُ الفَخْرِ:
يَتَميَّزُ الفَخْرُ بمَجْموعةٍ مِن الخَصائِصِ الَّتي تُميِّزُه مِن سائِرِ الأغْراضِ، كما تُميِّزُه مِن الفَخْرِ في العُصورِ التَّاليةِ، وهي:
- لم يكنِ الفَخْرُ غالِبًا غَرَضًا مُنْفرِدًا في القَصيدةِ، بلِ اشْتَملَتِ القَصائِدُ على أشْياءَ أخرى معَ الفَخْرِ، باسْتِثناءِ مُعلَّقةِ عَمْرِو بنِ كُلْثومٍ الَّتي إن حَذَفْنا مِنها المُقدِّمةَ الطَّلَليَّةَ وَجَدْنا قُرابةَ ثَمانينَ بَيْتًا في الفَخْرِ القَبَليِّ.
- خُروجُ الفَخْرِ عن دائِرةِ المَعْقولِ والمَنطِقِ، وانْطِلاقُه إلى آفاقِ المُبالَغاتِ الشِّعْريةِ المَقْبولةِ، يَتَجلَّى ذلِك في قولِ عَمْرِو بنِ كُلْثومٍ مَثَلًا:
إذا بَلَغَ الفِطامَ لنا رَضيعٌ
تَخِرُّ لهُ الجَبابِرُ ساجِدينا
مَلأْنا البَرَّ حتَّى ضاقَ عَنَّا
كذاك البَحْرُ نَملَؤُهُ سَفينا
- انْطِواءُ الفَخْرِ على مَجْموعةٍ كَبيرةٍ مِن الأحْداثِ، فيُصوِّرُ لنا الشَّاعِرُ في فَخْرِه بعضَ أيَّامِ العَربِ الَّتي عايَنَها وافْتَخرَ بانْتِصارِه فيها، ويَذكُرُ أسْماءَ بعضِ الأبْطالِ وسيرتَهم، فيُعْتبَرُ الفَخْرُ بِهذا مَصدَرًا مِن مَصادِرِ التَّاريخِ القَديمِ [181] يُنظر: ((الأدب الجاهلي؛ قضاياه أغراضه أعلامه فنونه)) لزكي طليمات وعرفات الأشقر (ص: 165). .

انظر أيضا: