الموسوعة العقدية

الفَصلُ الأوَّلُ: هل الإيمانُ مخلوقٌ؟

إيمانُنا مخلوقٌ؛ لأنَّه اعتقادٌ بقُلوبِنا، وقَولٌ بألسِنَتِنا، وعَمَلٌ بجوارحِنا، أمَّا ما نؤمِنُ به فمنه ما هو مخلوقٌ، ومنه ما هو غيرُ مخلوقٍ؛ فاللهُ سُبحانَه غيرُ مخلوقٍ، وكلامُه غيرُ مخلوقٍ، وكذلك صفاتُ اللهِ وأفعالُه غيرُ مخلوقةٍ، وأمَّا ملائكتُه ورُسُلُه واليومُ الآخِرُ فكُلُّها مخلوقةٌ.
 وقد سُئِلَ أحمَدُ بْنُ حَنبَلٍ عن الإيمانِ: مخلوقٌ أم لا؟ فقال: (أمَّا ما كان من مسموعٍ فهو غيرُ مخلوقٍ، وأمَّا ما كان من عَمَلِ الجوارحِ فهو مخلوقٌ) [890] يُنظر: ((طبقات الحنابلة)) لابن أبي يعلى (1/94). .
وقال ابنُ قُتَيبةَ: (الإيمانُ مخلوقٌ؛ لأنَّه لَفظٌ باللِّسانِ، وعَقدٌ بالقَلْبِ، واستعمالٌ للجوارحِ، وكُلُّ هذه أفعالٌ للعبادِ، ثم كُلُّ هذه غرائِزُ ركَّبها اللهُ في العبادِ، وسَمَّاها الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إيمانًا) [891] يُنظر: ((الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية)) (ص: 66). .
وقال ابنُ تيميَّةَ لما سُئل: هل الإيمانُ مخلوقٌ أم غيرُ مخلوقٍ؟: (هذه المسألةُ نشأ النِّزاعُ فيها لَمَّا ظَهَرت محنةُ الجَهميَّةِ في القُرآنِ: هل هو مخلوقٌ أو غيرُ مخلوقٍ؟ وهي محنةُ الإمامِ أحمَدَ وغَيرِه من عُلَماءِ المُسلِمين، وقد جرت فيها أمورٌ يطولُ وَصْفُها هنا، لكِنْ لَمَّا ظَهَر القولُ بأنَّ القُرآنَ كَلامُ اللهِ غيرُ مخلوقٍ، وأطفأ اللهُ نارَ الجَهميَّةِ المعَطِّلةِ، صارت طائفةٌ يقولون: إنَّ كلامَ اللهِ الذي أنزله مخلوقٌ، ويُعَبِّرون عن ذلك باللَّفظِ، فصاروا يقولون: ألفاظُنا بالقُرآنِ مخلوقةٌ، أو تلاوتُنا أو قراءتُنا مخلوقةٌ، وليس مقصودُهم مجَرَّدَ كَلامِهم وحركاتِهم، بل يُدخِلون فيه نَفْسَ كَلامِ اللهِ الذي نقرؤُه بأصواتِنا وحركاتِنا، وعارضَهم طائفةٌ أخرى فقالوا: ألفاظُنا بالقُرآنِ غيرُ مخلوقةٍ؛ فرَدَّ الإمامُ أحمد على الطائفتينِ وقال: من قال: لفظي بالقُرآنِ مخلوقٌ، فهو جهميٌّ، ومن قال: غيرُ مخلوقٍ، فهو مبتَدِعٌ. وتكَلَّم النَّاسُ حينئذ بالإيمانِ، فقالت طائفةٌ: الإيمانُ مخلوقٌ، وأدرَجوا في ذلك ما تكَلَّم اللهُ به من الإيمانِ، مِثلُ قَولِ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، فصار مقتَضى قَولِهم أنَّ هذه الكَلِمةَ مخلوقةٌ، ولم يتكَلَّمِ اللهُ بها، فبدَّع الإمامُ أحمدُ هؤلاء، وقال: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((الإيمانُ بِضعٌ وسِتُّون شُعبةً، أعلاها قَولُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ )) [892] أخرجه البخاري (9) بنحوه، ومسلم (35) باختِلافٍ يسيرٍ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. أفيكونُ قَولُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، مخلوقًا؟! ومرادُه أنَّ من قال: هي مخلوقةٌ مُطلَقًا كان مقتضى قَولِه أنَّ اللهَ لم يتكَلَّمْ بهذه الكَلِمةِ، كما أنَّ من قال: إنَّ ألفاظَنا وتلاوتَنا وقراءتَنا للقُرآنِ مخلوقةٌ، كان مقتضى كلامِه أنَّ اللهَ لم يتكَلَّمْ بالقُرآنِ الذي أنزَلَه، وأنَّ القُرآنَ المنَزَّلَ ليس هو كلامَ اللهِ) [893] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (7/655).                           .
وقال ابنُ تيميَّةَ أيضًا: (وإذا قال: الإيمانُ مخلوقٌ أو غيرُ مخلوقٍ؟ قيل له: ما تريدُ بالإيمانِ؟ أتريدُ شيئًا من صفاتِ اللهِ وكلامِه، كقَولِ: (لا إلهَ إلَّا اللهُ) و(إيمانِه) الذي دَلَّ عليه اسمُه المُؤمِن؟ فهو غيرُ مخلوقٍ، أو تريدُ شيئًا من أفعالِ العِبادِ وصِفاتِهم؛ فالعبادُ كُلُّهم مخلوقون، وجميعُ أفعالِهم وصفاتِهم مخلوقةٌ، ولا يكونُ للعَبدِ المحْدَثِ المخلوقِ صِفةٌ قديمةٌ غيرُ مخلوقةٍ، ولا يقولُ هذا من يتصَوَّرُ ما يقولُ، فإذا حصل الاستفسارُ والتفصيلُ ظهر الهُدى، وبان السَّبيلُ، وقد قيل: أكثَرُ اختلافِ العُقَلاءِ مِن جهةِ اشتراكِ الأسماءِ وأمثالِها مِمَّا كَثُر فيه تنازُعُ النَّاسِ بالنَّفيِ والإثباتِ، إذا فُصلَ فيها الخِطابُ ظهر الخطَأُ من الصَّوابِ. والواجِبُ على الخَلْقِ أنَّ ما أثبته الكِتابُ والسُّنَّةُ أثبَتوه، وما نفاه الكتابُ والسُّنَّةُ نَفَوه، وما لم ينطِقْ به الكتابُ والسُّنَّةُ لا بنَفيٍ ولا إثباتٍ استفصَلوا فيه قَولَ القائِلِ: فمن أثبَتَ ما أثبته اللهُ ورَسولُه، فقد أصاب، ومن نفى ما نفاه اللهُ ورَسولُه فقد أصاب، ومن أثبت ما نفاه اللهُ أو نفى ما أثبته اللهُ، فقد لَبَسَ دينَ الحَقِّ بالباطِلِ؛ فيَجِبُ أن يُفَصلَ ما في كلامِه مِن حَقٍّ أو باطلٍ، فيُتَّبَعَ الحقُّ ويُترَكَ الباطِلُ، وكُلُّ ما خالف الكِتابَ والسُّنَّةَ فإنَّه مخالِفٌ أيضًا لصَريحِ المعقولِ؛ فإنَّ العقلَ الصَّريحَ لا يخالِفُ النَّقلَ الصَّحيحَ، كما أنَّ المنقولَ عن الأنبياءِ عليهم السَّلَامُ لا يخالِفُ بعضُه بعضًا، ولكنْ كثيرٌ من النَّاسِ يظُنُّ تناقُضَ ذلك، وهؤلاء من الذين اختَلَفوا في الكِتابِ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ [البقرة: 176] ، ونسألُ اللهَ أن يَهْدِيَنا الصَّراطَ المستقيمَ، صِراطَ الذين أنعَمَ عليهم من الأنبياءِ والصِّدِّيقين والشُّهداءِ والصَّالحينَ، وحَسُنَ أولئك رفيقًا) [894] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (7/664).                                          .
وقال ابنُ تيميَّةَ: (إنَّ السَّلَفَ والأئِمَّةَ -الإمامَ أحمَدَ وغَيرَه- لم يقُلْ أحَدٌ منهم: إنَّ كلامَ الآدميِّين غيرُ مخلوقٍ، ولا قالوا: إنَّه قديمٌ، ولا إنَّ أفعالَ العبادِ غيرُ مخلوقةٍ، ولا إنَّها قديمةٌ. ولا قالوا أيضًا: إنَّ الإيمانَ قديمٌ، ولا إنَّه غيرُ مخلوقٍ، ولا قالوا: إنَّ لَفظَ العبادِ بالقُرآنِ مخلوقٌ، ولا إنَّه غيرُ مخلوقٍ، ولكِنْ مَنَعوا من إطلاقِ القَولِ بأنَّ الإيمانَ مخلوقٌ، وأنَّ اللَّفظَ بالقُرآنِ مخلوقٌ؛ لِما يدخُلُ في ذلك من صفاتِ اللهِ تعالى، ولِما يُفهِمُه هذا اللفظُ من أنَّ نَفْسَ كلامِ الخالِقِ مخلوقٌ، وأنَّ نَفْسَ هذه الكَلِمةِ مخلوقٌ، ومَنَعوا أن يقالَ: حُروفُ الهِجاءِ مخلوقةٌ؛ لأنَّ القائِلَ هذه المقالاتِ يَلزَمُه ألَّا يكونَ القُرآنُ كَلامَ اللهِ، وأنَّه لم يكَلِّمْ موسى، فجاء أقوامٌ أطلقوا نقيضَ ذلك، فقال بعضُهم: لفظي بالقُرآنِ غيرُ مخلوقٍ، فبَدَّع الإمامُ أحمدُ وغَيرُه من الأئِمَّةِ مَن قال ذلك، وكذلك أطلقَ بَعضُهم القَولَ بأنَّ الإيمانَ غيرُ مخلوقٍ، حتى صار يُفهَمُ من ذلك أنَّ أفعالَ العبادِ التي هي إيمانٌ غيرُ مخلوقةٍ، فجاء آخَرون فزادوا على ذلك فقالوا: كلامُ الآدميِّين مُؤَلَّفٌ من الحروفِ التي هي غيرُ مخلوقةٍ، فيكونُ غيرَ مخلوقٍ، وقال آخرون: فأفعالُ العبادِ كُلُّها غيرُ مخلوقةٍ، والبِدعةُ كُلَّما فُرِّع عليها وذُكِرَ لوازِمُها زادت قُبحًا وشناعةً، وأفضَت بصاحِبِها إلى أن يخالِفَ ما يُعلَمُ بالاضطرارِ من العَقلِ والدِّينِ) [895] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (8/422). .
وقال السَّفارينيُّ: (قال أحمد: من قال: الإيمانُ مخلوقٌ، كَفَر، ومن قال: غيرُ مخلوقٍ، ابتَدَع. فقيل: بالوَقْفِ مُطلقًا، وقيل: أقوالُه قديمةٌ وأفعالُه مخلوقةٌ. قال ابنُ حمدان في نهايةِ المبتدئين: وهو أصَحُّ. ونقله عن ابنِ أبي موسى وغيرِه. ونقل الإمامُ الحافِظُ ابنُ رَجَبٍ في "طبقات الأصحاب" في ترجمةِ الحافِظِ عبدِ الغنيِّ المَقْدسيِّ -قَدَّس اللهُ رُوحَه- ما لَفظُه، قال: رُوِيَ عن إمامِنا أحمَدَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه قال: من قال: الإيمانُ مخلوقٌ فهو كافِرٌ، ومن قال: قديمٌ، فهو مبتَدِعٌ. قال الحافِظُ عبد الغني: وإنَّما كَفَّر من قال بخَلْقِه؛ لأنَّ الصَّلاةَ مِن الإيمانِ، وهي تشتَمِلُ على قراءةٍ وتسبيحٍ وذِكرِ اللهِ عزَّ وجَلَّ، ومن قال بخَلْقِ ذلك كَفَر، وتشتَمِلُ على قيامٍ وقعودٍ وحركةٍ وسُكونٍ، ومن قال بقِدَمِ ذلك ابتَدَع. انتهى بحُروفِه. والله تعالى الموفِّقُ) [896] يُنظر: ((لوامع الأنوار البهية)) (1/446). .
 وقال ابنُ عُثَيمين: (أمَّا هل الإيمانُ مخلوقٌ أو غيرُ مخلوقٍ؟ فهذا مُحدَثٌ؛ حَدَث بعد أن حَدَث القَولُ بخَلْقِ القُرآنِ، فصار المتكَلِّمون يتحَدَّثون ويتساءلون: هل إيمانُ العبدِ مخلوقٌ أو غيرُ مخلوق؟ فإن قيل: مخلوقٌ فهو خطأٌ، وإن قيل: غيرُ مخلوقٍ فهو خطأٌ.
ولهذا قال المؤلِّفُ رحمه الله هنا يعني: السَّفارينيَّ: «لا تَقُلْ: إيمانُنا مخلوقٌ ولا قديمٌ»، وقديمٌ بمعنى غيرِ مخلوقٍ؛ لأنَّ القديمَ عندهم هو الشَّيءُ الأَزَليُّ الذي لم يُخلَقْ مِن عَدَمٍ، يعني: لا تَقُلْ هذا ولا هذا، بل قُلْ: آمَنْتُ باللهِ، أو أنا مُؤمِنٌ، سواءٌ كان مخلوقًا أو غيرَ مخلوقٍ.
ولهذا يقولُ المؤلِّفُ رحمه الله: إنَّ الإيمانَ يَشمَلُ شَيئًا مُحدَثًا، والمحْدَثُ مخلوقٌ، وشيئًا غيرَ مُحْدَثٍ، وغَيرُ المحْدَثِ غيرُ مخلوقٍ؛ قال: «فإنَّه يشمَلُ الصَّلاةَ»، والصَّلاةُ فيها قَولٌ وفِعلٌ، فالأفعالُ التي في الصَّلاةِ كُلُّها مخلوقةٌ؛ لأنَّها صفةٌ حادثٌ، وصِفةُ الحادِثِ حادِثٌ؛ لذلك قال المؤلِّفُ رحمه الله: «ففِعْلُنا نحوَ الركوعِ مُحْدَثٌ».
والأقوالُ التي في الصَّلاةِ منها مخلوقٌ، ومنها غيرُ مخلوقٍ، ففيها: قراءةُ القُرآنِ، والقُرآنُ غيرُ مخلوقٍ، وهو من الإيمانِ؛ لذلك قال المؤلِّفُ: «وكُلُّ قُرآنٍ قديمٌ، فابحَثوا».
فمعنى كلامِ المؤَلِّف: لا تَقُلْ: إيماني مخلوقٌ، ولا غيرُ مخلوقٍ؛ لأنَّك ستركعُ، والركوعُ مخلوقٌ، وستقرأ القُرآنَ، والقُرآنُ غيرُ مخلوقٍ، وكُلُّ ذلك من الإيمانِ.
ولكِنَّ القَولَ الرَّاجِحَ في هذه المسألةِ أنَّ إيمانَنا كُلَّه مخلوقٌ؛ أما قراءةُ القُرآنِ فإنَّ القراءةَ التي هي فِعلُ القارئِ مخلوقةٌ، وأمَّا القُرآنُ نَفْسُه فغيرُ مخلوقٍ، لكِنَّ القُرآنَ ليس هو إيمانُ العَبدِ نَفْسُه، وإنَّما القُرآن مِمَّا يؤمِنُ به العبدُ، وهناك فَرْقٌ بين إيمانِنا، وما نؤمِنُ به، فكلامُنا بالقُرآنِ مخلوقٌ، لكِنْ ما نتكَلَّمُ به غيرُ مخلوقٍ.
ولهذا فإنَّنا نقولُ: إنَّ كلامَ المؤلِّفِ -رحمه الله- هنا فيه نظَرٌ، بل الصَّوابُ أن نقولَ: إيمانُنا كُلُّه مخلوقٌ، والقُرآنُ ليس هو الإيمانَ، ولكِنْ قراءةُ القُرآنِ هي التي من الإيمانِ؛ لأنَّ الإيمانَ عندنا -أهلَ السُّنَّة- قَولٌ باللِّسانِ، وعَمَلٌ بالأركانِ، واعتقادٌ بالجَنانِ.
وعلى هذا فمَن قال: إيماني مخلوقٌ، فقد صَدَق، أمَّا ما آمن به ففيه التفصيلُ؛ منه: ما هو مخلوقٌ، ومنه: ما هو غيرُ مخلوقٍ. رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مخلوقٌ وأنا مُؤمِن به، والقُرآنُ غيرُ مخلوقٍ وأنا مُؤمِنٌ به، وكذلك الإيمانُ باللهِ وملائِكَتِه وكُتُبِه ورُسُلِه واليومِ الآخِرِ؛ فالملائكةُ مخلوقون، والكُتُبُ غيرُ مخلوقةٍ، والإيمانُ بالرُّسُلِ إيمانٌ بمخلوقٍ، واليومُ الآخِرُ مخلوقٌ.
فصار المُؤمَنُ به منه مخلوقٌ، ومنه غيرُ مخلوقٍ، أمَّا مجَرَّدُ إيمانِ العبدِ فإنَّه مخلوقٌ؛ لأنَّه حادِثٌ، فالعَبدُ لم يكُنْ شيئًا مذكورًا، ثمَّ كان وأحْدَثَ الإيمانَ، وعلى هذا فالقَولُ الصَّحيحُ أنَّه يجوزُ أن يقولَ الإنسانُ: إيماني مخلوقٌ؛ لأنَّني مخلوقٌ) [897] يُنظر: ((شرح العقيدة السفارينية)) (ص: 415-417). .

انظر أيضا: