الموسوعة العقدية

المَطلَب الثَّامِنُ: رُؤيةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الجَنَّةَ والنَّارَ في الدُّنيا

ثَبتَ عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه رَأى الجَنَّةَ والنَّارَ في حياتِه رُؤيا حَقيقيَّةً.
عَن عائِشةَ رَضيَ اللهُ عَنها أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال في حَديثِ خُسُوفِ الشَّمسِ: ((... رَأيتُ في مَقامي هذا كُلَّ شيءٍ وُعِدْتُه، حَتَّى لَقَد رَأيتُ أُريدُ أن آخُذَ قِطْفًا مِنَ الجَنَّةِ حينَ رَأيتمُوني جَعَلْتُ أتقَدَّم، ولَقَد رَأيتُ جَهَنَّم يَحطِمُ بَعضُها بَعضًا حينَ رَأيتمُوني تَأخَّرْتُ... )) [4395] أخرجه مطولًا البخاري (1212) واللَّفظُ له، ومسلم (901). .
وعَن أنسٍ رَضيَ اللهُ عَنه قال: صَلَّى لَنَا النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ثُمَّ رَقِيَ المِنْبَرَ، فأشَارَ بيَدَيْهِ قِبَلَ قِبْلَةِ المَسْجِدِ، ثُمَّ قال: ((لقَدْ رَأَيْتُ الآنَ مُنْذُ صَلَّيْتُ لَكُمُ الصَّلَاةَ الجَنَّةَ والنَّارَ مُمَثَّلَتَيْنِ في قِبْلَةِ هذا الجِدَارِ، فَلَمْ أَرَ كَاليَومِ في الخَيْرِ والشَّرِّ، ثَلَاثًا )) [4396] أخرجه البخاري (749). .
قال ابنُ عَبدِ البَرِّ: (الآثارُ في رُؤيَتِه لَهما صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كَثيرةٌ، وقَد رَآهما مِرارًا، واللهُ أعلَمُ، على ما جاءَت به الأحاديثُ، وعِندَ الله عِلمُ كيفيَّةِ رُؤيَتِه لَهما صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فيُمكِنُ أن يُمَثَّلا لَه فيَنظُرَ إليهما بعَيْنَيْ وَجْهِه، كَما مَثَّلَ لَه بيتَ المَقدِسِ حينَ كَذَّبه الكُفَّارُ بالإسراءِ، فنَظَر إليه وجَعلَ يُخبرُهم عَنه... والظَّاهرُ في هذا الحَديثِ أنَّه رَأى الجَنَّةَ والنَّارَ رُؤيةَ عينٍ، والله أعلَمُ، وتَناولَ مِنَ الجَنةِ عُنقُودًا على ما ذَكَرَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ويُؤيِّدُ ذَلِكَ قَولُه: فلَم أرَ كاليَومِ مَنظَرًا قَطُّ، فالظَّاهرُ الأغلَبُ أنَّها رُؤيةُ عينٍ؛ لِأنَّ الرُّؤيةَ والنَّظَرَ إذا أُطلِقَا فحقُّهما أن يُضافا إلى رُؤيةِ العينِ إلَّا بدَليلٍ لا يَحتَمِلُ تَأويلًا، وإلَّا فظاهِرُ الكَلامِ وحَقيقَتُه أَولى إذا لَم يَمنَع مِنه مانِعُ دَليلٍ يَجِبُ التَّسليمُ لَه) [4397] يُنظر: ((التمهيد)) (3/ 319). .
وقال عياضٌ: (قَولُه: ((عُرِضَ عليَّ كُلُّ شىءٍ تُولَجُونَه)) أي: تَدخُلُونَه وتَصيرُونَ إليه، وقَولُه: ((حَتَّى الجَنة والنَّار)) قال العُلَماءُ: يَحتَمِلُ أنَّه رَآهما رَأيَ عينٍ، وأنَّ اللهَ كَشفَ لَه عَنهما وفَرجَ الحُجُبَ بينَه وبينَهما، كَما فُرِجَ لَه عَنِ المَسجِدِ الأقصى حَتَّى وصَفَه، ويَكُونُ قَولُه على هذا في الحَديثِ: ((في عَرضِ هذا الحائِطِ)) أي: في جِهَتِه وناحيَتِه، أو في التَّمثيلِ بقُرب مُشاهَدَتِه، ويُحتَمَلُ أن يَكُونَ ذَلِكَ رُؤيةَ عِلمٍ ويَقينٍ وعَرضَ وَحيٍ بإطلاعِه وتَعريفِه مِن أُمُورِهما تَفصيلًا ما لَم يَكُن يَعرِفُه بَعدُ، ومِن عَظيمِ شَأنِهما ما زادَه عِلمًا مِن أمرِهما وخَشيةً وتَحذيرًا ودَوامَ ذِكرٍ وقلةَ غَفلةٍ؛ ولِهذا قال: ((لَو تَعلَمُونَ ما أعلَمُ لضَحِكتُم قَليلًا ولبَكيتُم كَثيرًا))، والتَّأويلُ الأوَّلُ أَولى وأشبَهُ بألفاظِ الحَديثِ؛ لِما ذُكِرَ فيه مِنَ الأُمُورِ التي تَدُلُّ أنَّها رُؤيةُ عينٍ، ومِثل قَولِه: ((فتَناوَلْتُ عُنقُودًا))، وتَأخُّره مَخافةَ أن يُصيبَه لَفْحُ النَّارِ) [4398] يُنظر: ((إكمال المعلم)) (3/ 341). .
وقال أبُو العَبَّاسِ القُرطُبيُّ: (قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((رَأيتُ في مَقامي هذا كُلَّ شيءٍ وُعِدْتُمُوه)) هذه الرُّؤيةُ رُؤيةُ عِيانٍ حَقيقةً، لا رُؤيةُ عِلمٍ؛ بدَليلٍ: أنَّه رَأى في الجَنةِ والنَّارِ أقوامًا بأعيانِهم، ونَعيمًا، وقِطْفًا مِن عِنَبٍ، وتَناوَلَه، وغيرِ ذَلِكَ. ولا إحالةَ في إبقاءِ هذه الأُمُورِ على ظَواهرِها، لا سيَّما على مَذاهِبِ أهلِ السُّنَّةِ في أنَّ الجَنةَ والنَّارَ قَد خُلِقَتا ووُجِدَتا، كَما دَلَّ عليه الكِتابُ والسُّنَّةُ، وذَلِكَ أنَّه راجِعٌ إلى أنَّ الله تعالى خَلقَ لِنَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إدراكًا خاصًّا به، أدرَكَ به الجَنَّةَ والنَّارَ على حَقيقَتِهما، كَما قَد خَلَقَ لَه إدراكًا لِبيتِ المَقدِسِ، فطَفِقَ يُخبرُهم عَن آياتِه، وهو يَنظُرُ إليه. ويَجُوزُ أن يُقالَ: إنَّ الله تعالى مَثَّلَ لَه الجَنَّةَ والنَّارَ، وصَوَّرَهما لَه في عَرضِ الحائِطِ؛ كَما تَتَمَثَّلُ صُوَرُ المَرئيَّاتُ في المِرآةِ، ويُعتَضَدُ هذا بما أخرجه البُخاريُّ مِن حَديثِ أنسٍ في غيرِ حَديثِ الكُسُوفِ، قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لَقَد رَأيتُ الآنَ مُنذُ صَلَّيتُ لَكم الصَّلاةَ الجَنَّةَ والنَّارَ مُتَمَثِّلَتينِ في قِبلةِ هذا الجِدارِ)) [4399] أخرجه البخاري (749). ، وفي لَفظٍ آخَرَ: ((عُرِضَتْ عَليَّ الجَنَّةُ والنَّارُ آنِفًا في عَرضِ هذا الحائِطِ وأنا أصلِّي )) [4400] أخرجه البخاري (7294). ، وقال فيه مُسلِمٌ: ((إنِّي صُوِّرَت لي الجَنَّةُ والنَّارُ، فرَأيتُهما دُونَ هذا الحائِطِ)) [4401] أخرجه مسلم (2359). ، ولا يُستَبعَدُ هذا مِن حيثُ إنَّ الِانطِباعَ في المِرآةِ إنَّما هو في الأجسامِ الصَّقيلَةِ؛ لَأنَّا نَقُولُ: إنَّ ذَلِكَ شَرطٌ عاديٌّ لا عَقليٌّ، ويَجُوزُ أن تَنخَرِقَ العادةُ، وخُصُوصًا في مُدَّةِ النُّبُوةِ، ولَو سُلِّمَ أنَّ تِلكَ الشُّرُوطَ عَقليَّةٌ، فيَجُوزُ أن تَكُونَ تِلكَ الأُمُورُ مَوجُودةً في جِسمِ الحائِطِ، ولا يُدرِكُ ذَلِكَ إلَّا النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) [4402] يُنظر: ((المفهم)) (2/ 553). .
وقال الكُورانيُّ: ( ((لَقَد رَأيتُ الآنَ مُنذُ صَلَّيتُ لَكمُ الصَّلاةَ الجَنَّةَ والنَّارَ مُمَثَّلَتينِ)) أي: مُشخَّصَتينِ، كُشِفَ لَه عَنِ الحِجاب فشاهدَهما، والحَملُ على أنَّه رَأى صُورَتَهما لا الحَقيقةَ باطِلٌ؛ لِأنَّه تَناوَلَ عُنقُودًا وأخبَرَ أنَّه لَو قَطَعَه لأكلَ النَّاسُ مِنه، والمُرادُ بـ ((الآنَ)) الزَّمانُ القَريبُ، وهذا مُتَعارَفٌ عِندَهم، لا الآنَ الَّذي هو جُزءُ الزَّمانِ الحاضِرِ) [4403] يُنظر: ((الكوثر الجاري)) (2/ 380). .
وقال الزَّرقانيُّ: (حَديثُ أنسٍ في الصَّحيحِ: ((لَقَد عُرِضَتْ عَليَّ الجَنَّةُ آنِفًا في عَرضِ هذا الحائِطِ وأنا أصلِّي ))، وفي رِوايةٍ: ((لَقَد مُثِّلَت))، ولِمُسلِمٍ: ((لَقَد صُوِّرَت))، ولا يَرِدُ على هذا أنَّ الِانطِباعَ إنَّما هو في الأجسامِ الصَّقيلَةِ؛ لِأنَّه شَرْطٌ عاديٌّ، فيَجُوزُ أن تَنخَرِقَ العادةُ خُصُوصًا لِلنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، لَكِنَّ هذه قِصَّةٌ أُخرى وقَعَت في صَلاةِ الظُّهرِ، ولا مانِعَ أن يَرى الجَنةَ والنَّارَ مَرَّتينِ بَل مِرارًا على صُورٍ مُختَلِفةٍ، وأبعَدَ مَن قال: الرُّؤيةُ العِلمُ) [4404] يُنظر: ((شرح الموطأ)) (1/ 635). .

انظر أيضا: