الموسوعة العقدية

المَبْحَثُ الخامِسُ: مِن وظائِفِ الرُّسُلِ: إصلاحُ النُّفوسِ وتزكِيَتُها

أرسل اللهُ رُسُلَه بآياتِه لِيُخرِجوا النَّاسَ مِن الظُّلُماتِ إلى النُّورِ.
قال اللهُ تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [إبراهيم: 5] .
قال ابنُ كثيرٍ: (أي: أمَرْناه قائلين له: أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ أي: ادْعُهم إلى الخير، لِيَخرُجوا من ظُلُماتِ ما كانوا فيه من الجَهلِ والضَّلالِ إلى نور الهدى وبصيرةِ الإيمانِ) [666] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (4/ 478). .
وإخراجُ الرُّسُلِ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إلى النُّورِ لا يتحقَّقُ إلَّا بتعليمِهم تعاليمَ رَبِّهم وتزكيةِ نُفوسِهم بتعريفِهم باللهِ وأسمائِه وصِفاته، وتعريفِهم بملائِكَتِه وكُتُبِه ورُسُلِه واليومِ الآخِرِ، وتعريفِهم ما ينفَعُهم وما يَضُرُّهم، ودَلالتِهم على السَّبيلِ التي توصِلُهم إلى محبَّتِه، وتعريفِهم بعبادتِه [667] يُنظر: ((الرسل والرسالات)) لعمر الأشقر (ص: 50). .
قال اللهُ سُبحانَه حكايةً عن دعاءِ إبراهيمَ وإسماعيلَ عليهما السَّلامُ: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتاب وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [البقرة: 129] .
قال ابنُ جَريرٍ: (هذه دعوةُ إبراهيمَ وإسماعيلَ لنبيِّنا مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خاصَّةً،... معنى قَولِه: وَيُزَكِّيهِمْ في هذا الموضِعِ: ويُطَهِّرُهم من الشِّرْكِ باللهِ وعبادةِ الأوثانِ، ويُنَمِّيهم ويُكَثِّرُهم بطاعةِ اللهِ) [668] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/ 572، 577). .
وقال ابنُ عاشور: (التزكيةُ التطهيرُ مِنَ النقائصِ، وأكبَرُ النقائِصِ الشِّرْكُ باللهِ، وفي هذا تعريضٌ بالذين أعرَضوا عن متابعةِ القُرآنِ وأَبَوا إلَّا البقاءَ على الشِّرْكِ.
وقد جاء ترتيبُ هذه الجُمَلِ في الذِّكرِ على حَسَبِ ترتيبِ وُجودِها؛ لأنَّ أوَّلَ تبليغِ الرِّسالةِ تلاوةُ القُرآنِ، ثُمَّ يَكونُ تعليمُ معانيه؛ قال تعالى: فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ [القيامة: 18، 19] ثُمَّ العِلْمُ تحصُلُ به التزكيةُ، وهي في العَمَلِ بإرشادِ القُرآنِ) [669] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (1/723). .
وقال اللهُ عَزَّ وجَلَّ: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الاُمِّيِّينَ رَسُولًا مّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [الجمعة: 2].
قال ابنُ كثيرٍ: (هذه الآيةُ هي مِصداقُ إجابةِ اللهِ لخَليلِه إبراهيمَ، حين دعا لأهلِ مَكَّةَ أن يبعَثَ اللهُ فيهم رَسولًا منهم يتلو عليهم آياتِه ويزكِّيهم ويُعَلِّمُهم الكِتابَ والحِكمةَ. فبعثه اللهُ سُبحانَه وتعالى وله الحَمدُ والمنَّةُ، على حين فترةٍ مِنَ الرُّسُلِ، وطُمُوسٍ مِنَ السُّبُلِ، وقد اشتدَّت الحاجةُ إليه، وقد مقت اللهُ أهلَ الأرضِ عَرَبَهم وعَجَمَهم إلَّا بقايا من أهلِ الكِتابِ -أي: نَزْرًا يسيرًا- ممن تمسَّك بما بعث اللهُ به عيسى بنَ مريمَ عليه السَّلامُ؛ ولهذا قال تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الاُمِّيِّينَ رَسُولًا مّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ؛ وذلك أنَّ العَرَبَ كانوا قديمًا مُتمَسِّكين بدينِ إبراهيمَ الخليلِ عليه السَّلامُ، فبَدَّلوه وغَيَّروه، وقلبوه وخالفوه، واستبدلوا بالتوحيدِ شِركًا، وباليقينِ شَكًّا، وابتدعوا أشياءَ لم يأذَنْ بها اللهُ، وكذلك أهلُ الكِتابينِ قد بدَّلوا كُتُبَهم وحَرَّفوها وغَيَّروها وأوَّلوها؛ فبعث اللهُ مُحَمَّدًا صَلَواتُ اللهِ وسلامُه عليه بشَرعٍ عَظيمٍ كاملٍ شاملٍ لجَميعِ الخَلقِ فيه هدايتُهم، والبيانُ لجميعِ ما يحتاجون إليه من أمرِ معاشِهم ومَعادِهم، والدَّعوةُ لهم إلى ما يُقَرِّبُهم إلى الجَنَّةِ ورِضا اللهِ عنهم، والنَّهيُ عمَّا يُقَرِّبُهم إلى النَّارِ وسَخَطِ اللهِ. حاكِمٌ فاصِلٌ لجميعِ الشُّبُهاتِ والشُّكوكِ والرِّيَبِ في الأصولِ والفروعِ. وجمع له تعالى -وله الحَمدُ والمنَّةُ- جميعَ المحاسِنِ ممن كان قَبْلَه، وأعطاه ما لم يُعْطِ أحدًا مِنَ الأَوَّلين، ولا يعطيه أحدًا من الآخِرين، فَصَلَواتُ اللهِ وسَلامُه عليه دائمًا إلى يومِ الدِّينِ) [670] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (8/116). .
وقال اللهُ تعالى: كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ [البقرة: 151] .
قال ابنُ كثيرٍ: (يذكِّرُ تعالى عباده المُؤمِنين ما أنعم به عليهم من بَعثةِ الرَّسولِ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إليهم، يتلو عليهم آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ ويُزَكِّيهم، أي: يُطَهِّرُهم من رذائِلِ الأخلاقِ ودَنَسِ النُّفوسِ وأفعالِ الجاهليَّةِ، ويُخرِجُهم من الظُّلُماتِ إلى النُّورِ، ويُعَلِّمُهم الكِتابَ -وهو القُرآنُ- والحِكمةَ -وهي السُّنَّةُ- ويُعَلِّمُهم ما لم يَكونُوا يَعلَمون؛ فكانوا في الجاهِلِيَّةِ الجَهلاءِ يُسفهونَ بالقَولِ الفِرَى [671] الفِرَى: جمعُ فِرْيةٍ، وهي الكَذْبةُ. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (3/ 443). ؛ فانتقلوا ببركةِ رسالتِه ويُمنِ سِفارتِه إلى حالِ الأولياءِ، وسجايا العُلَماءِ، فصاروا أعمَقَ النَّاسِ عِلمًا، وأبَرَّهم قُلوبًا، وأقَلَّهم تَكَلُّفًا، وأصْدَقَهم لهجةً) [672] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (1/464). .

انظر أيضا: