الموسوعة العقدية

المطلبُ الثَّالِثُ: فَضْلُ عُثمانَ بنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ عنه

1- من فَضائِلِه ومَناقِبِه رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه جامِعُ القُرآنِ عَلى رَسمٍ واحِدٍ للمُصحَفِ لَمَّا خَشِيَ اختِلافَ النَّاسِ في القُرآنِ.
عن أنسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ حُذَيفةَ بنَ اليَمانِ قَدِمَ عَلى عُثمانَ، وكانَ يُغازي أهلَ الشَّأمِ في فَتحِ أرمينيَّةَ وأذربيجانَ مَعَ أهْلِ العِراقِ، فأفزَعَ حُذَيفةَ اختِلافُهم في القِراءةِ، فقال حُذَيفةُ لعُثمانَ: يا أميرَ المُؤْمِنينَ، أدرِكْ هَذِه الأمَّةَ قَبلَ أن يَختَلِفوا في الكِتابِ اختِلافَ اليَهودِ والنَّصارى، فأرسَلَ عُثمانُ إلى حَفصةَ: أنْ أرسِلي إلَينا بالصُّحُفِ نَنسَخُها في المَصاحِفِ، ثُمَّ نَرُدُّها إلَيكِ، فأرسَلَتْ بها حَفصةُ إلى عُثمانَ، فأمرَ زَيدَ بنَ ثابِتٍ، وعَبدَ اللهِ بنَ الزُّبَيْرِ، وسَعيدَ بنَ العاصِ، وعَبدَ الرَّحمَنِ بنَ الحارِثِ بنِ هِشامٍ، فنَسَخوها في المَصاحِفِ، وقال عُثمانُ للرَّهطِ القُرَشِيِّينَ الثَّلاثةِ: إذا اختَلَفْتُم أنتُم وزيدُ بنُ ثابِتٍ في شَيءٍ مِنَ القُرآنِ، فاكتُبوهُ بلِسانِ قُرَيشٍ؛ فإنَّما نَزَلَ بلسانِهِم، ففَعلوا، حَتَّى إذا نَسَخوا الصُّحُفَ في المَصاحِفِ، رَدَّ عُثمانُ الصُّحُفَ إلى حَفصةَ، وأرسَلَ إلى كُلِّ أفُقٍ بمُصحَفٍ مِمَّا نَسَخوا، وأمرَ بما سِواهُ مِنَ القُرآنِ في كُلِّ صَحيفةٍ أو مُصحَفٍ أن يُحرَقَ [1679] رواه البخاري (4987). .
2- من مَناقِبِه رَضِيَ اللهُ عنه شِدَّةُ حيائِه حَتَّى إنَّ المَلائِكةَ والنَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَستَحْيُونَ مِنهُ.
عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: ((كانَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُضطَجِعًا في بيتي كاشِفًا عن فَخِذَيه أو ساقَيه، فاستَأذَن أبو بَكْرٍ فأذِنَ لهُ وهوَ عَلى تِلكَ الحالِ فتَحدَّثَ، ثُمَّ استَأذَنَ عُمرُ فأذِنَ لهُ وهوَ كذلك فتَحدَّثَ، ثُمَّ استَأذَنَ عُثمانُ، فجَلَس رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وسَوَّى ثيابَه. قال مُحَمَّدٌ -يَعني ابنَ أبي حَرمَلةَ الرَّاوي عنهم-: ولا أقولُ ذلك في يَومٍ واحِدٍ، فدَخلَ فتَحدَّثَ، فلَمَّا خَرجَ قالت عائِشةُ: دَخلَ أبو بَكْرٍ فلَم تَهتَشَّ لهُ، ودَخلَ عُمرُ ولَم تُبالِه، ثُمَّ دَخلَ عُثمانُ فجَلَسْتَ وسَوَّيتَ ثيابَكَ! فقال: ألا أستَحِي من رَجُلٍ تَستَحي مِنهُ المَلائِكةُ )) [1680] رواه مسلم (2401). .
 قال ابنُ بطالٍ: (فإنْ قال قائِلٌ: لمَ غَطَّى النَّبيُّ رُكبَتَهُ حينَ دَخَلَ عليه عُثمانُ بنُ عَفَّانَ؟ قيلَ: قَد بَيَّنَ النَّبيُّ مَعنى ذلك بقَولِه: ((ألا أستَحي مِمَّن تَستَحيي مِنهُ مَلائِكةُ السَّماءِ))، وإنَّما كانَ يَخُصُّ كُلَّ واحِدٍ من أصحابِه مِنَ الفَضائِلِ بما يَتَبَيَّنُ به عن غَيرِه، ويَمتازُ به عَمَّن سِواهُ، وإن كانَ قَد شَرِكَهُ غَيرُهُ من أصحابِه في مَعنى تِلكَ الفَضيلةِ، ولَهُ النَّصيبُ الوافِرُ مِنها، غَيرَ أنَّه عليه السَّلامُ إنَّما كانَ يَصِفُ كُلَّ واحِدٍ من أصحابِه بما هو الغالِبُ عليه من أخلاقِه، وهوَ مَشهورٌ فيه، فلَمَّا كانَ الحياءُ الغالِبَ عَلى عُثمانَ، استَحْيَا مِنهُ، وغَطَّى رُكبَتَهُ بحَضرَتِه، وذَكَرَ أنَّ المَلائِكةَ تَستَحيي مِنهُ، فكانَتِ المُجازاةُ لهُ من جِنسِ فِعْلِه) [1681] يُنظر: ((شرح صحيح البخارى)) (2/ 34). .
 وقال أبو العَبَّاسِ القُرطُبيُّ: (فيه دَليلٌ عَلى جَوازِ مُعاشَرةِ كُلِّ واحِدٍ مِنَ الأصحابِ بحَسَبِ حالِه، ألَّا تَرى انبِساطَهُ واستِرسالَهُ مَعَ العُمَرَينِ عَلى الحالةِ الَّتي كانَ عليها مَعَ أهلِه، لم يُغَيِّرْ مِنها شَيئًا، ثُمَّ إنَّهُ لَمَّا دَخلَ عُثمانُ رَضِيَ اللهُ عنه غَيَّرَ تِلكَ الَّتي كانَ عليها، فغَطَّى فَخِذَيه، وتَهَيَّأ لهُ، ثُمَّ لَمَّا سُئِلَ عن ذلك قال: إنَّ عُثمانَ رَجُلٌ حَيِيٌّ وإنِّي خَشِيتُ إن أذِنْتُ لهُ عَلى تِلكَ الحالِ ألَّا يَبلُغَ إليَّ في حاجَتِه. وفي الرِّوايةِ الأخرى: ألَا أستَحيي من رَجُلٍ تَستَحيي مِنهُ المَلائِكةُ؟! أي: حياءَ التَّوقيرِ والإجلالِ، وتِلكَ مَنْقَبةٌ عَظيمةٌ، وخُصوصيَّةٌ شَريفةٌ ليسَت لغَيرِه) [1682] يُنظر: ((المفهم)) (6/ 263). .
3- من مَناقِبِه رَضِيَ اللهُ عنه إقامَتُهُ للحُدودِ عَلى بَعضِ أقرَبائِه، فلا يُحابي أحَدًا في ذاتِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ.
عن عُبَيدِ اللهِ بنِ عَدِيِّ بنِ الخِيارِ أنَّ المِسوَرَ بنَ مَخْرَمةَ وعَبدَ الرَّحمَنِ بنَ الأسودِ بنِ عَبدِ يَغوثَ قالا: ((ما يَمنَعُكَ أن تُكلِّمَ عُثمانَ لأخيه الوَليدِ؛ فقَد أكثَرَ النَّاسُ فيه؟ فقَصَدْتُ لعُثمانَ حَتَّى خَرجَ إلى الصَّلاةِ، قُلتُ: إنَّ لي إلَيكَ حاجةً، وهيَ نَصيحةٌ لكَ. قال: يا أيُّها المَرءُ -قال مَعْمَرٌ: أُراهُ قال- أعوذُ باللهِ مِنكَ. فانصرَفْتُ، فرَجَعْتُ إلَيهِم إذ جاءَ رَسولُ عُثمانَ فأتيتُه، فقال: ما نَصيحَتُكَ؟ فقُلتُ: إنَّ اللهَ سُبحانَه بَعثَ مُحَمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالحَقِّ، وأنزَلَ عليه الكِتابَ، وكُنتَ مِمَّنِ استَجابَ للهِ ولِرَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فهاجَرْتَ الهِجرَتينِ، وصَحِبْتَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ورَأيتَ هَدْيَه، وقَد أكثَرَ النَّاسُ في شَأنِ الوَليدِ. قال: أدرَكتَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ قُلتُ: لا، ولَكِن خَلَصَ إليَّ من عِلمِه ما يَخْلُصُ إلى العَذراءِ في سِترِها، قال: أمَّا بَعدُ، فإنَّ اللهَ بَعثَ مُحَمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالحَقِّ، فكُنتُ مِمَّنِ استِجابَ للهِ ولِرسولِه، وآمَنتُ بما بُعِثَ به، وهاجَرْتُ الهِجرَتين كما قُلتَ، وصَحِبْتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وبايِعْتُهُ، فواللهِ ما عَصَيتُهُ ولا غَشَشْتُهُ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللهُ، ثُمَّ أبو بَكْرٍ مِثلُهُ، ثُمَّ عُمرُ مِثلُهُ، ثُمَّ استُخْلِفْتُ، أفليس لي مِنَ الحَقِّ مِثلُ الَّذي لهم؟ قُلتُ: بلى. قال: فما هَذِه الأحاديثُ الَّتي تَبلُغُني عنكم؟ أمَّا ما ذَكَرْتَ من شَأنِ الوَليدِ، فسَنَأخُذُ فيه بالحَقِّ إنْ شاءَ اللَّهُ. ثُمَّ دَعَا عَلِيًّا فأمرَهُ أن يَجْلِدَهُ، فجَلدَهُ ثَمانينَ )) [1683] رواه البخاري (3696). .
قال ابنُ هُبَيرةَ: (فيه ما يَدُلُّ عَلى تَقوى عُثمانَ؛ إذ جَلَدَ ابنَ عَمِّهِ الوَليدَ، واستَوفى حَدَّ اللهِ مِنه) [1684] يُنظر: ((الإفصاح)) (1/ 235). .
4- من مَناقِبِه رَضِيَ اللهُ عنه وفَضائِلِهِ مُشارَكَتُهُ في تَوسِعةِ مَسجِدِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في حَياتِه، وشِراؤُهُ بْئِرَ رُومةَ، وتَجهيزُهُ جَيشَ العُسْرةِ.
عن ثُمامةَ بنِ حَزْنٍ القُشَيريِّ قال: شَهِدْتُ الدَّارَ يَومَ أُصيبَ عُثمانُ، فاطَّلَع عليه اطِّلاعةً، فقال: ادْعُوا لي صاحِبَيكم اللَّذينِ ألَّباكم عَلَيَّ، فدُعِيَا لهُ، فقال: أنشُدُكما اللهَ، تَعْلَمانِ أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَمَّا قَدِمَ المَدينةَ ضاقَ المَسجِدُ بأهلِه، فقال: ((مَن يَشتَري هَذِه البُقعةَ من خالِصِ مالِه فيَكونُ كالمُسْلِمينَ ولَهُ خَيرٌ مِنها في الجَنَّةِ؟)) فاشتَرَيتُها من خالِص مالي فجَعلتُها بَينَ المُسْلِمينَ، وأنتُم تَمنَعوني أنْ أصلِّيَ فيها رَكعَتينِ! ثُمَّ قال: أنشُدُكمُ اللهَ أتَعلَمونَ أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَمَّا قَدِمَ المَدينةَ لم يَكُن فيه بِئرٌ يُستَعذَبُ مِنهُ إلَّا بِئرُ رُومةَ، فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن يَشتَريها من خالِصِ مالِه فيَكونُ دَلْوُهُ فيها كدِلاءِ المُسْلِمينَ ولَهُ خَيرٌ مِنها في الجَنَّةِ؟)) فاشتَرَيتُها من خالِصِ مالي، فأنتَم تَمنَعوني أن أشرَبَ مِنها! ثُمَّ قال: هَل تَعلَمونَ أنِّي صاحِبُ جَيشِ العُسْرةِ؟ قالوا: اللَّهمَّ نَعَمْ)) [1685] أخرجه من طرق: الترمذي (3703)، والنسائي (3608) مطولًا، وعبد الله بن أحمد في ((زوائد المسند)) (555) واللَّفظُ له.  حسَّنه الترمذي، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (3703)، وصحَّح إسنادَه أحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (2/14)، وحسَّنه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (555). والحديث أخرجه من طريق آخر البخاري معلقًا بصيغة الجزم (2778)، وأخرجه موصولًا الدارقطني (4/199)، والبيهقي (12284) مختصرًا وذكر الدارقطني في ((الإلزامات والتتبع)) (274) أن فيه اختلافًا. .
5- من مَناقِبِه رَضِيَ اللهُ عنه وصفُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لهُ بالأمينِ الَّذي يَلجَأ النَّاسُ إلَيه عِندَ وُقوعِ فِتنةٍ أو حُدوثِ اختِلافٍ.
عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: إنِّي سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: إنَّكم تَلْقَونَ بَعْدِي فِتنةً واختِلافًا -أو قال: اختِلافًا وفِتنةً- فقال قائِلٌ مِنَ النَّاسِ: فمَن لنا يا رَسولَ اللَّهِ؟ قال: عليكم بالأمينِ وأصحابِه، وهوَ يُشيرُ إلى عُثمانَ بذلك [1686] رواه أحمد (8541)، والحاكم (8335). صحَّحه ابنُ كثير في ((البداية والنهاية)) (6/212)، وصحَّح إسنادَه الحاكم، وأحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (16/224)، وحسَّنه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (8541)، ووثق رجاله الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (3188). .

انظر أيضا: