موسوعة اللغة العربية

تمهيدٌ: التَّقْسيمُ


هو: "ذكْرُ مُتعدِّدٍ، ثمَّ إضافةُ ما لكلٍّ إليه على التَّعيينِ"، أو: "أنُ تذكُرَ شيئًا ذا جُزأَينِ أو أكْثرَ، ثمَّ تُضيفَ إلى كل واحِدٍ مِن أجْزائِه ما هو له عندَك"، أو: "اسْتِيفاءُ المُتكلِّمِ أقسامَ المَعْنى الَّذي هو آخِذٌ فيه".
فمِن التَقْسيمِ قولُه تعالى: هُوَ الَّذي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا [الرعد: 12] ؛ فإنَّ النَّاسَ عندَ رُؤيةِ البَرقِ لا يَخرُجون عن أحدِ الأمرَين، ولا ثالِثَ لذلك.
وقد قدَّم الخَوفَ على الطَّمعِ؛ لأنَّ الأمرَ المَخُوفَ مِنَ البَرقِ يقعُ في أوَّلِ بَرقِه، والأمرَ المُطمِعَ إنَّما يقعُ مِنَ البَرقِ بعدَ الأمرِ المَخُوفِ. وذلك ليَكونَ الطَّمعُ ناسِخًا للخَوفِ؛ لمَجيءِ الفرَجِ بعدَ الشِّدَّةِ.
ومنه قولُه تعالى: لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا [الشورى: 49-50] ؛ فذكَر كلَّ الأحْوالِ الَّتي لا يُوجَدُ غيرُها؛ فإمَّا أنْ يَهَبَ ذُكورًا فحسْبُ، أو إنِاثًا فحسْبُ، أو يَهَبَ ذُكْرانًا وإناثًا، أو لا يَهَبَ شيئًا، ولا خامِسَ لذلك.
ومنه قولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((وهل لك يا ابنَ آدمَ مِن مالِكَ إلَّا ما أكلْتَ فأفنَيْتَ، أو لَبِستَ فأبلَيْتَ، أو تَصَدَّقتَ فأمضَيْتَ؟!)) [406] أخرجه مسلم (2958) مطولاً من حديث عبد الله بن الشخير رَضِيَ اللهُ عنه. ؛ فلم يُبقِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ قِسْمًا رابعًا لو طُلِب يُوجَدُ.
وقال أحدُ العَربِ وهُو يَتلمِسُ الصَّدَقةَ: "رحِمَ اللهُ رجُلًا أعْطى مِن سَعَةٍ، أو واسَى مِن كَفافٍ، أو آثَر مِن قلَّةٍ". فإنَّ المُنفِقَ أحدُ هؤلاء الثَّلاثةِ لا يَخرُجُ عنهم.
ومنه قولُ الشَّاعِر: الطويل
فقال فَريِقُ القومِ: لا، وفَريقُهم:
نعم، وفَرِيقٌ: وايمنُ اللهِ ما نَدري
فإنَّ الإجابةَ لا تَخرُجُ عن مِثلِ هذا؛ فإمَّا الإجابَةُ بـ "نعَمْ"، أو بـ "لا"، أو بـ "لا أدْرِي".
ومنه قولُ زُهَيرٍ: الوافر
فإنَّ الحقَّ مَقْطعُه ثَلاثٌ
يَمينٌ أو نِفارٌ أو جَلاءُ
لمَّا سمِع عُمرُ بنُ الخَّطابِ رضِي اللهُ عنه هذا البيْتَ أعْجَبه التَّقْسيمُ، وقال: "لو أدْركتُ زُهَيرًا لولَّيتُه القَضاءَ" لعِلْمِه بهذا التَّقْسيمِ؛ فإنَّ الحقَّ إمَّا يَمينُ المُدَّعى عليه، أو بَيِّنةٌ جَليَّةٌ واضِحةٌ، أو حُكْمُ الحاكِمِ باجْتِهادِه.
ومنه قولُ بشَّارِ بنِ بُرْدٍ في وصْفِ الهَزيمةِ: الطويل
بضَرْبٍ يَذوقُ الماءَ مَنْ ذاق طَعمَه
وتُدرِكُ مَنْ نَجَّى الفِرارُ مَثالِبُه
فرَاحوا فَرِيقٌ في الإسارِ ومِثلُه
قَتيلٌ ومِثلٌ لاذ بالبَحرِ هارِبُه
ففي البيتِ الأوَّلِ وصَف الهَزيمةَ؛ فهي إمَّا القتْلُ، وإمَّا الحياةُ معَ العارِ، والبيْتُ الثَّاني تَقْسيمٌ للمَهزومِينَ؛ فإمَّا مَأسورينَ، وإمَّا مَقْتولينَ، وإمَّا هاربينَ، ولا يُوجَدُ في الهَزيمةِ زِيادةٌ على ما ذُكِر.
ويُذكَرُ أنَّ شابًّا قدِم معَ بعضِ وُفودِ العَربِ على عُمَرَ بنِ عبدِ العَزيزِ، فتَقدَّم المَجلِسَ ثمَّ قال: يا أميرَ المُؤمنينَ، أصابَتْنا سِنونَ: سَنَةٌ أذابَتِ الشَّحْمَ، وسَنَةٌ أكلَتِ اللَّحمَ، وسَنَةٌ أنْقَتِ العظْمَ، وفي أيديكم فُضولُ أمْوالٍ؛ فإنْ كانت لنا لا تَمْنعونا، وإنْ كانت للهِ ففرِّقوها على عِبادِه، وإنْ كانت لكم فتَصدَّقوا، إنَّ اللهَ يَجزي المُتصدِّقينَ. فقال عُمَرُ بنُ عبدِ العَزيزِ: ما ترَك لنا الأعْرابيُّ في واحِدةٍ عُذْرًا [407] ينظر: ((العمدة في محاسن الشعر وآدابه)) لابن رشيق (2/ 20)، ((بغية الإيضاح لتلخيص المفتاح في علوم البلاغة)) لعبد المتعال الصعيدي (4/ 603). .

انظر أيضا: