الموسوعة العقدية

المَطْلَبُ الثَّاني: كَمالُ المَحَبَّةِ

قال اللهُ تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة: 165] .
وأصلُ التألُّهِ: هو التعَبُّدُ، والتعَبُّدُ هو آخِرُ مَراتِبِ الحُبِّ، يُقالُ: عَبَّده الحُبُّ وتَيَّمَه: إذا مَلَكَه.
قال ابنُ القَيِّمِ: (أخبَرَ أنَّ من أحَبَّ مِن دُونِ اللهِ شَيئًا كما يُحِبُّ اللهَ تعالى، فهو ممَّن اتَّخَذ مِن دُونِ اللهِ أندادًا، فهذا نِدٌّ في المحبَّةِ لا في الخَلْقِ والرُّبوبيَّةِ؛ فإنَّ أحدًا مِن أهلِ الأرضِ لم يُثبِتْ هذا النِّدَّ في الرُّبوبيَّةِ، بخِلافِ نِدِّ المحبَّةِ؛ فإنَّ أكثَرَ أهلِ الأرضِ قد اتَّخَذوا مِن دُونِ اللهِ أندادًا في الحُبِّ والتَّعظيمِ) .
وقال ابنُ كثيرٍ: (لحُبِّهم للهِ وتمامِ مَعرفتِهم به، وتَوقيرِهم وتوحيدِهم له؛ لا يُشرِكونَ به شَيئًا، بل يَعبُدونَه وَحْدَه ويتوكَّلونَ عليه، ويَلجَؤونَ في جميعِ أمورِهم إليهـ) .
وشَرْطُ صِحَّةِ المحَبَّةِ: المتابَعةُ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والعَمَلُ وَفْقَ شَرْعِه، مع الإخلاصِ لله تعالى.
قال اللهُ عزَّ وجَلَّ: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران: 31] .
ومَن لا إخلاصَ له ولا مُتابعةَ يكونُ كاذِبًا في ادِّعائِه مَحَبَّةَ اللهِ .
عن ابنِ جُرَيجٍ في قَولِه: إِنْ كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران: 31] قال: (كان قَومٌ يَزعُمونَ أنَّهم يُحِبُّونَ اللهَ، يقولونَ: إنَّا نُحِبُّ ربَّنا، فأمَرَهم اللهُ أن يتَّبِعوا محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وجَعَل اتِّباعَ محَمَّدٍ عَلَمًا لحُبِّهـ) .
قال ابنُ كثيرٍ: (هذه الآيةُ الكَريمةُ حاكِمةٌ على كُلِّ مَن ادَّعى مَحَبَّةَ اللهِ، وليس هو على الطَّريقةِ المحَمَّديَّةِ؛ فإنَّه كاذِبٌ في دَعواه في نَفْسِ الأمرِ، حتَّى يتَّبِعَ الشَّرعَ المحَمَّديَّ والدِّينَ النبَوِيَّ في جميعِ أقوالِه وأحوالِه، كما ثَبَت في الصَّحيحِ عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: ((مَن عَمِلَ عَمَلًا ليس عليه أمْرُنا، فهو رَدٌّ)) ؛ ولهذا قال: قُلْ إِنْ كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ أي: يَحصُلْ لكم فوقَ ما طلَبْتُم مِن محَبَّتِكم إيَّاه، وهو محَبَّتُه إيَّاكم، وهو أعظَمُ مِن الأوَّلِ، كما قال بَعضُ الحُكَماءِ العُلَماءِ: ليس الشَّأنُ أن تُحِبَّ، إنَّما الشَّأنُ أن تُحَبَّ!) .
وقال السَّعديُّ: (هذه الآيةُ فيها وجوبُ مَحَبَّةِ اللهِ، وعَلاماتُها، ونَتيجتُها، وثَمَراتُها؛ فقال: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ أي: ادَّعَيتُم هذه المَرْتَبةَ العاليةَ، والرُّتْبةَ التي ليس فَوقَها رُتبةٌ، فلا يكفي فيها مُجَرَّدُ الدَّعوى، بل لا بُدَّ مِن الصِّدقِ فيها، وعلامةُ الصِّدقِ اتِّباعُ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في جميعِ أحوالِه؛ في أقوالِه وأفعالِه، في أُصولِ الدِّينِ وفُروعِه، في الظَّاهِرِ والباطِنِ؛ فمن اتَّبَع الرَّسولَ دَلَّ على صِدقِ دَعواه مَحَبَّةَ اللهِ تعالى، وأحَبَّه اللهُ وغَفَر له ذَنْبَه، ورَحِمَه وسَدَّدَه في جميعِ حَرَكاتِه وسَكَناتِه، ومَن لم يتَّبِعِ الرَّسولَ فليس محِبًّا للهِ تعالى؛ لأنَّ محَبَّتَه لله تُوجِبُ له اتِّباعَ رَسولِه، فما لم يوجَدْ ذلك دَلَّ على عَدَمِها، وأنَّه كاذِبٌ إنِ ادَّعاها، مع أنَّها على تقديرِ وُجودِها غيرُ نافِعةٍ بدُونِ شَرْطِها، وبهذه الآيةِ يُوزَنُ جميعُ الخَلْقِ، فعلى حَسَبِ حَظِّهم مِن اتِّباعِ الرَّسولِ يكونُ إيمانُهم وحُبُّهم لله، وما نَقَص مِن ذلك نَقَص) .

انظر أيضا:

  1. (1) يُنظر: ((مدارج السالكين)) (3/21).
  2. (2) يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (1/ 476).
  3. (3) يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (1/333)، ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/84) (3/28).
  4. (4) أخرجه ابن جرير في تفسيره (5/ 325).
  5. (5) أخرجه البخاري معلقاً بصيغة الجزم قبل حديث (7350)، وأخرجه موصولاً مسلم (1718) من حديث عائشةَ رَضِيَ الله عنها.
  6. (6) يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (2/ 32).
  7. (7) يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 128).