موسوعة اللغة العربية

الفَصْلُ السَّابِعُ: العَلاقةُ بيْنَ الأدَبِ والمُجْتمَعِ       


لا شَكَّ أنَّ الأدَبَ يَتَّصِلُ اتِّصالًا مُباشِرًا بمُجْتمَعِه الَّذي يكونُ فيه، وبمَناحي الحَياةِ المُخْتلِفةِ؛ فالأديبُ ابنُ مُجْتمَعِه، يَتأثَّرُ بالحَياةِ ويُؤثِّرُ فيها، يَنقُلُ عاداتِه وتَقاليدَه، ويَعتَزُّ بأمْجادِه، ويَفخَرُ بكُبَرائِه ورُموزِه، ويُناقِشُ مُشْكِلاتِه، ويُحاوِلُ أن يَجِدَ لها حَلًّا، فَضْلًا عن أنَّ لُغتَه وأُسلوبَه وصُوَرَه تَتَأثَّرُ كَثيرًا بالبيئةِ الَّتي يَعيشُ فيها، والمُجْتمَعِ الَّذي يَحيا بيْنَ ظَهْرانَيه، ولشِدَّةِ الصِّلةِ بيْنَ الأدَبِ والمُجْتمَعِ، فمِن خِلالِ دِراسةِ النِّتاجِ الأدَبيِّ للأديبِ يَسْتطيعُ الدَّارِسُ أن يَسْتنتِجَ الكَثيرَ مِن طَبيعةِ البيئةِ المُجْتمَعيَّةِ الَّتي نشَأَ فيها الأديبُ؛ إذ إنَّه -بقَصْدٍ أو بغيْرِ قَصْدٍ- يُصوِّرُ مَيزاتِ الأُمَّةِ النَّفْسيَّةَ والعَقْليَّةَ، وعُيوبَها ومِثاليَّتَها ومَحاسِنَها، وأحْوالَها السِّياسيَّةَ والاقْتِصاديَّةَ وغيْرَها. ومِن جِهةٍ أخرى فالأدَبُ رِسالةٌ مُوَجَّهةٌ مِن الأديبِ إلى مُجْتمَعِه يَنقُلُ مِن خِلالِها انْفِعالاتٍ وأفْكارًا مُعيَّنةً.
ومِن طَريفِ ذلك ما رُوِيَ -وإن كانَتِ القِصَّةُ مَشْكوكًا في صِحَّتِها- أنَّ عليَّ بنَ الجَهْمِ الشَّاعِرَ البَدَويَّ قَدِمَ على الخَليفةِ المُتوكِّلِ، فأنْشَدَه قَصيدتَه الَّتي يقولُ فيها:
أنتَ كالكَلْبِ في حِفاظِكَ للوُدِّ
وكالتَّيْسِ في قِراعِ الخُطوبِ
أنتَ كالدَّلْوِ لا عَدِمْناكَ دَلْوًا
مِن كِبارِ الدِّلا كَثيرَ الذَّنوبِ
فعرَفَ المُتوَكِّلُ حُسْنَ مَقصَدِه، وأنَّه إنَّما أرادَ مَدْحَ الخَليفةِ، غيْرَ أنَّ طَبيعتَه وخُشونةَ عَيْشِه هي الَّتي دفَعَتْه إلى تلك الألْفاظِ والتَّشْبيهاتِ، فأمَرَ له المُتوَكِّلُ بدارٍ حَسَنةٍ تُطِلُّ على نَهْرِ دِجلةَ، فيها بُسْتانٌ حَسَنٌ يَتَخلَّلُه نَسيمٌ لَطيفٌ يُغذِّي الأرْواحَ، والجِسْرُ قَريبٌ مِنه، وأمَرَ له بأحْسَنِ الطَّعامِ والثِّيابِ، فلم يَمْضِ زَمانٌ طَويلٌ حتَّى اسْتَدْعاه المُتوَكِّلُ، فأنْشَدَ بيْنَ يَدَيه قَصيدتَه:
عُيونُ المَها بيْنَ الرُّصافةِ والجِسْرِ
جَلَبْنَ الهَوى مِن حيثُ أَدْري ولا أَدْري
فتَغيَّرَ طَبْعُ الشَّاعِرِ وأُسلوبُه وألْفاظُه حينَ تَغيَّرَتْ عليه مَظاهِرُ البيئةِ، ورأى بَغدادَ وتَحضُّرَ النَّاسِ، حتَّى قال المُتوَكِّلُ: أخشى أن يَذوبَ مِنَ الرِّقَّةِ [30] يُنظر: ((سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي)) لعبد الملك العصامي (3/ 469)، ((الأدب وفنونه)) عز الدين إسماعيل (ص24). !
ولا أدَلَّ على هذا مِن أنَّ العُلَماءَ حينَ هَمُّوا بجَمْعِ اللُّغةِ العَربيَّةِ اقْتَصروا على نِهايةِ القَرْنِ الثَّاني الهِجريِّ بالنِّسبةِ للحَضَرِ، ورَخَّصوا في الأخْذِ عن الأعْرابِ والباديةِ إلى مُنْتصَفِ القَرْنِ الرَّابِعِ؛ ذلك أنَّ طَبيعةَ الباديةِ وخُشونةَ العَيْشِ فيها لم تَجذِبِ العَجَمَ إليها، فيَخْتلِطوا بهم كما اخْتَلطَ بهم الحَضَرُ، فتَتَغيَّرَ لُغتُهم ويَفْشوَ اللَّحْنُ فيهم كما فشا في الحَضَرِ، بلِ اسْتَمرُّوا على حالِهم مُحافِظينَ على اللُّغةِ وألْفاظِها في شِعْرِهم ونَثْرِهم.
ولشِدَّةِ لُصوقِ الأدَبِ بالمُجْتمَعِ، كانَتِ القَبيلةُ هي الَّتي تَرفَعُ الشَّاعِرَ أو تَضَعُه، فكم مِن شاعِرٍ انْتَشرَ أمْرُه وذاعَ صِيتُه بسَببِ مُجْتمَعِه؛ فشاعِرٌ مِثلُ عَمْرِو بنِ كُلْثومٍ التَّغْلِبيِّ دخَلَ التَّاريخَ بقَصيدةٍ واحِدةٍ، تَناقَلَها مُجْتمَعُه جيلًا بعْدَ جيلٍ، وهي مُعَلَّقتُه المَشْهورةُ الَّتي مَطلَعُها:
ألَا هُبِّي بِصَحْنِكِ فَاصْبَحينا
ولا تُبْقي خُمورَ الأَنْدَرينا
هذه القَصيدةُ الَّتي ظَلَّتْ قَبيلةُ تَغْلِبَ تُنشِدُها لَيلَ نَهارَ، حتَّى قالَ فيهم أحَدُ الشُّعَراءِ:
ألْهَى بَني تَغلِبٍ عنْ كلِّ مَكرُمةٍ
قَصيدةٌ قالَها عَمْرُو بنُ كُلْثومِ
يَرْوونَها أبَدًا مُذْ كانَ أوَّلُهم
يا لَلرِّجالِ لِشِعْرٍ غَيْرِ مَسْؤومِ
وإنَّ ما أعْطى تلك القَصيدةَ كلَّ هذا الاهْتِمامِ أنَّها جاءَتْ في الفَخْرِ ببَني تَغْلِبَ، وذلك في أثْناءِ الحَديثِ عن حَرْبِ "البَسوسِ"، الَّتي كانَتْ بيْنَ تَغْلِبَ وبَكْرٍ، فأعلى فيها الشَّاعِرُ مِن قَومِه التَّغْلِبيِّينَ، وحَطَّ مِن شأنِ عَدُوِّهم، وفَنَّدَ مَزاعِمَهم، وسَخِرَ مِن المَلِكِ عَمْرِو بنِ هِنْدٍ الَّذي لَقيَ مَصرَعَه بعْدَ ذلِك في إحدى المَعارِكِ [31] يُنظر: ((الشعر والشعراء)) لابن قتيبة (1/ 230)، ((شرح المعلقات السبع)) للزوزني (ص: 213). .

انظر أيضا: