موسوعة اللغة العربية

المَطلَبُ الثَّاني: أنْواعُ المُقابَلةِ


ذكَرنا في الفَرقِ بينَ المُقابَلةِ والمُطابَقةِ أنَّ المُقابَلةَ لا تكونُ بَيْنَ ضِدَّين، وإنَّما بينَ أكْثرَ مِن ذلك، ولِهذا تَتنوَّعُ المُقابَلةُ أنواعًا بحسَبِ عدَدِ الأضْدادِ فيها؛ فمنْها:
1- مُقابلةُ ضِدَّينِ بضِدَّينِ، ومنْها قولُه تعالى: فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا [التوبة: 82] ، كما سبَق بَيانُه، وقولُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إِنَّ الرِّفقَ لا يكونُ في شيءٍ إلَّا زانَه، ولا يُنزَعُ مِن شيءٍ إلَّا شانَه )) [380] أخرجه مسلم (2594) من حديث عائشة رَضِيَ اللهُ عنها. ، فقابَلَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بينَ وُجودِ الرِّفقِ في الأمرِ وتَزيينِه، وبينَ انْتزاعِه منه وما يَترتَّبُ عليه مِن قُبحِه بدُونِه؛ فجمَع بينَ كونِ الرِّفقِ في الشَّيءِ وبينَ نزعِه منه، وبينَ الزَّينِ والشَّينِ.
ومنه قولُ الشَّاعِرِ: الطويل
فوا عَجبًا كيف اتَّفقْنا فناصِحٌ
وَفِيٌّ ومَطويٌّ على الغِلِّ غادِرُ
فقابَلَ بينَ النَّاصِحِ الوَفيِّ، وبينَ الغادِرِ الَّذي في صدْرِه الغِلُّ، مُقابلةً بينَ لفْظَين ولفْظَين، وليس النَّاصِحُ ضِدًّا للمَطويِّ على الغِلِّ، وإنْ كان الوَفيُّ ضِدًّا للغادِرِ.
2- مُقابَلةُ ثَلاثةِ أمُورٍ بثَلاثةِ أمُورٍ: كقَولِه تعالى: وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ [الأعراف: 157] ؛ فبيْنَ "يُحِلُّ" و"يُحرِّمُ" مُطابَقةٌ، وكذلك بينَ الطَّيِّباتِ والخَبائِثِ، واللَّامُ في "يحِلُّ لهم" ضِدُّ (على) في "عليهم"؛ فالأُولى للخيْرِ والثَّانيةُ للشَّرِّ. وكقولِ أبي دُلامَةَ: البسيط
ما أحسَنَ الدِّينَ والدُّنيا إذا اجتَمَعا
وأقْبحَ الكُفرَ والإفْلاسَ بالرَّجلِ
فقابَلَ بينَ أحسَنَ وأقبَحَ، وبينَ الدِّينِ والكُفرِ، وبينَ الدُّنيا والإفْلاسِ.
ومنه قولُ المُتَنبِّي: الطويل
فلا الجُودُ يُفني المالَ والجِدُّ مُقبِلٌ
ولا البُخلُ يُبْقي المالَ والجِدُّ مُدبِرُ
فجمَع هذا البيتُ في صدْرِه ثَلاثةَ أمُورٍ: "الجُود، يُفني، مُقبِل"، ثمَّ أتى بأضْدادِها على التَّرْتيبِ في العَجُزِ، وهِي: "البُخل، يُبْقي، مُدبِر"، وبهذا صنَع أبو الطَّيِّبِ بيْنَ الشَّطرَين مُقابَلةً بَليغةً، أراد فيها أنْ يُبيِّنَ أنَّ الجِدَّ هو أساسُ الحِفاظِ على المالِ، فإنِ اجْتهَد الإنْسانُ صار مالُه في ازْديادٍ وإنْ كان جَوادًا كَريمًا، وإلَّا فلوِ اسْتَغنى عن الجِدِّ لَضاع مالُه وإنْ كان أبْخَلَ النَّاسِ.
3- مُقابَلةُ أرْبعةٍ بأرْبعةٍ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [الليل: 5 - 10] ؛ فجمَع سُبحانه وتعالى بينَ الإعْطاءِ والبُخلِ، وبينَ التَّقوى والاسْتِغناءِ، والاسْتِغناءُ هنا نَقيضُ التَّقوى، فهُو بمَعْنى الزُّهدِ عمَّا عندَ اللهِ، أو الاسْتِغناءِ بشَهواتِ الدُّنيا عنِ الجنَّةِ؛ وبينَ التَّصديقِ والتَّكذيبِ، وبين اليُسرى والعُسرى. جمَع بينَ أرْبعةِ أضْدادٍ في تَرتيبٍ مُتَساوٍ بلا اخْتِلافٍ أو تَناقُضٍ.
ومنه قولُ المُتَنبِّي: البسيط
أزُورُهم وسَوادُ اللَّيلِ يَشفَعُ لي
وأنْثَني وبَياضُ الصُّبحِ يُغري بي
يَتحدَّثُ الشَّاعرُ عن مَدى شَوْقِه لمَحْبوبتِه؛ حيثُ لا يُطيقُ أنْ يَبقى دُونَ رُؤيتِها، فيَذهبُ إليها ليلًا في سَتْرٍ مِن ظَلامِ اللَّيلِ، ثمَّ لا يَشعُرُ بينَ يديها بمُرورِ الوقتِ حتَّى يُغادِرَ وقد طلَع الصَّباحُ، لكنَّه جعَل مِن ظلامِ اللَّيلِ شافِعًا له، يَتوسَّطُ بينَ الشَّاعرِ وحَبيبِه، وذلك يَقْتضي إبْعادَ أعْينِ الوُشاةِ عنه، في حين جعَل منَ النَّهارِ عَدوًّا حاسِدًا يدُلُّ عليه النَّاسَ ويَفضَحُه بينَ الخلائِقِ ويُشيرُ إليه بسَنا ضوْئِه.
والمُقابلةُ هنا بَيْنَ أرْبعِ مُفرَداتٍ من هنا ومثلِها من هناك: فبيْنَ الزِّيارةِ والعَوْدِ منْها مُقابلةٌ وإنْ لم يكنْ تَضادًّا، كما ذكَرنا، وبينَ السَّوادِ والبَياضِ، وبينَ اللَّيلِ والصُّبحِ مُقابلةٌ بالتَّضادِ، وبينَ يَشفَعُ ويُغري مُقابلةٌ أيضًا؛ لِما بينَهما من الاخْتِلافِ في المَعْنى إلى حدٍّ يُشبِهُ التَّضادَّ.
4- مُقابلةُ خَمْسةٍ بخَمْسةٍ: كقولِ الشَّاعِرِ: البسيط
بواطِئٍ فوقَ خدِّ الصُّبحِ مُشتَهِرٍ
وطائِرٍ تحتَ ذَيلِ اللَّيلِ مُكتَتِمِ
فجمَع الشَّاعرُ بينَ خمْسةِ أشْياءَ ومُقابلِها؛ فالوَطءُ يُخالِفُ الطَّيرانَ، و"فوقَ" ضدُّ "تحت"، و"خد" يُخالِفُ "ذَيل" مِن حيثُ العُلوُّ والشَّرفُ؛ والصُّبحُ ضدُّ اللَّيلِ، والمُشتَهِرُ ضِدُّ المُكتَتِم.
ومنه قولُ صَفيِّ الدِّينِ الحِلِّيِّ: البسيط
كان الرِّضا بِدُنوِّي مِن خَواطِرِهم
فصار سُخْطي لبُعدِي عن جِوارِهمُ
فالمُقابلةُ بينَ «كان وصار»، و«الرِّضا والسُّخْط»، و«الدُّنوِّ والبُعد»، و«مِنْ وعَنْ»، و«خَواطِرهم وجِوارهم».
5- مُقابلةُ سِتَّةٍ بسِتَّةٍ: ومنه قولُ الشَّاعِرِ: الطويل
على رأسِ عبدٍ تاجُ عِزٍّ يَزينُه
وفي رِجْلِ حُرٍّ قَيْدُ ذُلٍّ يَشينُه
فالمُقابلةُ هنا بينَ «على وفي»، و«رَأسِ ورِجْلِ»، و«عبْدٍ وحُرٍّ»، و«تاج وقَيْد»، و«عزٍّ وذُلٍّ»، و«يَزينُه ويَشينُه».
وكلَّما كثُرَ عدَدُ المُقابَلاتِ زادت بَلاغَةُ الكَلامِ، بشرْطِ ألَّا يُؤدِّيَ ذلك إلى التَّكلُّفِ [381] ينظر: ((بغية الإيضاح لتلخيص المفتاح في علوم البلاغة)) لعبد المتعال الصعيدي (4/ 580)، ((البلاغة الصافية في المعاني والبيان والبديع)) لحسن الجناجي (ص: 260). .

انظر أيضا: