موسوعة اللغة العربية

المَبحَثُ السَّادِسُ: علاقتُه بعِلمِ الأصواتِ


يَهدُفُ عِلمُ الصَّوتيَّاتِ -من خلالِ دراستِه لأصواتِ اللُّغةِ من كُلِّ جوانبِها- إلى تقنينِ أداءِ اللُّغةِ وَفْقَ النِّظامِ العامِّ لهذه اللُّغةِ؛ فعِلمُ أصواتِ العربيَّةِ يسعى إلى تحديدِ النِّظامِ الذي تؤدَّى به اللُّغةُ العَرَبيَّةُ الفُصحى وَفْقَ الذَّوقِ العَرَبيِّ السَّليمِ، وذلك من أجْلِ أن يتحَقَّقَ للعربيَّةِ سلامتُها من اللَّحنِ والخطَأِ، فيكونُ تعبيرُها عن المعاني تعبيرًا دقيقًا لا نَقْصَ فيه [353] يُنظَر: ((علم التجويد القرآني في ضوء الدراسات الصوتية الحديثة)) عبد العزيز أحمد علام (ص: 23). . والأداءُ باعتبارِه مُصطَلَحًا صوتيًّا فهو الصُّورةُ النُّطقيَّةُ التي تأتي عليها اللُّغةُ المنطوقةُ بأصواتِها وكَلِماتِها وجُمَلِها، ويتكوَّنُ الأداءُ من تتابُعِ خَطِّ الشِّدَّةِ للأصواتِ والكَلِماتِ في الجملةِ، وكذلك من تتابُعِ دَرَجةِ النَّغْمةِ في الجُملةِ، وأيضًا من تتابُعِ خَطِّ الكَمِّ الزَّمَنيِّ للأصواتِ أو خَطِّ الطُّولِ للأصواتِ والمقاطِعِ في الجملةِ، إضافةً إلى أنواعِ السُّرعةِ التي يَتِمُّ بها نُطقُ الكَلِماتِ والجُمَلِ، وهو ما يُعرَفُ بالتَّزمينِ، وأيضًا خَطِّ اللَّونِ للأصواتِ، ونظامِ الوَقَفاتِ من حيثُ عَدَدُها وحَجمُها في الكلامِ، ومن الإيقاعِ [354] يُنظَر: ((علم التجويد القرآني في ضوء الدراسات الصوتية الحديثة)) عبد العزيز أحمد علام (ص: 23). . والأداءُ يختَلِفُ في الفَنِّ الواحِدِ من فنونِ القَولِ باختلافِ الحالةِ النَّفسيَّةِ للمتكَلِّمِ، التي تختَلِفُ باختلافِ شَخصيَّةِ المتكَلِّمِ، والتي تختَلِفُ باختلافِ نوعِ الجملةِ؛ فأداءُ جملةِ الاستفهامِ يختَلِفُ عن أداءِ جملةِ الإخبارِ، كما يختَلِفُ عن أداءِ جملةِ التعَجُّبِ، وهكذا [355] يُنظَر: ((علم التجويد القرآني في ضوء الدراسات الصوتية الحديثة)) عبد العزيز أحمد علام (ص: 24). .
وبهذا المستوى نَفْسِه تكونُ تلاوةُ القرآنِ الكريمِ وتجويدُه؛ فالتِّلاوةُ للقُرآنِ كالأداءِ بالنِّسبةِ للُّغةِ [356] يُنظَر: ((علم التجويد القرآني في ضوء الدراسات الصوتية الحديثة)) عبد العزيز أحمد علام (ص: 25). ، ولَمَّا كان التجويدُ القُرآنيُّ مهتَمًّا بالأداءِ والتِّلاوةِ للقرآنِ؛ فهنا يظهَرُ الارتباطُ الشَّديدُ بَينَ عِلمِ الأصواتِ وعِلمِ التجويدِ؛ إذ إنَّ عِلمَ الأصواتِ يقومُ بدراسةِ الصَّوتِ اللُّغَويِّ بصفةٍ عامَّةٍ، أمَّا التجويدُ فإنَّه يختَصُّ بالصَّوتِ القرآنيِّ فقط، كما أنَّه مختَصٌّ بالنَّواحي الأدائيَّةِ، بخلافِ عِلمِ الأصواتِ الذي يتناوَلُ الأداءَ وغَيرَه، وهكذا يلاحَظُ أنَّ عِلمَ الأصواتِ أعَمُّ وأشمَلُ من عِلمِ التجويدِ [357] يُنظَر: ((المدخل إلى علم الأصوات العربية وفن التجويد)) أحمد علي محمود ربيع (ص: 108). .
إنَّ دراسةَ عُلَماءِ التجويدِ للأصواتِ ارتبطت بشَكلٍ أساسيٍّ بدراسةِ مُعالجةِ ما سمَّوه باللَّحنِ الخَفيِّ، وقد قَسَّموا اللَّحنَ إلى قِسمَينِ، هما: اللَّحنُ الجَليُّ واللَّحنُ الخَفيُّ. واللَّحنُ الجَليُّ: هو ما يتعلَّقُ بالخطَأِ الظَّاهِرِ في الحرَكاتِ بشكلٍ خاصٍّ، وكانوا يَرَون أنَّ هذا اللَّحنَ هو مَيدانُ وعَمَلُ النُّحاةِ والصَّرفيِّين. واللَّحنُ الخَفيُّ: هو ما يطرأُ على الأصواتِ من خَلَلٍ؛ وذلك بسَبَبِ عَدَمِ توفيتِها حقوقَها من المخارجِ أو الصِّفاتِ، أو ما يطرَأُ لها من أحكامٍ عندَ تركيبِها في الكلامِ المنطوقِ، وهذا هو مَيدانُ عَمَلِ عُلَماءِ التجويدِ. وعناصِرُ عِلمِ التجويدِ الأساسيَّةُ متمَثِّلةٌ في: مخارِجِ الحُروفِ، وصفاتِها، وأحكامِها التَّركيبيَّةِ [358] يُنظَر: ((الدراسات الصوتية عند علماء التجويد)) الحمد غانم قدوري (ص: 50). . (ويتَّضِحُ أنَّ ملاحظةَ اللَّحنِ الخَفيِّ في قراءةِ القرآنِ، ومحاولةَ معالجتِها وتصحيحِ النُّطقِ بها: كانت السَّبَبَ الذي يَقِفُ وراءَ الدِّراساتِ الصَّوتيَّةِ عِندَ عُلَماءِ التجويدِ، وأنَّهم درسوا أصواتَ اللُّغةِ وحَدَّدوا صُوَرَ نُطقِها الصَّحيحةَ، ورصَدوا الانحرافاتِ المتوقَّعةَ في نُطقِها ممَّا سمَّوه باللَّحنِ الخَفيِّ؛ ليتحَرَّزَ النَّاطِقُ منها ويجتَنِبَها، وقد تحقَّقت لعُلَماءِ التجويدِ بذلك فرصةٌ لدراسةِ أصواتِ العربيَّةِ دراسةً شاملةً لم تتحَقَّقْ للنُّحاةِ الذين كانت تَشغَلُهم دراسةُ الأصواتِ لمعالجةِ بعضِ القضايا الصَّرفيَّةِ) [359] يُنظَر: ((الدراسات الصوتية عند علماء التجويد)) الحمد غانم قدوري (ص: 55- 56) بتصرف يسير. .
ويتمَيَّزُ منهَجُ عُلَماءِ التجويدِ -أي: طريقتُهم في دراسةِ الأصواتِ اللُّغَويَّةِ- بأنَّه منهَجٌ شامِلٌ لتناوُلِ جميعِ المباحِثِ المتعَلِّقةِ بعِلمِ الأصواتِ النُّطقيِّ، إضافةً إلى أنَّه منهَجٌ صوتيٌّ خالِصٌ لم يحصُلْ للدِّراسةِ الصَّوتيَّةِ فيه الاختِلاطُ بما عداها من الموضوعاتِ [360] يُنظَر: ((الدراسات الصوتية عند علماء التجويد)) الحمد غانم قدوري (ص: 50). . وشُموليَّةُ مَنهَجِ عُلَماءِ التجويدِ للمباحِثِ الصَّوتيَّةِ يظهَرُ في المنهَجِ الذي لخَّصه المُراديُّ؛ إذ قال: اعلَمْ أنَّ تجويدَ القراءةِ يتوقَّفُ على أربعةِ أمورٍ؛ أحدُها: معرفةُ مخارجِ الحروفِ، والثَّاني: معرفةُ صفاتِها، والثَّالثُ: معرفةُ ما يتجَدَّدُ لها بسَبَبِ ذلك التركيبِ من الأحكامِ، والرَّابعُ: رياضةُ اللِّسانِ بذلك وكثرةُ التَّكرارِ. وأصلُ ذلك كُلِّه تلَقِّيه من أُولي الإتقانِ وأخْذُه عن العُلَماءِ بهذا الشَّأنِ [361] يُنظَر: ((المفيد في شرح عمدة المجيد)) حسن بن قاسم المرادي (ص: 57). . وقال د. الحَمَد: قد تضَمَّنَ النَّصُّ السَّابِقُ إلى جانبِ الأمورِ الأربعةِ الإشارةَ إلى أمرَينِ مُهِمَّينِ في تعليمِ الأصواتِ وسلامةِ النُّطقِ؛ الأوَّلُ: التلَقِّي عن المعَلِّمِ المتقِنِ، والثَّاني: السَّلامةُ من عيوبِ الكلامِ، مع صِحَّةِ أعضاءِ النُّطقِ [362] يُنظَر: ((الدراسات الصوتية عند علماء التجويد)) الحمد غانم قدوري (ص: 61). .
ولم يكُنِ المُراديُّ هو أوَّلَ من حَدَّد هذا الإطارَ للدِّراسةِ الصَّوتيَّةِ عند عُلَماءِ التجويدِ، ولا آخِرَ من تحدَّث عنه، ولكِنَّه أوَّلُ من حدَّده على هذا النَّحوِ من الوضوحِ، وقد قال في كتابٍ آخَرَ عن الأمرَينِ الأوَّلينِ: اعلَموا أنَّ قُطبَ التجويدِ ومِلاكَ التحقيقِ مَعرفةُ مخارجِ الحُروفِ وصِفاتِها التي بها ينفَصِلُ بعضُها من بعضٍ، وإن اشتَرَك في المَخرَجِ [363] يُنظَر: ((التحديد في الإتقان والتجويد)) عثمان بن سعيد الداني (ص: 102). .
ويقولُ أبو العلا الهَمذانيُّ: البابُ الثَّامِنُ في معرفةِ أسماءِ الحُروفِ ومخارِجِها ومجارِيها ومدارِجِها، ومُستَحسَنِ فُروعِها ومُستَقبَحِها. اعلَمْ أنَّ هذا البابَ من أشرَفِ أُصولِ القراءةِ، وأهمِّ فُصولِ التِّلاوةِ؛ وذلك أنَّ الحروفَ أصلُ الكلامِ كُلِّه، وعليها مدارُ تأليفِه، ثمَّ من يقرَأُ القرآنَ ويتعاطى هذا الشَّأنَ متى ما لم يُتقِنْ مخارِجَ الحُروفِ وأجناسَها لم يَقِفْ على الخَلَلِ الواقِعِ فيها، ولم يهتَدِ إلى تجويدِ القراءةِ وتهذيبِها، وكان كمَن رام قَطْعَ تِيهٍ بلا دليلٍ وإصعادَ قُنَّةِ نِيقٍ بغيرِ ما سَبيلٍ، فإذا عَرَف الحروفَ وأتقنَها، ولاحَظَ أجناسَها وأحكَمَها، ثمَّ انضاف إلى ذلك طَبعٌ يتقَبَّلُ هذا الشَّأنَ، ويمتَزِجُ به- أشفى به ذلك على القراءةِ الصَّحيحةِ والألفاظِ القويمةِ بعَونِ اللهِ ومَنِّه [364] يُنظَر: ((الدراسات الصوتية عند علماء التجويد)) الحمد غانم قدوري (ص: 50). .

انظر أيضا: