الفَرعُ السَّادِسُ مِن آثارِ التبَرُّكِ الممنوعِ: إضاعةُ السُّنَنِ
مِن خَصائِصِ البِدَعِ تَضييعُ السُّنَنِ؛ فالقُلوبُ إذا اشتَغَلت بالبِدَعِ أعرَضَت عن السُّنَنِ
.
قال
الشَّاطبيُّ: (... وعلى ذلك دَلَّ حديثُ معاذٍ:
((فيُوشِكُ قائِلٌ أن يقولَ: ما لهم لا يتَّبِعوني وقد قرأتُ القُرآنَ؟! ما هم بمتَّبِعِيَّ حتى أبتَدِعَ لهم غيرَه! وإيَّاكم وما ابتُدِعَ، فإنَّ ما ابتُدِعَ ضَلالةٌ ))، فهو يقتضي أنَّ السُّنَنَ تموتُ إذا أُحيِيَت البِدَعُ، وإذا ماتت انهدَمَ الإسلامُ.
وعلى ذلك دَلَّ النَّقلُ عن السَّلَفِ الصَّالحِ زيادةً إلى صِحَّةِ الاعتبارِ؛ لأنَّ الباطِلَ إذا عُمِلَ به لَزِمَ تَركُ العَمَلِ بالحَقِّ، كما في العَكسِ؛ لأنَّ المحَلَّ الواحِدَ لا يَشتَغِلُ إلَّا بأحَدِ الضِّدَّينِ، وأيضًا فمِن السُّنةِ الثابتةِ تَرْكُ البِدَعِ، فمَن عَمِلَ ببِدعةٍ واحِدةٍ فقد تَرَك تلك السُّنَّةَ)
.
وعن
ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: (ما يأتي على النَّاسِ مِن عامٍ إلَّا أحدَثوا فيه بِدعةً، وأماتوا فيه سُنَّةً، حتى تحيا البِدَعُ، وتموتَ السُّنَنُ)
.
وعن أبي إدريسَ الخَولانِّي أنَّه كان يقولُ: (ما أحدَثَت أُمَّةٌ في دينِها بِدعةً إلَّا رَفَع اللهُ بها عنهم سُنَّةً)
.
وعن حَسَّانَ بنِ عَطيَّةَ قال: (ما أحدَثَ قومٌ بِدعةً في دينِهم إلَّا نَزَع اللهُ مِن سُنَّتِهم مِثْلَها، ثمَّ لم يُعِدْها إليهم إلى يومِ القيامةِ)
.
قال
ابنُ تيميَّةَ وهو يُعَدِّدُ بَعضَ مفاسِدِ البِدَعِ: (منها: أنَّ الخاصَّةَ والعامَّةَ تَنقُصُ بسَبَبِها عنايتُهم بالفرائِضِ والسُّنَنِ، ورَغبتُهم فيها، فتَجِدُ الرَّجُلَ يجتَهِدُ فيها، ويُخلِصُ ويُنيبُ، ويَفعَلُ فيها ما لا يَفعَلُه في الفرائِضِ والسُّنَنِ، حتَّى كأنَّه يَفعَلُ هذه عبادةً، ويَفعَلُ الفرائِضَ والسُّنَنَ عادةً ووظيفةً! وهذا عَكسُ الدِّينِ، فيَفوتُه بذلك ما في الفَرائِضِ والسُّنَنِ مِن المَغفرةِ والرَّحمةِ والرِّقَّةِ والطَّهارةِ والخُشوعِ، وإجابةِ الدَّعوةِ، وحَلاوةِ المناجاةِ، إلى غَيرِ ذلك من الفوائِدِ، وإنْ لم يَفُتْه هذا كُلُّه، فلا بُدَّ أن يفوتَه كَمالُهـ)
.
ومن الأمثِلةِ على ما يؤَدِّي إليه التبَرُّكُ الممنوعُ مِن إضاعةِ بَعضِ الواجِباتِ والسُّنَنِ: التبَرُّكُ بقُبورِ الأنبياءِ والصَّالحين، والعُكوفُ عندها ومجاورتُه؛ فقد صار ذلك عند بعضِهم أحَبَّ إليهم من العُكوفِ في المسجِدِ الحرامِ؛ وتفضيلُ زيارةِ المشاهِدِ التي على القُبورِ على حَجِّ البَيتِ الحَرامِ
!
قال
ابنُ تيميَّةَ: (وقد بَلَغ
الشَّيطانُ بهذه البِدَعِ إلى الشِّرْكِ العظيمِ في كثيرٍ مِن النَّاسِ، حتَّى إنَّ منهم من يعتَقِدُ أنَّ زيارةَ المشاهِدِ التي على القُبورِ -إمَّا قَبرٌ لنَبيٍّ، أو شيخٍ، أو بعضِ أهلِ البيتِ- أفضَلُ مِن حَجِّ البيتِ الحرامِ، ويُسَمِّي زيارتَها: الحَجَّ الأكبَرَ! ومِن هؤلاء من يرى أنَّ السَّفَرَ لزيارةِ قَبرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أفضَلُ مِن حَجِّ البيتِ! وبعضُهم إذا وصل المدينةَ رجع وظَنَّ أنَّه حَصَل له المقصودُ! وهذا لأنَّهم ظَنُّوا أنَّ زيارةَ القُبورِ لأجْلِ الدُّعاءِ عِندَها و
التوَسُّلِ بها، وسؤالِ الميِّتِ ودُعائِه.
ومعلومٌ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أفضَلُ مِن الكعبةِ، ولو عَلِموا أنَّ المقصودَ إنَّما هو عبادةُ اللهِ وَحْدَه لا شريكَ له، وسُؤالُه ودعاؤُه، والمقصودَ بزيارةِ القبورِ الدُّعاءُ لها، كما يُقصَدُ بالصَّلاةِ على المَيِّت- لزال هذا عن قُلوبِهم؛ ولهذا كثيرٌ مِن هؤلاء يسأَلُ المَيِّتَ والغائِبَ، كما يسألُ رَبَّه، فيقولُ: اغفِرْ لي وارحَمْني، وتُبْ عَلَيَّ، ونحوَ ذلك)
.
ومِن الآثارِ السَّيِّئةِ للتبَرُّكِ الممنوعِ: أنَّه يؤدِّي إلى التغريرِ بالجُهَّالِ وفِتنَتِهم؛ لِما يحتويه هذا التبَرُّكُ مِن مظاهِرَ برَّاقةٍ وجَذَّابةٍ في بَعضِ الأحيانِ؛ كالمشاهِدِ والمزاراتِ، وما يُقامُ فيها من أعيادٍ واحتِفالاتٍ مُبتَدَعةٍ، فإذا رأى الجاهِلُ ذلك قد يتأثَّرُ ويغتَرُّ، خُصوصًا مع كَثرةِ أهْلِها
.