موسوعة اللغة العربية

المَبْحَثُ الثَّامِنُ والعِشرونَ: النَّفيُ والجُحودُ


وهُو: "أنْ يأخُذَ المُتكلِّمُ في وصْفٍ فيقولَ: ما كذا، ويَصِفَه بمُعظَمِ أوْصافِه اللَّائِقةِ به في الحُسْنِ والقُبْحِ، ثمَّ يقولَ: بأفْعَلَ مِنْ كَذا".
وقد سمَّاه بعضُ النَّاسِ بالتَّفْريعِ، غيرَ أنَّ المَشْهورَ في التَّفْريعِ ما جاء في الفَصْلِ السَّابِقِ.
ومِن أشْهَرِ أمْثِلةِ النَّفْيِ والجُحودِ قولُ الأعْشَى: البسيط
ما رَوضةٌ مِن رِياضِ الحَزْنِ مُعْشِبةٌ
خَضْراءُ جاد عليها مُسْبِلٌ هَطِلُ
يُضاحِكُ الشَّمسَ منها كَوكبٌ شَرِقٌ
مُؤَزَّرٌ بعَميمِ النَّبْتِ مُكْتَهِلُ
يومًا بأطْيبَ منْها طِيبَ رائِحةٍ
ولا بأحْسَنَ منْها إذْ دَنا الأصُلُ
يُريدُ الشَّاعرُ أنْ يُبالِغَ في طِيبِ رائِحةِ مَحْبوبِه، فيَذكُرَ أنَّها أطْيبُ مِن أطْيَبِ رائِحةٍ، فلوِ اجْتَمعتْ رَوْضةٌ مِنَ الرِّياضِ مُعْشِبةٌ خَضْراءُ تَرتَشِفُ المطَرَ والنَّدى، وتُلاعِبُها الشَّمسُ، وقد حوَتْ مِن جَميعِ النَّباتِ والزُّهورِ، لَما كانت أبدًا في طِيبِ رائِحةِ مَحْبوبتِه ولا بأحْسَنَ جَمالًا منْها.
والنَّفيُ والجُحودُ مُتَحقِّقٌ ببِدايةِ البيتِ الأوَّلِ بالنَّفيِ بقولِه: "ما رَوْضةٌ"، ثمَّ اسْتَكملَ في وصْفِ تلك الرَّوضةِ والمَديحِ فيها، إلى أنْ قال: "بأطْيَبَ". والبيتُ -كما ترى- في أبْلَغِ صُورِ الغَزَلِ والمَديحِ والوصْفِ، وهذه قِيمةُ "النَّفيِ والجُحودِ" البَلاغيَّةُ.
ومنه قولُ الشَّاعِرِ: الطويل
وما أمُّ خَشْفٍ ضلَّ يَومًا ولَيلةً
ببَلْقَعَةٍ بَيداءَ ظَمْآنَ صادِيا
تَهيمُ فلا تَدري إلى أينَ تَنْتهي
مُولَّهةً حرَّى تَجوبُ الفيافِيَا
أضرَّ بها حَرُّ الهَجيرِ فلم تَجدْ
لغُلَّتِها مِن بارِدِ الماءِ شافِيَا
فلمَّا دَنَتْ مِن خَشْفِها انْعَطفَتْ له
فألْفَتْه مَلهوفَ الجَوانِحِ طاوِيَا
بأوْجَعَ منِّي يومَ شُدَّتْ حُمولُهم
ونادى مُنادي الحَيِّ أنْ لا تَلاقِيَا
يُريدُ الشَّاعرُ أنْ يَصِفَ حَسْرتَه ومَرارتَه ووجَعَ قلْبِه حين غابَتْ عن ناظِرِه العِيرُ وفيها حَبيبتُه إلى فِراقٍ لا اجْتِماعَ بعدَه، فيَذكُرَ أنَّه لا أوْجَعَ مِن ذلك الألَمِ الَّذي راوَدَه حينَها، فلو أنَّ أمَّ خَشْفٍ -وهُو ولَدُ الغَزالِ [458] ينظر: ((جمهرة اللغة)) لابن دريد (1/ 601)، ((مجمل اللغة)) لابن فارس (ص: 289). - ضاع منْها ولَدُها في الصَّحراءِ المُحرِقةِ، وقد بلَغ منْهما الحرُّ والظَّمأُ مَبْلَغًا، فظلَّت تَسْعى تَجوبُ الصَّحاريَ لعلَّها تَجِدُه، وقد أنْهَكها الجَهْدُ والحَرُّ والعَطشُ وليس معَها ما يَروي ظَمأَها مِنَ الماءِ، حتَّى إذا لمحَتْ عَينُها ولَدَها وأقْبلَتْ عليه مُسرِعةً مُتلهِّفةً وَجدَتْه قد فارَقَ الحَياةَ.
يَرى الشَّاعرُ أنَّ وجَعَ هذه الغَزالةِ وألَمَها حِينَئذٍ لا يَبلُغُ شيئًا ممَّا بلَغه الشَّاعرُ حينَ فارَقَته مَحْبوبتُه إلى غيرِ عَوْدةٍ.
ومنه أيضًا قولُ الشَّاعِرِ: الطويل
وما وَجْدُ مغلولٍ بصَنعاءَ مُوثَقٍ
بساقَيْهِ مِن ماءِ الحَديدِ كُبولُ
قَليلِ المَوالي مُسْلَمٍ بجَريرةٍ
له بعدَ نَوْماتِ العُيونِ عَويلُ
يقولُ له الحَدَّادُ أنت مُعَذَّبٌ
غَداةَ غَدٍ أو مُسْلَمٌ فقَتيلُ
بأكْثرَ منِّي لَوعةً يومَ راعَني
فِراقُ حَبيبٍ ما إليه سَبيلُ
يَذكُرُ الشَّاعرُ أنَّه لو كان أسيرٌ في صَنعاءَ مُوثَقٌ بالحَديدِ، ليس له مِنَ الأهْلِ والعَشيرةِ ما يَشْفَعُ له أو يَدفَعُ عنه، وقد أُخِذ بجَريرةٍ تُوجِبُ عليه الموْتَ، والجَلَّادُ يَغدو عليه ويَروحُ يَتهدَّدُه بالقتْلِ- لَما كان هذا أكْثرَ عَذابًا ولا لَوعةً مِنَ الشَّاعرِ حين فاجأه فِراقُ حَبيبِه.
وقد تَمثَّل النَّفيُ والجُحودُ هنا في النَّفيِ المُصَّدرِ به البيتُ: "وما وَجْدُ مَغلولٍ ..." ثمَّ ما جاء في وصْفِ ذلك المَغْلولِ وبَيانِ حالِه، ثمَّ اسْتِخدامِ (أفْعَلِ) التَّفضيلِ في المُقارنةِ بينَه وبينَ الشَّاعِرِ، وهُو قولُه: "بأكْثرَ منِّي لَوعةً" [459] ينظر: ((البديع في نقد الشعر)) لأسامة بن منقذ (ص: 123)، ((نهاية الأرب في فنون الأدب)) للنويري (7/ 160). .

انظر أيضا: