الفَصلُ الثَّالِثُ والعِشرونَ: أَبُو عُمَرَ الزَّاهِدُ (غُلامُ ثَعْلَبٍ) (ت: 345 هـ)
أَبُو عُمَرَ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ بنِ أَبِي هَاشِمٍ المطَرِّزُ، البَغْدَادِيُّ، الزَّاهِدُ، الإِمَامُ الأَوْحدُ، العَلَّامَةُ، النَّحْويُّ، اللُّغَويُّ، المُحَدِّثُ، المَعْرُوف: بِغُلامِ ثَعْلَبٍ.
مَوْلِدُه:وُلِد سَنةَ إحدى وسِتِّينَ ومِائَتَينِ.
مِن مَشَايِخِه:ثَعْلَب، ومُوسَى بن سَهْل الوَشَّاء، وأَحْمَد بن عُبَيْد الله النَّرْسِي، ومُحَمَّدُ بن يُونُس الكُدَيْمِي، والحَارِث بن أبي أُسَامَة، وأَحْمَد بن زِيَاد بن مِهْرَانَ السِّمْسَار، وإِبْرَاهِيمَ بن الهَيْثَمِ البَلَدِي، وإِبْرَاهِيم الحَرْبِي، وَبِشْر بن مُوسَى الأَسَدِي، وأَحْمَد بن سَعِيدٍ الجَمَّال، وَمُحَمَّد بن هِشَام بن البَخْتَرِي، وَمُحَمَّد بن عُثْمَانَ العَبْسِي.
ومِن تَلَامِذَتِه:أَبُو الحَسَن بن رَزْقوَيْه، و
ابْنُ مَنْدَهْ، و
أَبُو عَبْد الله الحَاكِم، والقَاضِي أَبُو القَاسِم ابن المُنْذِر، وأَبُو الحُسَيْن بن بِشْرَانَ، والقَاضِي مُحَمَّد بنُ أَحْمَد ابن المَحَامِلِي، وعَلِيُّ بن أَحْمَدَ الرَّزَّاز، وأَبُو الحَسَن الحَمَّامِي، وأَبُو عَلِي بنُ شَاذَانَ.
مَنْزِلَتُه وَمَكَانَتُه:كان أبو عُمَرَ الزَّاهِد رحمه الله مِن أكَابِر أَئِمَّة اللُّغَةِ والنَّحْوِ والعَرَبِيَّةِ، حتى قِيل: (لم يتَكَلَّم فِي العَرَبيَّة أحَدٌ من الأَوَّلين والآخِرينَ أعلَمُ مِنْهُ!).
وقد لازم أبو عُمَرَ الزَّاهِد ثَعْلبًا فِي العَرَبِيَّة، فَأَكْثَرَ عَنْهُ إِلَى الغَايَة حتى لُقِّب بغُلَام ثَعْلَب، وكان مِن أَهْل اللُّغَة مَن يَطْعَنُون عَلَيْه، وَيَقُولُونَ: (لَو طَار طَائِرٌ فِي الجو؛ لقال: حَدَّثنَا ثَعْلَبٌ، عَن ابْنِ الأَعرَابِيِّ، وَيذكُرُ فِي ذَلِك سَبَبًا!).
سَعَةُ عِلْمِه وحِفْظِه:- كان أبو عُمَرَ الزَّاهِد رحمه الله وَاسِعَ العِلْمِ، سَرِيعَ الحِفْظِ، من الرُّوَاة الذين لم يُرَ قَط أحْفَظَ منهم؛ أَمْلَى مِنْ حِفْظِهِ ثَلاثِينَ أَلفَ وَرقَةِ لُغَةٍ، وَجمِيعُ كُتُبه إِنَّمَا أَملاهَا بِغَيْر تَصْنِيفٍ، وَلِسَعَةَ حِفْظِه تِلْك اتُّهِم بالكَذِبِ!
وَكَانَ يُسْأَلُ عَنِ الشَّيْءِ الَّذِي يضَعُه له السَّائِلُ، فيجيبُ عَنْهُ، ثُمَّ يَسأَله غَيْرُه بَعْد سنَةٍ، فَيُجِيبُه بجَوَابِه الأوَّلِ بعَيْنِه، وقد سَأَلَه جماعةٌ عَنْ قنطزَة، مَا هِيَ؟ فَقَالَ: كَذَا وَكَذَا، فَتَضَاحَك القَوْمُ، ولَمَّا كَانَ بَعْد شُهُور هَيَّؤوا مَنْ سأَله عَنْهَا، فَقَالَ: أَلَيْسَ قَدْ سُئِلْتُ عَنْ هَذِهِ مُنْذُ شُهُور، وَأَجَبْتُ؟!
- وَكَانَ يُؤَدِّبُ وَلَد القَاضِي أبي عُمَرَ مُحَمَّد بن يُوسُف، فَأَمْلَى عَلَيْهِ يَوْمًا نَحْو ثَلَاثِينَ مَسْأَلَة في اللُّغَة، وذَكَر غَرِيبَها، وخَتَمَها ببيتينِ من الشِّعْر، وحَضَر
ابْنُ دُرَيْد، وابْنُ الأَنْبَارِيِّ، وابْنُ مقسَمٍ عِنْد القَاضِي، فَعرض عَلَيْهِم تِلْكَ المسَائِل، فَمَا عرفُوا مِنْهَا شَيْئا، وأنكروا الشِّعْرَ، فَقَال لَهُم القَاضِي: مَا تَقولُونَ فِيهَا؟ فَقَالَ ابْنُ الأَنْبَارِيِّ: أَنا مَشْغُول بتصنيف مُشكِل القُرْآن، وَلَا أَقُول شَيْئًا. وَقَالَ ابْن مقسَمٍ كَذَلِك، وَقَالَ: أَنا مَشْغُولٌ بالقِرَاءَاتِ. وَقَالَ
ابْن دُرَيْد: هَذِه المسَائِلُ مِن مَصْنُوعَاتِ أبي عُمَر، وَلَا أَصْلَ لَهَا في اللُّغَة؛ فَبَلغهُ ذَلِك، فَاجْتمع بِالْقَاضِي وَسَأَلَهُ إِحْضَارَ دَواوِين جَمَاعَة مِن قُدَمَاء الشُّعَرَاء، سَمَّاهُم، فَفتح القَاضِي خزانَتَه، وَأخرج لَهُ تِلْكَ الدَّوَاوِينَ، فَلم يَزَلْ أَبُو عُمَرَ يَذْكُر كُلَّ مَسْأَلَة، ويُخْرِج لَهَا شَاهدًا مِن كَلَام العَرَب، ويَذْكُرُه للقَاضِي حَتَّى استوفاها، ثمَّ قَالَ: وَهَذَانِ البيتان أنشدَهما ثَعْلَبٌ بِحَضْرَة القَاضِي، وكتبهما القَاضِي بِخَطِّهِ على ظَهْرِ الكِتَابِ الفُلَانِي، فَأَمَر بإحْضَارِ الكِتَاب فَوَجَد البَيْتَيْن عَلَى ظَهْره بِخَطِّهِ كَمَا قَالَ، فَبلغ
ابْنَ دُرَيْدٍ ذَلِك، فَمَا ذكره بِلَفْظَةٍ حَتَّى مَاتَ.
مِن مَوَاقِفِه وأَقْوَالِه:- كان أبو مُحَمَّد بن مَاسِي يُنفِذُ إلى أبي عُمَرَ الزَّاهِد وَقتًا بَعْد وَقتٍ كفَايتَه، مَا يُنْفِقُ عَلَى نَفْسِهِ، فَقطع ذَلِكَ عَنْهُ مُدَّةً لعُذرٍ، ثُمَّ أَنفذَ إِلَيْهِ جُمْلَةَ مَا كَانَ فِي رَسْمِه، وَكَتَبَ إِلَيْهِ يعتذرُ، فَرَدَّهُ وَأَمر أَنْ يُكْتَبَ عَلَى ظهر رُقْعته: (أَكْرَمْتَنَا فملكْتَنَا، ثُمَّ أَعْرضْتَ عَنَّا فَأَرَحْتَنَا)
.
- كان أبو عُمَرَ الزَّاهِد يَقُولُ: (تَرْكُ قَضَاء حُقُوق الإِخْوَانِ مَذَلَّةٌ، وَفِي قَضَاء حُقُوقِهم رِفْعَةٌ).
عَقيدتُه:تَتلمَذَ أبو عُمرَ على أبي العبَّاسِ ثَعلَبٍ؛ فلذلك لم يكُنْ غريبًا أنْ يَنتهِجَ نهْجَ شَيخِه في العقيدةِ واتِّباعِ مَذهَبِ السَّلفِ، واتَّضَح في مُؤلَّفاتِه ونُقولِ المؤلِّفينَ عنه صِحَّةُ اعتقادِه واتِّباعُه للسَّلفِ، فمِن ذلك قولُه: (قال أبو عبدِ اللهِ -يعني شيخَه ابنَ الأعرابيِّ-: ومنْه قولُه تعالَى:
أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ [الأعراف: 148] ، أي: عابَ العِجلَ بذلك، وهذا دليلٌ على أنَّ اللهَ يتَكَلَّمُ، وَلم يَزَلْ مُتكلِّمًا؛ لأنَّهُ لا يكونُ هوَ بصِفةِ ما عابَ)
، ونَقَل عن شَيخِه ثَعلَبٍ قولَه في تَفسيرِ قولِه تعالى:
كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين: 15] : (في هذا دَليلٌ أنَّ ثَمَّ قومًا ليْسوا بمَحجوبينَ، وهوَ بمَعْنى الخَبَرِ:
((إنَّكُم ترَوْنَ ربَّكم يومَ القِيامةِ، كمَا ترَوْنَ القَمَرَ لَيْلةَ البَدْرِ ))
.
وقال
ابنُ بطَّةَ العُكْبريُّ: (سأَلْتُ أبا عُمَرَ محمَّدَ بنَ عبدِ الواحِدِ صاحِبَ اللُّغةِ عنْ قوْلِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: (
(ضَحِكَ ربُّنَا مِن قُنوطِ عِبَادِه، وقُرْبِ غِيَرِهـ))
، فقال: الحديثُ مَعروفٌ، ورِوايَتُه سُنَّةٌ، والاعْتِراضُ بالطَّعْنِ عليهِ
بِدْعةٌ، وتَفسيرُ الضَّحِكِ تكلُّفٌ وإلْحَادٌ، أمَّا قوْلُه:
((وقُرْبِ غِيَرِهـ))، فسُرْعةُ رَحْمَتِه لكُم وتَغيِيرُ ما بكُمْ مِن ضُرٍّ)
.
وأمَّا قولُ ابنِ النَّديم: (كان نِهايةً في النَّصْبِ والمَيلِ عن علِيِّ بنِ أبي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهـ)
فلا يُقبَلُ منه؛ فإنَّ ابنَ النَّديمِ شِيعيٌّ رافضيٌّ، فلا تُقبَلُ منه تلك التُّهمةُ. وأمَّا كونُه ألَّف جُزءًا في مَناقبِ
مُعاويةَ رضي الله عنه ولم يكُنْ يُمَكِّنُ أحَدًا مِن قِراءةِ شَيءٍ عليه حتَّى يَقرَأَ ذلك الجُزءَ أوَّلًا
، فإنَّما كان نُصرةً لأصحابِ النَّبيِّ.
مُصَنَّفَاتُه:مِن مُصَنَّفَاتِه: كتاب: ((غَرِيب الحَدِيث)) -ألَّفَه على مُسنَدِ
أحمَدَ بنِ حَنبَلٍ-، وكتاب: ((فَائِت الفَصِيح))، وكتاب: ((اليَاقُوتَة))، وكتاب: ((البُيوع))، وكتاب: ((السَّاعَاتِ))، وكتاب: ((يَوْم وَليلَة))، وكتاب: ((المُسْتَحْسَن))، وكتاب: ((الشُّورَى))، وكتاب: ((تَفْسِير أَسْمَاء الشُّعرَاء))، وكتاب: ((القبَائِل))، وكتاب: ((المكنُونَ وَالمكتوم))، وكتاب: ((التُّفَاحَة)).
وَفَاتُه:تُوفِّي ببَغْدَادَ سَنةَ خمسٍ وأربعينَ وثلاثِ مِائة
.