الموسوعة العقدية

المَطلَبُ الثَّاني: تَهذيبُ المُؤمِنينَ وتَنقيَتُهم قَبلَ الدُّخُولِ

قال اللهُ تعالى: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ [الزمر: 73] .
قال ابنُ كَثيرٍ: (حَتَّى إذا جَاءَوهَا أي: وصَلُوا إلى أبواب الجَنةِ بَعدَ مُجاوزةِ الصِّراطِ حُبِسُوا على قَنطَرةٍ بينَ الجَنةِ والنَّارِ، فاقتَصَّ لَهم مَظالِم كانَت بينَهم في الدُّنيا، حَتَّى إذا هُذِّبُوا ونُقُّوا أُذِنَ لَهم في دُخُولِ الجَنَّةِ، وقَد ورَدَ في حَديثِ الصُّورِ أنَّ المُؤمِنينَ إذا انتَهَوا إلى أبوابِ الجَنةِ تَشاوَرُوا فيمَن يَستَأذِنُ لَهم بالدُّخُولِ، فيَقصِدُونَ آدَمَ ثُمَّ نُوحًا ثُمَّ إبراهيمَ، ثُمَّ مُوسى ثُمَّ عيسى ثُمَّ مُحَمَّدًا، صَلَواتُ الله وسَلامُه عليهم أجمَعينَ، كَما فعَلُوا في العَرَصاتِ عِندَ استِشَفاعِهم إلى اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ أن يَأتيَ لِفَصلِ القَضاءِ؛ ليَظهَرَ شَرفُ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على سائِرِ البَشَرِ في المَواطِنِ كُلِّها [4293] حديث استئذانهم الأنبياءَ بدخول الجنَّةَ لفظُه: عن حذيفةَ بن اليمانِ وأبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنهما قالا: قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((يجمعُ الله تبارك وتعالى الناسَ، فيقوم المؤمنون حتى تُزلَفَ لهم الجنَّةُ، فيأتون آدمُ، فيقولون: يا أبانا، استفتِحْ لنا الجنَّةَ، فيقول: وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئةُ أبيكم آدمَ؟ لست بصاحِبِ ذلك، اذهبوا إلى ابني إبراهيمَ خليل الله، قال: فيقول إبراهيم: لست بصاحب ذلك، إنما كنت خليلًا من وراء وراء، اعمدوا إلى موسى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الذي كلَّمه الله تكليمًا، فيأتون موسى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فيقول: لستُ بصاحِبِ ذلك، اذهبوا إلى عيسى كلمة الله وروحه، فيقول عيسى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لستُ بصاحب ذلك، فيأتون محمدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فيقوم فيؤذَن له..)). أخرجه مسلم (195). وحديث الشفاعة: عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((.. يجمع الله يوم القيامة الأوَّلين والآخرين في صعيدٍ واحدٍ ...فيقول بعض الناس لبعض: ألا ترون ما أنتم فيه، ألا ترون ما قد بلغكم، ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربِّكم؟ فيقول بعض الناس لبعض: ائتوا آدم فيأتون آدم فيقولون: يا آدم أنت أبو البشر.. اشفع لنا إلى ربِّك.. فيقول آدمُ: ...اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح. فيأتون نوحًا عليه السلام.. فيقول لهم: ...اذهبوا إلى إبراهيم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. فيأتون إبراهيم.. فيقول لهم.. اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى موسى. فيأتون موسى عليه السلام.. فيقول لهم ...اذهبوا إلى عيسى عليه السلام، فيأتون عيسى.. فيقول لهم عيسى عليه السلام: ... اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. فيأتوني فيقولون: يا محمد أَنت رسولُ اللهِ وخاتم الأنبياء وغفر اللهُ لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر، اشفع لنا إلى ربِّك، ألا ترى ما نحن فيه، ألا ترى إلى ما قد بلغنا؟ فأَنْطلق فآتي تحت العرش فأقع ساجدًا لربِّي، ثم يفتح الله عليَّ ويلهمني من محامده وحسن الثناء عليه شيئًا لم يفتحه لأحد قبلي. ثم قال: يا محمد ارفعْ رأسك سلْ تُعْطه اشفع تشفَّعْ..)). أخرجه البخاري (3340)، ومسلم (194). [4294] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/119). .
وقال ابنُ عُثيمين في قَولِ اللهِ تعالى: وَفُتِحَتْ: (قيلَ: الواوُ: حَرفُ عَطفٍ، والجَوابُ مَحذُوفٌ مُقَدَّرٌ قَبلَها، والتَّقديرُ: حَتَّى إذا جاؤُوها هُذِّبُوا ونُقُّوا وفُتِحَت أبوابُها، وهذا القَولُ أصَحُّ الأقوالِ أنَّ الواو لِلعَطفِ وليسَت لِلحالِ، وأنَّ الجَوابَ مَحذُوفٌ مُقَدَّرٌ قَبلَ الواو. وهذا القَولُ هو الرَّاجِحُ لِدَلالةِ الأحاديثِ عليه؛ فإنَّه قَد ورَدَ في الأحاديثِ الصَّحيحةِ أنَّهم إذا عَبَرُوا الجِسرَ -الصِّراطَ المَمدُودَ على جَهَنَّم- وقَفُوا على قَنطَرةٍ بينَ الجَنةِ والنَّارِ، فيُقتَصُّ لِبَعضِهم مِن بَعضٍ، حَتَّى إذا هُذِّبُوا ونُقُّوا أُذِنَ لَهم في دُخُولِ الجَنةِ، ثُمَّ إنَّهم أيضًا إذا وصَلُوا الجَنَّةَ لا يَجِدُونَ أبوابَها مَفتُوحةً بَل يَجِدُونَها مُغلَقةً حَتَّى يَشفَعَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيَفتَحَ اللهُ تعالى أبوابَها، هذا القَولُ هو الرَّاجِحُ المُتَعيَّنُ بدَلالةِ السُّنَّةِ عليه) [4295] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة الزمر)) (ص: 498). .
عن أبي سَعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ الله عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((يَخلُصُ المُؤمِنونَ من النَّارِ، فيُحبَسونَ على قَنطَرةٍ بينَ الجَنَّةِ والنَّارِ، فيُقَصُّ لبَعضِه من بَعضٍ مَظالِمُ كانت بينَهم في الدُّنيا حَتَّى إذا هُذِّبوا ونُقُّوا أُذِنَ لهم في دُخولِ الجَنةِ، فوالذي نَفسُ مُحَمَّدٍ بيدِه لأَحَدُهم أهَدى بمَنزِلِه في الجَنَّةِ منه بمَنزِلِه كان في الدُّنيا )) [4296] أخرجه البخاري (6535).
قال ابنُ عُثيمين: (إذا عَبَروا على الصِّراطِ وُقِفوا على قَنطَرةٍ بينَ الجَنَّةِ والنَّارِ، فيُقتَصُّ من بَعضِهم لبَعضٍ، وهذا القِصاصُ غَيرُ القِصاصِ الذي يَكونُ في عَرَصاتِ يَومِ القيامةِ، هذا القِصاصُ -والله أعلَمُ- يُرادُ به أن تَتَخَلَّى القُلوبُ من الأضغانِ والأحقادِ والغِلِّ، حَتَّى يَدخُلوا الجَنةَ وهم على أكملِ حالٍ، وذلك أنَّ الإنسانَ وإنِ اقتُصَّ له مِمَّنِ اعتَدى عليه فلا بُدَّ أن يَبقى في قَلبَه شَيءٌ من الغِلِّ والحِقدِ على الذي اعتَدى عليه، ولَكِنَّ أهلَ الجَنةِ لا يَدخُلونَ الجَنةَ حَتَّى يُقتَصَّ لهمُ اقتِصاصًا كامِلًا، فيَدخُلونَها على أحسَنِ وجهٍ، فإذا هُذِّبُوا ونُقُّوا أُذِنَ لهم في دُخولِ الجَنَّةِ) [4297] يُنظر: ((شرح رياض الصالحين)) (1/ 470). .

انظر أيضا: