موسوعة اللغة العربية

المَبْحَثُ الأوَّلُ: تَعْريفُ الاسْتِعارةِ


الاستعارةُ لُغةً: مأخوذةٌ مِن الإعارةِ، تقولُ: أَعَرْتُ صاحبي الشَّيءَ، واستَعَرْتُه منه، فأعارَنِيه.
وفي اصطلاحِ البلاغيِّينَ: استعمالُ الكلمةِ في غيرِ ما وُضِعَت له لعَلاقةِ المشابَهةِ مع قَرينةٍ مانعةٍ مِن إرادةِ المعنى الأصليِّ.
وتُعرَّفُ الاسْتِعارةُ كذلك بأنَّها: "أنْ تذكُرَ أحدَ طرفَيِ التَّشْبيهِ وتُريدَ به الطَّرفَ الآخَرَ، مُدَّعيًا دُخولَ المُشبَّهِ في جنْسِ المُشبَّهِ به، دالًّا على ذلك بإثْباتِك للمُشبَّهِ ما يَخصُّ المُشبَّهَ به".
ومَعْنى ذلك التَّعريفِ أنَّ الاسْتِعارةَ ما هي إلَّا تَشْبيهٌ مُخْتصَرٌ، حُذِف فيه أحدُ طرفَيِ التَّشْبيهِ والأداةُ ووجْهُ الشَّبهِ. فإذا قلتَ: رأيتُ أسدًا في المَعركةِ، كان أصْلُ الكَلامِ: رأيتُ جُنديًّا كالأسدِ في المَعْركةِ في شَجاعتِه، فحذَفتَ المُشبَّهَ (جندي)، والأداةَ (الكاف)، ووجْهَ الشَّبهِ (الشجاعة). وكذلك إذا قلتَ: الطِّفلةُ تُغرِّدُ في الأناشيدِ، فإنَّ الأصْلَ: الطِّفلةُ تُغنِّي غِناءً حَسَنًا كتَغْريدِ العَصافيرِ.
والاسْتِعارةُ وإن كانت مِنَ التَّشْبيهِ فإنَّها أبلَغُ منه؛ لأنَّنا مَهْما بالَغْنا في التَّشْبيهِ فلا بُدَّ مِن ذكْرِ الطَّرفَينِ، وهذا اعْتِرافٌ بتَبايُنِهما، وأنَّ العَلاقةَ بينَهما ليست إلَّا التَّشابُهَ والتَّدانيَ، فلا تصِلُ إلى حدِّ الاتِّحادِ؛ إذْ جعْلُك لكلٍّ مِنهما اسمًا يَمتازُ به دَليلٌ على عدَمِ امْتِزاجِهما واتِّحادِهما، بخِلافِ الاسْتِعارةِ؛ فإنَّ فيها دَعوى الاتِّحادِ والامْتِزاجِ، وأنَّ المُشَبَّهَ والمُشبَّهَ به صارا شيئًا واحِدًا يَصدُقُ عليهما لفْظٌ واحِدٌ.
قال عبدُ القاهِرِ الجُرْجانيُّ: (اعلَمْ أنَّ الاسْتِعارةَ هي أمَدُّ مَيدانًا، وأشدُّ افْتِنانًا، وأكْثرُ جَريانًا، وأعجَبُ حُسْنًا وإحْسانًا، وأوسَعُ سَعَةً، وأبْعدُ غَورًا، وأذهَبُ نَجْدًا في الصِّناعةِ وغَورًا؛ مِن أنْ تُجمَعَ شُعَبُها وشُعوبُها، وتُحصَرَ فُنونُها وضُروبُها. نَعمْ، وأسْحرُ سِحْرًا، وأمْلأُ بكلِّ ما يَملأ صَدرًا، ويُمتِعُ عقْلًا، ويُؤْنِسُ نفْسًا، ويُوفِّرُ أُنْسًا، وأهْدى إلى أنْ تَهديَ إليك أبدًا عَذارى قد تُخُيِّرَ لها الجَمالُ، وعُنيَ بها الكَمالُ، وأنْ تُخرِجَ لك مِن بَحْرِها جواهِرَ إنْ باهَتْها الجَواهِرُ مدَّتْ في الشَّرفِ والفَضيلةِ باعًا لا يَقْصُرُ، وأبدَتْ مِنَ الأوْصافِ الجَليلةِ مَحاسِنَ لا تُنكَرُ، وردَّتْ تلك بصُفْرةِ الخجَلِ، ووكَلتْها إلى نِسْبتِها مِنَ الحجَرِ، وأنْ تُثيرَ مِن مَعْدِنِها تِبْرًا لم ترَ مِثلَه، ثمَّ تَصوغَ فيها صِياغاتٍ تُعطِّلُ الحُليَّ، وتُريك الحَليَ الحَقيقيَّ، وأنْ تَأتيَك على الجُملةِ بعَقائِلَ يأنَسُ إليها الدِّينُ والدُّنيا، وفَضائِلَ لها مِنَ الشَّرفِ الرُّتْبةُ العُليا، وهِي أجَلُّ مِن أنْ تَأتيَ الصِّفةُ على حَقيقةِ حالِها، وتَسْتوفيَ جُملةَ جَمالِها، ومِنَ الفَضيلةِ الجَامِعةِ فيها أنَّها تُبرِزُ هذا البَيانَ أبدًا في صُورةٍ مُسْتجدَّةٍ تَزيدُ قدْرَه نُبْلًا، وتُوجِبُ له بعدَ الفضْلِ فضْلًا، وإنَّك لتَجدُ اللَّفظةَ الواحِدةَ قد اكْتَسبتَ بها فوائِدَ حتَّى تَراها مُكرَّرةً في مَواضِعَ، ولَها في كلِّ واحِدٍ مِن تلك المَواضِعِ شأنٌ مُفْرَدٌ، وشرَفٌ مُنْفرِدٌ، وفَضيلَةٌ مَرْموقةٌ، وخِلابةٌ مَوْموقةٌ، ومِن خَصائِصِها الَّتي تُذكَرُ بها، وهِي عُنوانُ مَناقِبِها: أنَّها تُعْطيك الكَثيرَ مِنَ المَعاني باليَسيرِ مِنَ اللَّفظِ، حتَّى تُخرِجَ مِنَ الصَّدَفةِ الواحِدةِ عِدَّةً مِنَ الدُّررِ، وتَجنيَ مِنَ الغُصْنِ الواحِدِ أنْواعًا مِنَ الثَّمَرِ) [316] ((أسرار البلاغة)) لعبد القاهر الجرجاني (ص: 42، 43). .

انظر أيضا: