موسوعة اللغة العربية

المَبحَثُ الثَّالثُ: تَطَوُّرُ التَّأليفِ في فِقْهِ اللُّغةِ عِندَ العَرَبِ


لَعَلَّ أقدَمَ ما وصَلَنا منَ الدِّراساتِ القَديمةِ في المَباحِثِ التي تَتَعَلَّقُ بفِقْهِ اللُّغةِ هيَ مَباحِثُ الأصمَعيِّ أبي سعيدٍ عَبدِ المَلِكِ بن قريبٍ، المُتَوفَّى سنةَ 215هـ، عن الاشتِقاقِ في العَرَبيَّةِ، وهيَ تُعَدُّ مُلاحَظاتٍ عامَّةً اتَّسَعَ القَولُ فيها فيما بَعدُ.
ثُمَّ كِتابُ ((الخَصائِصِ)) لابنِ جِنِّي (المتوفى: 392هـ) الذي ناقَش فيه أبحاثًا في أصلِ اللُّغةِ "أإلهامٌ هيَ أمِ اصطِلاحٌ"، وفي مَقاييسِ العَرَبيَّةِ واطِّرادِها وشُذوذِها، وتَصاقُبِ ألفاظِها لتَصاقُبِ مَعانِيها، واتِّفاقِ اللَّفظَينِ واختِلافِ المَعنيَينِ، والاشتِقاقِ الأكبَرِ، وتَرَكُّبِ اللُّغاتِ، واختِلافِ اللَّهَجاتِ.
ثُمَّ جاءَ بَعدَ ذلك أحمَدُ بنُ فارِس (المتوفى: 395هـ) صاحِبُ كِتابِ ((الصَّاحِبي في فِقْهِ اللُّغةِ، وسَنَنِ العَرَبِ في كِلامِها)) وضَمَّنَ كِتابَه هذا بَعضَ المَباحِثِ الهامَّةِ حَقًّا في فِقْهِ العَرَبيَّةِ؛ كخَصائِصِ هذه اللُّغةِ، واشتِقاقِها، وقياسِها، ومُتَرادِفِها، ومَجازِها، واشتِراكِها، ونَحتِها، واختِلافِ لُغاتِها ولهَجَاتِها.
ثُمَّ جاءَ الثَّعالبيُّ (المتوفى: 429هـ) فكَتَبَ كِتابَه ((فِقْهُ اللُّغةِ وسِرُّ العَربيَّةِ))، وبالرَّغمِ أنَّ الكِتابَ يَحمِلُ اسمَ ((فِقْه اللُّغة)) إلَّا أنَّه لم يُضَمِّنْه إلَّا بَعضَ المَباحِثِ القَليلةِ التي يُمكِنُ أن تَتَعَلَّقَ بهذا العِلمِ؛ كإيرادِه بَعضَ الألفاظِ العَربيَّةِ التي نَسَبَها أئِمَّةُ اللُّغةِ إلى الرُّوميَّةِ، أو بَعضَ الأسماءِ القائِمةِ في لُغةِ العَربِ والفُرْسِ على لَفظٍ واحِدٍ، أوِ الأسماءَ التي تَفَرَّدَت بها الفُرْسُ دونَ العَرَبِ، فاضطَرَّتِ العَربُ إلى تَعريبِها أو تَركِها كما هيَ، أوِ الأسماءَ التي ماتَت فارِسيَّتُها، مع أنَّ عَرَبيَّتَها ما تَزالُ مُستَعمَلةً مَحكيَّةً [48] يُنظر: ((فقه اللغة وسر العربية)) للثعالبي (ص: 24) و(ص: 209)، و(ص: 208). .
ثُمَّ ظَهرَ كِتابُ ((المُخَصَّص)) لابنِ سِيدَهْ (المتوفى: 458هـ)، وقد عَرَضَ فيه بَعضَ البُحوثِ المُتَعَلِّقةِ بنَشأةِ اللُّغةِ العَربيَّةِ، وبالتَّرادُفِ والتَّضادِّ والاشتِراكِ والاشتِقاقِ، وتَعريبِ الألفاظِ الأعجَميَّةِ، ونَحوِ ذلك، وهو حَسَنُ التَّنسيقِ دَقيقٌ. وكِتابُ الثَّعالبيِّ ((فِقْه اللُّغةِ وسِرُّ العَربيَّةِ)) وكِتابُ ابنِ سِيْدَهْ ((المُخَصَّص)) يُعَدَّانِ في الأساسِ من مَعاجِمِ المَعاني، وهما من أوائِل المَعاجِمِ التي أسَّسَت لفِكرةِ مَعاجِمِ المَعاني، أو مَعاجِمِ المَوضوعاتِ، أو ما يُصطَلحُ عليه حَديثًا بمَعاجِمِ الحُقولِ الدَّلاليَّةِ، ومِمَّن سارَ على هذا النَّهجِ حَديثًا عَبد الفَتَّاحِ الصَّعيدي في كِتابِه ((الإفصاح في فِقْهِ اللُّغةِ)) [49] يُنظر: ((الإفصاح في فقه اللغة)) لعبد الفتاح الصعيدي (المقدمة/ 2)، ((نظرية معاجم الحقول الدلالية وإرهاصاتها في فقه اللغة وسر العربية) لمحمد خالد الفجر (ص: 2)، ((دراسات في فقه اللغة)) لصبحي الصالح (ص: 24). .
ثُمَّ ظَهرَ كِتابُ ((المُعَرَّب منَ الكَلامِ الأعجَميِّ)) لأبي مَنصورٍ مَوهوبِ بن أحمَدَ الجواليقيِّ (المتوفي: 540ه)، من عُلَماءِ القَرنِ السَّادِسِ الهجْريِّ، وكِتابُه مُرَتَّبٌ على حُروفِ المُعجَمِ، ويَتلوه البشبيشي المُتَوفَّى سنةَ (820 هـ) بكِتابِه ((التَّذليل والتَّكميل لِما استُعمِلَ منَ اللَّفظِ الدَّخيل)).
ثُمَّ جاءَ جَلالُ الدِّينِ السُّيوطيُّ (المتوفى: 911هـ) بكِتابِه العَظيمِ ((المُزهِر في عُلومِ اللُّغةِ وأنواعِها))، وهو أكثَرُ منَ النَّقلِ عنِ الكُتُبِ المُتَقَدِّمةِ، ويَزيدُ عليها بَعضَ الأبحاثِ الجَديدةِ، ولَعَلَّ كِتابَ ((المُزهِر)) -بتَنَوُّعِ أبوابِه، واتِّساعِ أغراضِه- ألصَقَ المُؤَلَّفاتِ بفِقْهِ اللُّغةِ؛ ففيه تَقرَأُ عن نَشأةِ اللُّغاتِ، وتَداخُلِها، وتَوافُقِها، والمَصنوعِ والفَصيحِ، والمُستَعمَلِ والمُهمَلِ، والحوشِيِّ والغَريبِ، والمُعَرَّبِ والمولَّدِ، والاشتِقاقِ والاشتِراكِ، والتَّرادُفِ والتَّضادُّ، والنَّحتِ، والتَّصحيفِ والتَّحريفِ، والشَّوارِدِ والنَّوادِرِ، وما اختَلَفَت فيه لُغةُ الحِجازِ ولُغةُ تَميمٍ، ويَقَعُ في جُزأينِ كبيرَينِ.
وفي القَرنِ الحادي عَشَرَ يُعنى شِهابُ الدِّينِ الخَفاجيِّ (المتوفى: 1069 هـ) بدِراسةِ الألفاظِ الدَّخيلةِ على العَرَبيَّةِ، فيُؤلِّفُ في ذلك كِتابَه ((شِفاءَ الغَليل فيما ورَدَ في كِلامِ العَرَبِ منَ الدَّخيل)) [50] يُنظر: ((دراسات في فقه اللغة)) لصبحي الصالح (ص: 23 - 25). .

انظر أيضا: