موسوعة اللغة العربية

الفَصلُ السَّابعُ والعِشرونَ: أبو حَاتِمٍ السِّجِسْتَانيُّ (ت: 248 هـ)


أبو حَاتِمٍ سَهْلُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ عُثمانَ بنِ يَزِيدَ، الجُشَمِيُّ السِّجِسْتَانيُّ البَصْريُّ، النَّحْويُّ، اللُّغَويُّ، المُقْرِئ، صاحِبُ التصانيفِ.
مِن مشايخِه:
أبو عُبَيْدةَ مَعْمَر بن المُثَنَّى، والأصْمَعِيُّ، وأبو زَيْدٍ الأَنْصَارِيُّ، والأخفشُ، ووَهْبُ بن جَرِيرٍ، ويَزِيد بن هارونَ، وأبو عَامِر العَقَدِي، وقرأ القُرآنَ على يَعْقُوبَ الحَضْرَمِيِّ.
ومِن تَلامِذَتِه:
أبو العَبَّاسِ المُبَرِّدُ، وأبو بكرٍ مُحَمَّدُ بنُ دُرَيدٍ، وأبو داودَ، والنَّسَائِيُّ، والبَزَّارُ، وابنُ خُزَيْمَةَ.
مَنزِلتُه ومكانتُه:
كان أبو حاتمٍ رَجُلًا صَالِحًا، كثيرَ الصَّدَقةِ، والتِّلَاوةِ، كان يتصدَّقُ كلَّ يومٍ بدِينَارٍ، ويقرأُ في كلِّ أسْبُوعٍ خَتْمَةً.
وكان إمامَ جَامِعِ البَصْرةِ، عالِمًا في اللُّغةِ والنَّحْوِ، والشِّعْرِ، والعَرُوضِ، وله شِعرٌ جَيِّد، ويصيبُ المعنى.
وقد رَوَى أبو حَاتِم عِلْمَ سِيبَوَيْه عن الأَخْفَش الأَوْسَط، فقرأ كتابَ سِيبَوَيْه على الأخْفَش مرَّتينِ. وكان كثيرَ الرِّواية عن أبي زَيْدٍ، وأبي عُبَيْدةَ مَعْمَرِ بن المُثَنَّى، والأصْمَعِي.
وقيل: كان أعلَمَ النَّاسِ بالأصمعيِّ.
وكان جمَّاعةً للكُتُبِ يتَّجِرُ فيها، وكان كثيرَ تأليفِ الكُتُبِ في اللُّغةِ.
قال أَبُو العبَّاسِ المبرِّدُ: أتيتُ السِّجِسْتانيَّ وأنا حدَثٌ فرأيتُ منه بعضَ ما ينبغي أن تُهجَرَ حلقَتُه له، فتركتُه مدَّةً، ثم صِرتُ إليه وعمَّيتُ له بيتًا لهارونَ الرَّشيدِ، وكان يجيدُ استخراجَ المعَمَّى، فأجابني:
أَيَا حَسَنَ الوجْهِ قدْ جِئْتَنا
بِداهِيَةٍ عَجَبٍ فِي رَجَبْ
فَعَمَّيتَ بَيْتًا وأخْفَيْتَهُ
فلمْ يَخْفَ بلْ لاحَ مِثلَ الشُّهُبْ
فأظْهَرَ مَكْنُونَهُ الطِّيطوى [194] الطِّيطَوَى -كنِينَوَى-: ضَرْبٌ من القَطَا طِوالُ الأَرْجُلِ، أَو غيرِه من الطَّيْرِ. يُنظَر: ((تاج العروس)) (19/ 463).
وهَتَّكَ عنْه الْحَمامُ الحُجُبْ
فذَلَّلَ ما كانَ مُسْتَصْعَبًا
لَنا فَتَناوَلْتُهُ مِنْ كَثَبْ [195] أي: قَريب.
أَيَا مَنْ إذا ما دَنَوْنا لَهُ
نَأى وإذا ما نَأَيْنا اقتَرَبْ
عَذَرْناك إذْ كُنْتَ مُسْتَحْسَنًا
وبَيتُكَ ذُو الطَّيرِ بَيْتٌ عَجَبْ
سَلَامٌ على النَّازِحِ المُغْترِبْ
تَحيَّةُ صَبٍّ [196] أَي: عَاشِق مُشْتَاق. يُنظَر: ((تاج العروس)) (3/ 181). بِهِ مُكْتَئِبْ
عَقيدتُه:
لم تذكُرْ كُتُبُ التَّراجِمِ عَقيدةَ أبي حاتِمٍ، غَيرَ أنَّها ذكَرَت صلاحَه وتَقواه؛ فقد كان رَجُلًا صَالِحًا، كثيرَ الصَّدَقةِ، والتِّلَاوةِ، كان يتصدَّقُ كلَّ يومٍ بدِينَارٍ، ويقرأُ في كلِّ أسْبُوعٍ خَتْمَةً، وكان يُقيمُ اللَّيلَ كُلَّه.
وقد ذُكِرَ أنَّه كان فيه بَعضُ المُزاحِ والدِّعابةِ التي كانت عند الأُدَباءِ، وكان يُتَّهَمُ بالنَّظَرِ إلى الغِلْمانِ، غَيرَ أنَّه كان عفيفًا لا يميلُ إلى حرامٍ [197] ينظر: ((وفيات الأعيان)) لابن خلكان (2/ 431)، ((معجم الأدباء = إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب)) لياقوت الحموي (3/ 1407). .
وانفرَدَ أبو الطَّيِّبِ اللُّغويُّ بأنَّه كان مُعتزِليًّا يُضمِرُ الاعتزالَ ويُظهِرُ محبَّةَ أهلِ الحديثِ، واستَدلَّ بقِصَّةٍ رَواها مُسنَدةً، وهي أنَّ رجلًا مِن أصحابِ الحديثِ جاء أبا حاتمٍ، فقال له: يا أبا حاتمٍ، إنِّي سائلُكَ عن ثلاثٍ، وجاعلٌ جَوابَك على طَبَقٍ أدورُ به على أصحابِ الحديثِ، فقال: هاتِ، قال: ما مَعنى قولِ اللهِ جلَّ وعزَّ: إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى [البقرة: 34] ؟ وما الإباءُ في كلامِ العرَبِ؟ قال: القدرةُ على الشَّيءِ والتَّركُ له مِن غيرِ عَجزٍ، قال: وما معنى قولِه: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة: 22، 23]؟ هل يكونُ الناظرُ في كَلامِ العربِ بغيرِ مَعنى الرَّائي؟ قال: نعمْ، يكونُ بمعنى الانتظارِ، أمَا سَمِعتَ قولَه تعالى: فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة: 280]. قال: فأخبِرْني عن هذا الاسمِ: القَدَريَّةِ، يَلزَمُنا أم يَلزَمُهم؟ قال: فأدْلى رأْسَه، وقال: بل يَلزَمُنا، ولكنَّا نُكابِرُ، كما أنَّ مَن يَبِيعُ السَّمَكَ يُقالُ له: سَمَّاكٌ) [198] ينظر: ((مراتب النحويين)) لأبي الطيب اللغوي (ص: 95). .
ويُضافُ إلى هذا أنَّه تَتلمَذَ على يَدَي الأخفَشِ وأبي زَيدٍ الأنصاريِّ، والأولُ مُعتزِليٌّ، والثَّاني قَدَريٌّ.
إلَّا أنَّه ذمَّ الأخفشَ بقولِه: (كان الأخفَشُ قَدَريًّا، رجُلَ سوءٍ، كِتابُه في المعاني صُوَيلِحٌ، وفيه أشياءُ في القَدَرِ) [199] ينظر: ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (10/ 207). ، فكيف يَذُمُّه بشَيءٍ يَعتقِدُه هو، اللَّهُمَّ إلَّا أنْ يكونَ ذلك مِن بابِ إظهارِ العصَبيَّةِ لأهلِ السُّنَّةِ وإضمارِ الاعتزالِ. واللهُ أعلَمُ.
لكنْ قال أبو المظَفَّرِ الإسْفِرايِينيُّ: (وكذلك لم يكُنْ في أئِمَّةِ الأدَبِ أحَدٌ إلَّا وله إنكارٌ على أهلِ البِدعةِ شَديدٌ، وبُعْدٌ مِن بِدَعِهم بعيدٌ، مِثْلُ: الخَليلِ بنِ أحمَدَ، ويُونُسَ بنِ حَبيبٍ، وسِيبَوَيهِ، والأخفَشِ، والزَّجَّاجِ، والمُبَرِّدِ، وأبي حاتِمٍ السِّجِسْتانيِّ، وابنِ دُرَيدٍ، والأزهَريِّ، وابنِ فارِسٍ، والفارابيِّ، وكذلك مَن كان مِن أئمَّةِ النَّحْوِ واللُّغةِ، مِثْلُ: الكِسائيِّ، والفَرَّاءِ، والأصمَعيِّ، وأبي زَيدٍ الأنصاريِّ، وأبي عُبَيدةَ، وأبي عَمرٍو الشَّيبانيِّ، وأبي عُبَيدٍ القاسِمِ بنِ سَلامٍ. وما منهم أحَدٌ إلَّا وله في تصانيفِه تَعَصُّبٌ لأهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ، وردٌّ على أهلِ الإلحادِ والبِدعةِ) [200] ينظر: ((التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية عن الفرق الهالكين)) للإسفراييني (ص: 188). .
مُصنَّفاتُه:
له نَيِّفٌ وثلاثون كتابًا؛ مِنها: ((إعراب القُرآنِ))، و((ما يَلْحَنُ فيه العامَّةُ))، و((القِراءات))، و((المذَكَّر والمؤَنَّث))، و((المقصور والممدود))، و((المقاطِعُ والمبادي))، و((الفصاحة)).
وفاتُه:
تُوفِّي رحمه الله بالبَصرةِ سَنةَ خمسٍ وخمسينَ ومِائَتَينِ، وقيل: سَنةَ خمسينَ ومِائَتَينِ، وقيل: سَنةَ ثمانٍ وأربعينَ ومِائَتَينِ [201] يُنظَر: ((الثقات)) لابن حبان (8/ 293)، ((طبقات النحويين واللغويين)) لمحمد بن الحسن الزُّبَيدي (ص 94)، ((معجم الأدباء)) لياقوت الحَمَوي (3/ 1406)، ((إنباه الرواة)) للقِفْطي (2/ 58)، ((وفيات الأعيان)) (2/ 430)، ((تاريخ الإسلام)) للذهبي (6/ 95)، ((البداية والنهاية)) لابن كثير (14/ 460)، ((البلغة في تراجم أئمة النحو واللغة)) للفيروزابادي (ص 151)، ((بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة)) للسيوطي (2/ 373). .

انظر أيضا: