موسوعة اللغة العربية

المبحث الثَّالِثُ: هل يَصلُحُ المَنطِقُ للدِّراساتِ اللُّغويَّةِ؟


ومِن المُهِمِّ أيضًا بَيانُ أنَّ الفَلْسفةَ اللُّغويَّةَ لا تَقومُ على أساسٍ مَنْطقيٍّ أو عَقليٍّ، وتاريخُ الدِّراساتِ اللُّغويَّةِ خَيرُ شاهِدٍ على عَدَمِ صَلاحيَّةِ المَنطِقِ أساسًا للدِّراسةِ اللُّغويَّةِ؛ فالمَنطِقُ لا يُمكِّنُ مِن تَفْسيرِ كَثيرٍ مِنَ الظَّواهِرِ اللُّغويَّةِ، أو هو قد يُفسِّرُها بطَريقِ التَّعنُّتِ والتَّعسُّفِ، وسَبيلِ التَّأويلِ والتَّعْقيدِ، أو قد يُؤدِّي إلى الاسْتِغراقِ في الجِدالِ في مَسائِلَ لا طائِلَ مِن وَرائِها، أو مِن وراءِ الجِدالِ فيها.
ووَصْلُ النَّحْوِ بالمَنطِقِ يَرجِعُ إلى اليُونانِ؛ فالرواقيُّون أنْصارُ زِينون الَّذين كانوا يَرُدُّون كلَّ شيءٍ إلى المَنطِقِ، رأَوا أنَّ النَّحْوَ يَنْبغي أنْ يُطابِقَ المَنطِقَ، وأنَّ الأقْسامَ: categories النَّحويَّةَ يَنْبغي أنْ تُطابِقَ الأقْسامَ المَنطِقيَّةَ؛ ففي رأيِهم مَثلًا أنَّ هناك تَوافُقًا بَينَ عَلامةِ الجَمْعِ وبَينَ فِكرةِ التَّعدُّدِ، هؤلاءِ أصْحابُ قِياسٍ، ردَّ عليهم مِن مُعاصِريهم مَنْ يُدخِلون في حِسابِهم ما يُشاهَدُ في اللُّغةِ من شُذوذٍ، فقالوا: قد تدُلُّ الكَلِمةُ الجَمْعُ على مُفرَدٍ [142] يُنظَر: ((علم اللغة مقدمة للقارئ العَربي)) لمحمود السعران (ص: 66)، نقلًا عن كتاب ((اللغة)) لبلومفيلد. .
كما ردُّوا على أصْحابِ القِياسِ: Analogists في مَسألَةٍ أخرى هي العَلاقةُ بَينَ الجِنْسِ في اللُّغةِ والجِنْسِ في الواقِعِ، فقالوا: إنَّ التَّقْسيمَ النَّحْويَّ إلى مُذكَّرٍ ومُؤنَّثٍ، وما بَينَ المُذكَّرِ والمُؤنَّثِ؛ الوَسَطِ، المُحايِدِ... لا يُطابِقُ التَّذْكيرَ والتَّأنيثَ وما بينَهما في الواقِعِ الطَّبيعيِّ، واسْتَنتجوا مِن ذلك أنَّه ليس ثَمَّةَ تَطابُقٌ لازِمٌ بَينَ اللُّغةِ والواقِعِ: Anomalists، وقد عُرِف هؤلاء الأخيرون بأنَّهم أصْحابُ التَّشْذيذِ أو المُشذِّذون [143] يُنظَر: ((علم اللغة مقدمة للقارئ العَربي)) لمحمود السعران (ص: 67). .
ومِنَ الأمْثِلةِ العَربيَّةِ الَّتي تُبيِّنُ أنَّه ليس ثَمَّةَ تَطابُقٌ لازِمٌ بَينَ اللُّغةِ والواقِعِ: أنَّ اللُّغةَ العَربيَّةَ تُعامِلُ كَلِماتٍ في المُفرَدِ مُعامَلةَ المُذكَّرِ، في حِينِ تُعامِلُ جَمْعَ هذه الكَلِماتِ نفْسِها مُعامَلةَ المُؤنَّثِ؛ مِن هذا: كِتاب وحمَّام، وقَلَم؛ فكلٌّ مِن هذه مُذكَّرٌ، في حِينِ أنَّ جَمْعَ كلٍّ منها -وهو كُتُبٌ وحمَّاماتٌ وأقْلامٌ- يُعامَلُ مُعامَلةَ المُؤنَّثِ، وكَلِمةُ رَجُلٍ نفْسُها تُجمَعُ على رِجالٍ، ومِن صُوَرِ جَمْعِها رِجالاتٌ، والصُّوَرةُ اللُّغويَّةُ لكَلِمةِ رِجالات هي صُورةُ جَمْعِ المُؤنَّثِ، ولو كان التَّطابُقُ بَينَ اللُّغةِ والواقِعِ لازِمًا لاتَّفقتِ اللُّغاتُ جَميعًا في تَقْسيمِ الأسْماءِ من حيثُ الجِنْسُ، ولكنْ نَجدُ أنَّ مِنَ اللُّغاتِ، كالعَربيَّةِ، ما يَكْتفي بتَقْسيمِ الاسمِ من حيثُ الجِنْسُ قِسمَةً ثُنائيَّةً ليس غيرُ؛ إلى مُذكَّرٍ ومُؤنَّثٍ، ومنها كاليُونانيَّةِ ما يُقسِّمُه إلى ثُلاثيَّةٍ؛ إلى مُذكَّرٍ ومُؤنَّثٍ ومُحايِدٍ، كما نَجدُ أنَّ أسْماءَ الذَّواتِ لا تَتطابَقُ في اللُّغاتِ جَميعًا مِن حيثُ الجِنْسُ، وأوضَحُ مِثالٍ على ذلك القَمَرُ والشَّمسُ؛ فالقَمَرُ مُذكَّرٌ في العَربيَّةِ مُؤنَّثٌ في الفَرنسيَّةِ، والشَّمْسُ مُؤنَّثةٌ في العَربيَّةِ مُذكَّرةٌ في الفَرنسيَّةِ.
فهذه أمْثِلةٌ شاهِدةٌ بفَسادِ الاعْتِمادِ على أصْلٍ مَنطِقيٍّ أو عقليٍّ في إقامَةِ الفَلْسفةِ اللُّغويَّةِ، وأوَّلُ ما يَعرِضُ مِن ذلك هو الصِّلةُ بَينَ النَّحْوِ والمَنطِقِ، هذه الصِّلةُ الَّتي كان يَراها القُدَماءُ صِلةً طَبيعيَّةً أو لازِمةً أو -كما نقولُ- صِلةً مَنطِقيَّةً [144] يُنظَر: ((علم اللغة مقدمة للقارئ العَربي)) لمحمود السعران (ص: 67). .

انظر أيضا: