الموسوعة العقدية

المَبْحَثُ الرَّابعُ: من قواعِدِ وضَوابِطِ التَّكفيرِ عند أهلِ السُّنَّةِ: الحُكمُ بالظَّاهِرِ

قال النووي: (القاعِدةُ المعروفةُ في الفِقهِ والأصولِ: أنَّ الأحكامَ يُعمَلُ فيها بالظَّاهِرِ، واللهُ يتولَّى السَّرائِرَ) [1303] يُنظر: ((شرح مسلم)) (2/107). .
وقال ابنُ تيميَّةَ: (إنَّ الإيمانَ الذي عُلِّقَت به أحكامُ الدُّنْيا، هو الإيمانُ الظَّاهِرُ، وهو الإسلامُ، فالمسَمَّى واحِدٌ في الأحكامِ الظَّاهرةِ) [1304] يُنظر: ((الإيمان)) (ص: 325).  .
وقال أيضًا: (الإيمانُ الظَّاهِرُ الذي تجري عليه الأحكامُ في الدُّنْيا لا يستلزِمُ الإيمانَ في الباطِنِ الذي يكونُ صاحِبُه من أهلِ السَّعادةِ في الآخِرةِ) [1305] يُنظر: ((الإيمان)) (ص: 166). .
وقال الشَّاطبي: (إنَّ أصلَ الحُكمِ بالظَّاهِرِ مَقطوعٌ به في الأحكامِ خُصوصًا، وبالنِّسبةِ إلى الاعتقادِ في الغيرِ عُمومًا؛ فإنَّ سَيِّدَ البَشَرِ مع إعلامِه بالوَحْيِ يُجري الأمورَ على ظواهِرِها في المنافِقين وغيرِهم، وإن عَلِمَ بواطِنَ أحوالِهم، ولم يكُنْ ذلك بمُخْرِجِه عن جَرَيانِ الظَّواهِرِ على ما جَرَت عليه) [1306] يُنظر: ((الموافقات)) (2/467). .
وقال ابنُ حَجَرٍ: (كُلُّهم أجمعوا على أنَّ أحكامَ الدُّنْيا على الظَّاهِرِ، واللهُ يتوَلَّى السَّرائِرَ) [1307] يُنظر: ((فتح الباري)) (12/273). .
وأدِلَّةُ هذه القاعِدةِ كثيرةٌ؛ منها:
أولًا: قَولُه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [النساء: 94] .
قال الشوكاني: (أي: لا تقولوا لِمن ألقى إليكم التَّسليمَ، فقال: السَّلامُ عليكم: لستَ مُؤمِنًا، والمرادُ نهيُ المُسْلِمين عن أن يُهمِلوا ما جاء به الكافِرُ ممَّا يُستدَلُّ به على إسلامِه، ويقولوا: إنَّه إنَّما جاء بذلك تعوُّذًا وتَقِيَّةً) [1308] يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (1/579). .
ثانيًا: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا، وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا، وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا؛ فَذَلِكَ الْمُسْلِمُ الَّذِي لَهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ، فَلَا تُخْفِرُوا اللَّهَ فِي ذِمَّتِهِ )) [1309] أخرجه البخاري (391). .
قال القَسطَلانيُّ: (فإن قلتَ: لم خَصَّ الثَّلاثةَ بالذِّكرِ من بين الأركانِ وواجباتِ الدِّينِ؟ أُجيبَ بأنَّها أظهَرُ وأعظَمُ وأسرَعُ عِلمًا؛ لأنَّ في اليومِ تُعرَفُ صلاةُ الشَّخصِ وطعامُه غالبًا؛ بخلافِ الصَّومِ والحَجِّ كما لا يخفى) [1310] يُنظر: ((إرشاد الساري)) (1/411). .
وقال محمَّدُ بنُ عبدِ الوَهَّابِ: (إنَّ مَنْ أظهَرَ التَّوحيدَ والإسلامَ وَجَب الكَفُّ عنه إلى أن يتبيَّنَ منه ما يُناقِضُ ذلك) [1311] يُنظر: ((كشف الشبهات)) (ص: 48). .
ثالثًا: عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((أُمِرتُ أن أقاتِلَ النَّاسَ حتى يَشهَدوا أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأنَّ مُحمَّدًا رسولُ اللهِ، ويقيموا الصَّلاةَ، ويُؤتوا الزَّكاةَ، فإذا فَعَلوا ذلك عَصَموا مني دماءَهم وأموالَهم إلَّا بحَقِّ الإسلامِ، وحِسابُهم على اللهِ)) [1312] أخرجه البخاري (25) واللَّفظُ له، ومسلم (22). .
قال البَغَويُّ: (في الحديثِ دليلٌ على أنَّ أمورَ النَّاسِ في مُعامَلةِ بَعضِهم بعضًا إنَّما تجري على الظَّاهِرِ مِن أحوالِهم دوَن باطِنِها، وأنَّ من أظهَرَ شِعارَ الدِّينِ أُجري عليه حُكمُه، ولم يُكشَفْ عن باطِنِ أمْرِه، ولو وُجِد مختونٌ فيما بين قتلى غُلفٍ، عُزِلَ عنهم في المدفَنِ، ولو وُجِدَ لقيطٌ في بلد المُسْلِمين حُكِمَ بإسلامِه) [1313] يُنظر: ((شرح السنة)) (1/70). .
وقال ابنُ حَجَر: (فيه دليلٌ على قَبولِ الأعمالِ الظَّاهِرةِ، والحُكمِ بما يقتضيه الظَّاهِرُ) [1314] يُنظر: ((فتح الباري)) (1/77)، ((شرح النووي)) (1/212)، ((جامع العلوم والحكم)) (225). .
رابعًا: عن أُسامةَ بنِ زَيدٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: بعَثَنا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في سَرِيًّةٍ فصَبَّحْنا الحُرُقاتِ مِن جُهَينةَ [1315] الحُرُقات من جُهَينة: قومٌ من قبيلةِ جُهينةَ. ، فأدركتُ رجلًا فقال: لا إلهَ إلَّا اللهُ، فطعَنْتُه، فوقع في نفسي من ذلك، فذكَرْتُه للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أقال: لا إله إلَّا اللهُ وقتَلْتَه؟ !)) قال: قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ إنَّما قالها خوفًا من السِّلاحِ! قال: ((أفلا شَقَقْتَ عن قَلْبِه حتى تعلَمَ أقالها أم لا ؟!)) فما زال يُكَرِّرُها عليَّ حتى تمنَّيتُ أني أسلَمْتُ يومَئذٍ [1316] أخرجه البخاري (6872)، ومسلم (96) واللَّفظُ له. .
قال النووي: (قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أفلا شَقَقْتَ عن قَلْبِه حتى تعلَمَ أقالَها أم لا ))؟ الفاعِلُ في قوله: ((أقالَها)) هو القَلْبُ، ومعناه: أنَّك إنَّما كُلِّفْتَ بالعَمَلِ بالظَّاهِرِ، وما ينطِقُ به اللِّسانُ، وأمَّا القَلْبُ فليس لك طريقٌ إلى معرفةِ ما فيه. فأنكَرَ عليه امتناعَه من العَمَل بما ظَهَر باللِّسانِ، وقال: أفلا شقَقْتَ عن قَلْبِه لتنظُرَ: هل قالها القَلْبُ واعتقَدَها وكانت فيه أم لم تكُنْ فيه بل جَرَت على اللِّسانِ فحَسْبُ؟ يعني: وأنت لستَ بقادِرٍ على هذا، فاقتَصِرْ على اللِّسانِ فحَسْبُ) [1317] يُنظر: ((شرح مسلم)) (2/104). .

انظر أيضا: