موسوعة اللغة العربية

الفَصْلُ العاشِرُ: قِصَّةُ التَّعْريبِ


الاحْتِكاكُ بيْنَ اللُّغاتِ ضَرورةٌ تاريخيَّةٌ كالاحْتِكاكِ بيْنَ الشُّعوبِ، فكما تَقْترِضُ الشُّعوبُ مَظاهِرَ الثَّقافةِ تَقْترِضُ أيضًا المُفرَداتِ الَّتي تُعبِّرُ عن هذه المَظاهِرِ، وثَمَّةَ عَوامِلُ مُتَعدِّدةٌ تُؤثِّرُ في وُقوعِ الاحْتِكاكِ بيْنَ اللُّغاتِ، مِنها العَوامِلُ الاقْتِصاديَّةُ والسِّياسيَّةُ والعِرْقيَّةُ، ولا شَكَّ أنَّ المُجْتمَعاتِ الأكْثَرَ تَحضُّرًا وقوَّةً تَفرِضُ تَأثيرَها اللُّغويَّ على المُجْتمَعاتِ الأقَلِّ تَحَضُّرًا وقُوَّةً، والعَربُ -كأيِّ شَعْبٍ- خَضَعَتْ لُغتُهم لتَأثيراتِ لُغاتِ الشُّعوبِ المُجاوِرةِ لهم؛ مِن فارِسيَّةٍ ويونانيَّةٍ ولاتينيَّةٍ، وبجانِبِ القوَّةِ والتَّحضُّرِ ثَمَّةَ عَوامِلُ أُخرى تَلعَبُ دَوْرًا كَبيرًا في التَّأثيراتِ بيْنَ اللُّغاتِ، مِن أهَمِّها: العَلاقةُ العائِليَّةُ بيْنَ اللُّغتَينِ؛ لِذا نَرى أنَّ تَأثيرَ اللُّغةِ الآراميَّةِ والحَبَشيَّةِ -وهي لُغاتٌ ساميَّةٌ -في العَربيَّةِ، وهي لُغةٌ ساميَّةٌ- أقْوى مِن تَأثيرِ اليونانيَّةِ واللَّاتينيَّةِ؛ لأنَّهما مِن عائِلةِ اللُّغاتِ الهِنْديَّةِ الأوْروبِّيَّةِ [257] يُنظر: ((التَّعْريب في القديم والحديث)) لمحمد حسن عبد العزيز (ص: 9، 10). .
فالعامِلُ الرَّئيسُ في دُخولِ تلك المُفرَداتِ إلى اللُّغةِ العَربيَّةِ هو الاحْتِكاكُ المادِيُّ والسِّياسيُّ والثَّقافيُّ بالأُمَمِ والشُّعوبِ الأُخرى، وما أدَّى إليه هذا الاحْتِكاكُ مِن ظُهورِ مُسْتحدَثاتٍ لم يكنِ العَربُ على عِلمٍ بها، وليس في لُغتِهم ما يُعبِّرُ عنها؛ فقدِ احْتَكَّ العَربُ بجيرانِهم الآراميِّينَ في الشَّمالِ عن طَريقِ التِّجارةِ والهِجْرةِ والرِّحْلاتِ، وامْتِزاجِ بعضِ القَبائِلِ الآراميَّةِ بالعالَمِ العَربيِّ، واقْتَبَسوا مِنهم أمورًا لم تَكُنْ مَألوفةً في بيئتِهم ممَّا يَتَّصِلُ بمُنْتَجاتِ الصِّناعةِ وشُؤونِ التَّفْكيرِ الفَلْسفيِّ وما وَراءَ الطَّبيعةِ.
واحْتَكَّ العَربُ بجيرانِهم اليَمَنيِّينَ في الجَنوبِ؛ فقدْ كانَتِ العَلاقاتُ الثَّقافيَّةُ والاقْتِصاديَّةُ والدِّينيَّةُ أقْوى ما تكونُ بيْنَ الشَّعْبَينِ، وقدْ هاجَرَتْ مُنْذُ القِدَمِ كَثيرٌ مِن القَبائِلِ اليَمَنيَّةِ، كقَبائِلِ خُزاعةَ والأوْسِ والخَزْرَجِ، وامْتَزَجوا بالعَربِ أشَدَّ الامْتِزاجِ، وكانَتِ الرِّحْلاتُ العَربيَّةُ إلى بِلادِ اليَمَنِ للتِّجارةِ وغيْرِها مُسْتمِرَّةً على مَدارِ العامِ.
وقدِ احْتَكَّ العَربُ –لا سيَّما عَرَبِ الجَنوبِ- بالأحْباشِ، وجَمَعَتْ بيْنَهما رَوابِطُ وَثيقةٌ في مَيادينِ السِّياسةِ والاقْتِصادِ والثَّقافةِ، فانْتَقَلَتْ مُفرَداتٌ كَثيرةٌ مِن الحَبَشيَّةِ إلى العَربيَّةِ.
ثُمَّ إنَّ الفُتوحاتِ الإسْلاميَّةَ بعْدَ ظُهورِ الإسْلامِ أدَّتْ إلى امْتِزاجِ العَربِ بكَثيرٍ مِن الشُّعوبِ الَّتي دَخَلَتْ في الإسْلامِ وفي حُكْمِ العَربِ، وقدْ أدَّى ذلك إلى انْتِقالِ كَثيرٍ مِن المُفرَداتِ في مُخْتلِفِ المَيادينِ مِن مُخْتلِفِ اللُّغاتِ الَّتي احْتَكَّ العَربُ بأصْحابِها؛ مِن فارِسيَّةٍ وسُرْيانيَّةٍ، ويونانيَّةٍ وقِبْطيَّةٍ، وبَرْبَريَّةٍ وقُوطيَّةٍ، وتُرْكيَّةٍ وكُرْديَّةٍ.
ثُمَّ أُتيحَ للُّغةِ العَربيَّةِ الاحْتِكاكُ باللُّغاتِ الأوْروبيَّةِ الحَديثةِ في الحُروبِ الصَّليبيَّةِ، وفي العُصورِ الحَديثةِ كَثُرَتْ فُرَصُ الاحْتِكاكِ وتَنَوَّعَتْ أسْبابُه؛ للعَلاقاتِ الوَثيقةِ بيْنَ أوْروبَّا والشُّعوبِ العَربيَّةِ، وتَبادُلِ البَعَثاتِ العِلْميَّةِ، وكَثْرةِ عَدَدِ الجالِياتِ الأوْروبيَّةِ في الشَّرْقِ، وتَرْجمةِ مُنْتَجاتِ الغَرْبِ إلى اللُّغةِ العَربيَّةِ؛ فانْتَقَلَ للعَربيَّةِ ولَهَجاتِها العامِّيَّةِ كَثيرٌ مِن مُفرَداتِ اللُّغاتِ الأوْروبِّيَّةِ في شُؤونِ السِّياسةِ والاجْتِماعِ ومُنْتَجاتِ الصِّناعةِ ومُصْطلَحاتِ العُلومِ والفُنونِ [258] يُنظر: ((فقه اللُّغة)) لعليِّ عبد الواحد وافي (ص: 153 – 155). .

انظر أيضا: