الموسوعة العقدية

المَبحَثُ الأوَّلُ: مِن خَصائِصِ عَقيدةِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ: سَلامةُ المَصدَرِ

عَقيدةُ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ مُعتَمِدةٌ على الكِتابِ والسُّنَّةِ وإجماعِ السَّلَفِ فحَسْبُ، كما أنَّها تتميَّزُ باتِّصالِ سنَدِها بالرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والصَّحابةِ والتَّابعين وأئمَّةِ الهدى.
وهذه الخاصيَّةُ لا توجَدُ في مذاهبِ أهلِ الكلام والصوفيَّةِ الذين يعتَمِدونَ على العَقلِ والنَّظَرِ، أو على الكَشْفِ والحَدْسِ والإلهامِ والوَجْدِ، أو عن طريقِ أشخاصٍ يَزعُمونَ لهم العِصمةَ، وليسوا بأنبياءَ، أو يدَّعون لهم الإحاطةَ بعِلمِ الغَيبِ مِن أئمَّةٍ أو رُؤساءَ أو أولياءَ أو أقطابٍ أو أغواثٍ أو غَيرِهم، أو يزعُمونَ أنَّه يسَعُهم العَمَلُ بأنظِمةِ البشَرِ وقَوانينِهم المخالفةِ لشريعةِ اللهِ سبحانه.
قال ابنُ تَيميَّةَ: (... بهذا يتبيَّنُ أنَّ أحَقَّ النَّاسِ بأن تكونَ هي الفِرقةَ النَّاجيةَ أهلُ الحديثِ والسُّنَّةِ، الذين ليس لهم مَتبوعٌ يتَعصَّبونَ له إلَّا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهم أعلَمُ النَّاسِ بأقوالِه وأحوالِه، وأعظمُهم تمييزًا بين صَحيحِها وسَقيمِها، وأئمَّتُهم فُقهاءُ فيها، وأهلُ مَعرفةٍ بمعانيها، واتِّباعًا لها؛ تصديقًا وعَمَلًا، وحبًّا وموالاةً لِمَن والاها، ومُعاداةً لِمَن عاداها... لا يَنصِبونَ مَقالةً ويَجعَلونَها من أصولِ ديِنهم وجُمَل كلامِهم، إن لم تكُنْ ثابتةً فيما جاء به الرَّسولُ، بل يجعلونَ ما بُعِثَ به الرَّسولُ من الكِتابِ والحِكمةِ هو الأصلَ الذي يَعتَقِدونَه ويَعتَمِدونَه، وما تنازعَ فيه النَّاسُ من مسائِلِ الصِّفاتِ والقَدَرِ والوَعيدِ والأسماءِ، والأمرِ بالمعروفِ، والنَّهيِ عن المنكَرِ، وغيرِ ذلك: يردُّونَه إلى اللهِ ورَسولِه، ويُفَسِّرون الألفاظَ المجمَلةَ التي تنازَعَ فيها أهلُ التفَرُّقِ والاختلافِ؛ فما كان من معانيها مُوافِقًا للكِتابِ والسُّنَّةِ أثبتوه، وما كان منها مخالِفًا للكِتابِ والسُّنَّةِ أبطَلوه؛ ولا يتَّبِعونَ الظَّنَّ وما تهوى الأنفُسُ؛ فإنَّ اتِّباعَ الظَّنِّ جَهلٌ، واتِّباعَ هوى النَّفسِ بغيرِ هدًى مِنَ اللهِ: ظلمٌ) [46] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (3/347). .
وقال ابنُ القَيِّم: (مِن كَيدِه بهم وتحيُّلِه على إخراجِهم من العِلمِ والدِّينِ: أن ألقى على ألسِنَتِهم أنَّ كلامَ اللهِ ورَسولِه ظواهِرُ لفظيَّةٌ لا تفيدُ اليقينَ، وأوحى إليهم أنَّ القواطعَ العقليَّةَ والبَراهينَ اليقينيَّةَ؛ في المناهِجِ الفَلسفيَّةِ والطُّرُقِ الكلاميَّةِ! فحالَ بينهم وبيْن اقتباسِ الهُدى واليقينِ مِن مِشْكاةِ القُرآنِ، وأحالهم على مَنطِقِ اليونانِ، وعلى ما عِندَهم من الدَّعاوى الكاذِبةِ العَرِيَّة عن البُرهانِ، وقال لهم: تلك علومٌ قديمةٌ صَقَلَتها العُقولُ والأذهانُ، ومَرَّتْ عليها القُرونُ والأزمانُ! فانظُرْ كيف تلطَّف بكَيدِه ومَكْرِه حتى أخرَجَهم من الإيمانِ والدِّينِ، كإخراجِ الشَّعرةِ مِنَ العَجِين؟!
ومِن كَيدِه: ما ألقاه إلى جُهَّالِ المتصوِّفةِ مِنَ الشَّطحِ والطَّامَّاتِ، وأبرزه لهم في قالَبِ الكَشفِ من الخيالاتِ؛ فأوقَعَهم في أنواعِ الأباطيلِ والتُّرَّهاتِ، وفَتَح لهم أبوابَ الدَّعاوى الهائِلاتِ، وأوحى إليهم أنَّ وراءَ العِلمِ طَريقًا إنْ سلكوه أفضى بهم إلى كَشْفِ العِيانِ، وأغناهم عن التقيُّدِ بالسُّنَّةِ والقُرآنِ) [47] يُنظر: ((إغاثة اللهفان)) (1/207). .

انظر أيضا: