موسوعة اللغة العربية

المبحث الثَّامِنُ: قَضايا البَحْثِ في عِلمِ اللُّغةِ


إذا كانت أصْواتُ اللُّغاتِ تَبْدو لأوَّلِ وَهْلةٍ مُختلِفةً مُتَنافِرةً، فإنَّ كلَّ أصْواتِ اللُّغاتِ تَصدُرُ مِنَ الجِهازِ الصَّوتيِّ الإنْسانيِّ، وهو مُشترَكٌ عند كلِّ البَشَرِ؛ ولِذا فهناك أصْواتٌ كَثيرةٌ تَتكرَّرُ في أكْثرِ اللُّغاتِ. وهناك وَسائِلُ مُحدَّدةٌ تَتوسَّلُ بها اللُّغاتُ المُختلِفةُ للتَّمييزِ بين أصْواتِها. فالتَّعرُّفُ على هذه الجَوانِبِ، والاسْتِفادةُ مِن خِبْراتِ الباحِثينَ في اللُّغاتِ المُختلِفةِ لوَضْعِ نَظريَّةٍ شامِلةٍ في بِنْيةِ اللُّغةِ- ممَّا يَدخُلُ في عِلمِ اللُّغةِ العامِّ، فهناك وَسائِلُ مُحدَّدةٌ تَتَّبِعُها اللُّغاتُ المُختلِفةُ للتَّمييزِ بين الكَلماتِ في جُمَلٍ لأداءِ المَعاني المُختلِفةِ. فكلُّ اللُّغاتِ مَثلًا بها جُمَلٌ شَرْطيَّةٌ، وجُملٌ اسْتِفهاميَّةٌ إلخ... والتَّعرُّفُ على هذه الوَسائِلِ وعلى مَنهَجِ تَحْليلِ اللُّغةِ مِن هذه الجَوانِبِ جُزءٌ مِن عِلمِ اللُّغةِ العامِّ. وهناك مَعاجِمُ كَثيرةٌ أُلِّفتْ لِلُغاتٍ مُختلِفةٍ، بَلوَرتْ في أثْناءِ إعْدادِها مَناهِجَ دَقيقةً في العمَلِ المُعْجميِّ، وهذه الأسُسُ المَنهَجيَّةُ النَّاجِمةُ عنِ العَمَلِ التَّطبيقيِّ جُزءٌ مِن عِلمِ اللُّغةِ العامِّ.
وفضْلًا عن هذا يَهتمُّ عِلمُ اللُّغةِ العامُّ ببَيانِ طَبيعةِ العَلاقاتِ المُؤَثِّرةِ في حَياةِ اللُّغةِ في المُجْتمَعاتِ الإنْسانيَّةِ [32] يُنظَر: ((علم اللغة العربية)) لمحمود فهمي حجازي (ص: 45). وقد أشار إلى الدِّراسات الأجنبية الآتية: J.A Fishman, Ch. A. Ferguson. J.D. Gupta, Language Problems of Developing Nations New York 1964 J.D Gupta, Language Conflict and National Development, Unitersity of California press 1970. ؛ فاللُّغةُ لا تَعيشُ في فَراغٍ، بل لا بُدَّ لها مِن جَماعةٍ تَسْتخدِمُها حتَّى تُصبِحَ لُغةً، وهنا يَهدُفُ عِلمُ اللُّغةِ العامُّ إلى إيضاحِ الجَوانِبِ الحَضاريَّةِ المُختلِفةِ الَّتي تُؤثِّرُ في حَياةِ اللُّغةِ، ويُحاوِلُ إيضاحَ عَوامِلِ انْتِشارِ اللُّغاتِ ومَوتِها، وعَوامِلِ التَّجديدِ اللُّغويِّ، ومُشْكلاتِ الازْدِواجِ اللُّغويِّ، وغيرِ ذلك مِنَ المُشْكلاتِ الَّتي تَتكرَّرُ في مَجْموعاتٍ إنْسانيَّةٍ مُختلِفةٍ. إنَّ كلَّ بَحْثٍ دَقيقٍ يُعَدُّ حول بِنْيةِ أيِّ لُغةٍ أو وَظائِفِها في المُجْتمَعِ هو بَحْثٌ يُفيدُ عِلمَ اللُّغةِ العامَّ؛ ولِذلك تَتطوَّرُ النَّظريَّةُ العامَّةُ لِلُّغةِ ولمَناهِجِ بَحْثِها بتَطوُّرِ الأبْحاثِ الجُزئيَّةِ في اللُّغاتِ واللَّهَجاتِ المُختلِفةِ.
إنَّ عِلمَ اللُّغةِ الحَديثَ يُحاوِلُ -بتَطويرِ مَناهِجِه وبالإصْرارِ على الدِّقَّةِ العِلميَّةِ- أنْ يَصِلَ إلى نَتائِجَ دَقيقةٍ؛ ولِذلك اسْتُبعدتْ مِنَ البَحْثِ في اللُّغةِ تلك المَوضوعاتُ الَّتي لا يُمكِنُ بَحْثُها بمَناهِجَ دَقيقةٍ. وأشْهَرُ هذه المَوضوعاتِ نَشْأةُ اللُّغةِ، ومَرجِعُ الاهْتِمامِ القَديمِ بِهذا المَوضوعِ إلى الدِّينِ؛ فقد تَكوَّنتْ عند الجَماعاتِ الدِّينيَّةِ المُختلِفةِ آراء راسِخةٌ نِسْبيًّا حول نَشْأةِ اللُّغةِ الإنْسانيَّةِ، فاليَهودُ يُصِرُّون على كونِها هي العِبْريَّةَ، ومَسيحيُّو الشَّرقِ يَجْعلونها السُّريانيَّةَ، وحار المُؤلِّفون العَربُ بين جعْلِها العَربيَّةَ أوِ السُّريانيَّةَ [33] يُنظَر: ((المزهر في علوم اللغة)) للسيوطي (1/ 30-35). .
وإذا كان المُفكِّرُ العَربيُّ ابنُ حَزْمٍ قد وجَد أنَّه مِنَ العَبَثِ التَّفكيرُ في اللُّغةِ الأُولى عند الإنْسانِ، ونِسْبتُها إلى الدِّينِ دون دَليلٍ [34] يُنظَر: ((الإحكام في أصول الأحكام)) لابن حزم (1/ 30). ؛ فإنَّ عِلمَ اللُّغةِ الحَديثَ لا يَتناوَلُ البَحْثَ في قَضيَّةِ نَشْأةِ اللُّغةِ الإنْسانيَّةِ لعَدَمِ وُجودِ مَنهَجٍ عِلميٍّ لبَحْثِ ذلك. لقد حاوَلَ بعضُ الباحِثينَ في القَرْنِ الماضي إعادَةَ تَكْوينِ عَددٍ مِنَ اللُّغاتِ المُوغِلةِ في القِدَمِ، مِثلُ اللُّغةِ الهِنديَّةِ (الأوروبيَّة الأُولى)، واللُّغةِ السَّاميَّةِ الأُولى. واللُّغةُ الهِنديَّةُ (الأوروبيَّة الأُولى) هي الأصْلُ المُفْترَضُ الَّذي خرَجتْ عنه كلُّ لُغاتِ الأسْرَةِ الهِنديَّةِ-الأوروبيَّةِ المُختلِفةِ.
واللُّغةُ السَّاميَّةُ الأُولى هي الأصْلُ المُفترَضُ الَّذي خرَجتْ عنه اللُّغاتُ السَّاميَّةُ المُختلِفةُ. ولكنَّ مُحاوَلاتِ إعادَةِ تَكْوينِ اللُّغةِ الهِنديَّةِ (الأوروبيَّة الأولى)، واللُّغةِ السَّاميَّةِ الأُولى لم تَنجَحْ إلَّا في التَّعرُّفِ على بعضِ الخَصائِصِ المُغرِقةِ في القِدَمِ، ولكنْ مِنَ الصَّعبِ القولُ بأنَّ هذه الأبْحاثَ اسْتَطاعتْ أنْ تَرسُمَ المَلامِحَ الكامِلةَ لِلُغاتٍ بادَتْ منذُ عُصورٍ سَحيقَةٍ؛ ولِهذا عزَف الباحِثونَ المُحدَثونَ عنِ البَحْثِ في المَراحِلِ الَّتي لم تَصِلْ إلينا في النُّقوشِ والنُّصوصِ، وأصْبَح البَحْثُ في اللُّغةِ لا يَهتَمُّ إلَّا بالمَراحِلِ التَّاريخيَّةِ والمُعاصِرةِ؛ فعِلمُ اللُّغةِ يَبْدأُ حين نَجدُ نَقْشًا قَديمًا أو نَصًّا مُدوَّنًا، وليس مِنَ المُمكِنِ أنْ يَمْضيَ الباحِثُ في تَأريخِه للأسْرَةِ اللُّغويَّةِ إلى المَراحِلِ السَّابِقةِ على تَدْوينِ أقْدَمِ النُّقوشِ المَكْتوبةِ، فنَشْأةُ اللُّغةِ تَخرُجُ تَمامًا عن مَجالِ البَحْثِ في عِلمِ اللُّغةِ، وعِلمُ اللُّغةِ يُشبِهُ في هذا عِلمَ التَّاريخِ في أنَّ كِليهما يَبْدأُ مِن أقْدَمِ الكِتاباتِ والرُّسومِ تارِكًا لعِلمِ ما قبلَ التَّاريخِ بَحْثَ المَراحِلِ السَّابِقةِ على ذلك [35] يُنظَر: ((علم اللغة العربية)) لمحمود فهمي حجازي (ص: 45-47). .

انظر أيضا: