ب- من السُّنَّةِ النَّبَويَّةِ
1- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((آيةُ المُنافِقِ ثلاثٌ: إذا حدَّث كَذَب، وإذا وَعَد أخلَفَ، وإذا اؤتُمِن خان))
. المقصودُ من الحديثِ: أنَّ هذه الخِصالَ خِصالُ نِفاقٍ، وصاحِبُها شبيهٌ بالمُنافِقين في هذه الخِصالِ، ومتخَلِّقٌ بأخلاقِهم، لا أنَّه مُنافِقٌ نِفاقًا أكبَرَ يُظهِرُ الإسلامَ وهو يُبطِنُ الكُفرَ، بل هو نفاقٌ أصغَرُ عَمَليٌّ، وذَكَر من هذه الخِصالِ: أن يحَدِّثَ بحديثٍ لمن يصَدِّقُه به وهو كاذِبٌ له
، وفي هذا تنفيرٌ وتحذيرٌ من الوقوعِ في الكَذِبِ.
2- عن
عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((... وإنَّ الكَذِبَ يهدي إلى الفُجورِ، وإنَّ الفُجورَ يهدي إلى النَّارِ، وإنَّ الرَّجُلَ ليَكذِبُ حتَّى يُكتَبَ كذَّابًا))
.
وفي روايةٍ:
((وما يزالُ الرَّجُلُ يكذِبُ ويتحَرَّى الكَذِبَ حتَّى يُكتَبَ عِندَ اللهِ كَذَّابًا))
.
فالنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أخبر أنَّ الكَذِبَ يوصِلُ إلى الفُجورِ، وهو الميلُ عن الاستقامةِ، وقيل: الانبعاثُ في المعاصي، وهذا فيه التَّحذيرُ من الكَذِبِ والتَّساهُلِ فيه؛ فإنَّه إذا تساهل فيه كَثُر منه فعُرِف به وكتبَه اللهُ لمبالغتِه كذَّابًا إن اعتاده، ومعنى يُكتَبُ هنا: يُحكَمُ له بذلك، ويستحِقُّ الوصفَ بصفةِ الكذَّابين وعقابَهم، والمرادُ إظهارُ ذلك للمخلوقين إمَّا بأن يكتُبَه في ذلك ليشتَهِرَ بحَظِّه من هذه الصِّفةِ في الملأِ الأعلى، وإمَّا بأن يُلقيَ ذلك في قلوبِ النَّاسِ وألسنَتِهم كما يوضَعُ له البغضاءُ، وإلَّا فقَدَرُ اللهِ تعالى وكتابُه السَّابِقُ قد سبَق بكُلِّ ذلك. واللهُ أعلمُ
.
3- عن سَمُرةَ بنِ جُندَبٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((رأيتُ رجُلَين أتياني قالا: الذي رأيتَه يُشَقُّ شِدقُه، فكذَّابٌ يَكذِبُ بالكَذبةِ تُحمَلُ عنه حتى تبلُغَ الآفاقَ، فيُصنَعُ به إلى يومِ القيامةِ))
.
قولُه:
((يُشَقُّ شِدقُهـ)): أي: يُقطَعُ طَرَفُ فمِه إلى قفاه، قولُه:
((فكذَّابٌ))، أي: فهو كثيرُ الكَذِبِ
((يحَدِّثُ بالكَذبةِ فتُحمَلُ عنهـ)): أي: فتُروى وتُنقَل تلك الكَذْبةُ عنه
((حتَّى تبلُغَ الآفاقَ)) أي: حتى تُنشَرَ في أطرافِ الأرضِ
. وإنَّما استحقَّ التَّعذيبَ لِما ينشأُ عن تلك الكَذبةِ من المفاسِدِ، وهو فيها مختارٌ غيرُ مُكرَهٍ ولا مُلجَأٍ
.
3- وعن ثابتِ بنِ الضَّحَّاكِ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((من حلَف بمِلَّةٍ غيرِ الإسلامِ كاذِبًا متعَمِّدًا فهو كما قال))
.
(ومعنى الحديثِ النَّهيُ عن الحَلِفِ بما حَلَف به من ذلك، والزَّجرُ عنه، وتقديرُ الكلامِ: من حلَف بملَّةٍ غيرِ الإسلامِ كاذِبًا متعَمِّدًا، فهو كما قال، يعنى فهو كاذبٌ حقًّا؛ لأنَّه حين حلَف بذلك ظنَّ أنَّ إثمَ الكَذِبِ واسمَه ساقطان عنه؛ لاعتقادِه أنَّه لا حُرمةَ لِما حلَف به، لكن لَمَّا تعمَّد تَرْكَ الصِّدقِ في يمينِه، وعدَل عن الحقِّ في ذلك، لَزِمه اسمُ الكَذِبِ، وإثمُ الحَلِفِ، فهو كاذبٌ كَذْبتينِ: كاذِبٌ بإظهارِ تعظيمِ ما يعتَقِدُ خلافَه، وكاذِبٌ بنفيِه ما يَعلَمُ إثباتَه، أو بإثباتِ ما يَعلَمُ نَفيَه. فإن ظَنَّ ظانٌّ أنَّ في هذا الحديثِ دليلًا على إباحةِ الحَلِفِ بملَّةٍ غيرِ الإسلامِ صادِقًا، لاشتراطِه في الحديثِ أن يحلِفَ به كاذبًا، قيل له: ليس كما توهَّمتَ؛ لورودِ نهيِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن الحَلِفِ بغيرِ اللهِ نهيًا مُطلَقًا
، فاستوى في ذلك الكاذِبُ والصَّادِقُ، وفي النَّهيِ عنهـ)
.
4- وعن
أبي محمَّدٍ الحَسَنِ بنِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال:
((حَفِظتُ من رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: دَعْ ما يَريبُك إلى ما لا يَريبُك؛ فإنَّ الصِّدقَ طُمَأنينةٌ، وإنَّ الكَذِبَ رِيبةٌ))
. قال
ابنُ رجبٍ: (يشيرُ إلى أنَّه لا ينبغي الاعتمادُ على قولِ كُلِّ قائلٍ، كما قال في حديثِ وابصةَ: "وإنْ أفتاك النَّاس وأفتَوك"
، وإنما يعتَمَدُ على قولِ من يقولُ الصِّدقَ، وعلامةُ الصِّدقِ أنَّه تطمَئِنُّ به القلوبُ، وعلامةُ الكَذِبِ أنَّه تحصُلُ به الرِّيبةُ، فلا تسكُنُ القلوبُ إليه، بل تنفِرُ منه.
ومن هنا كان العُقلاءُ في عهدِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا سمِعوا كلامَه وما يدعو إليه عرَفوا أنَّه صادِقٌ، وأنَّه جاء بالحَقِّ، وإذا سَمِعوا كلامَ مُسيلِمةَ عرَفوا أنَّه كاذِبٌ، وأنَّه جاء بالباطِلِ)
.
5- عن
أبي ذرٍّ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((ثلاثةٌ لا يُكَلِّمُهم اللهُ يومَ القيامةِ، ولا ينظُرُ إليهم ولا يُزَكِّيهم ولهم عذابٌ أليمٌ. قال: فقرأها رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ثلاثَ مرارٍ، قال أبو ذرٍّ: خابوا وخَسِروا! من هم يا رسولَ اللهِ؟ قال: المُسبِلُ، والمنَّانُ، والمُنَفِّقُ سِلعتَه بالحَلِفِ الكاذِبِ))
.
قولُه:
((والمُنَفِّقُ سِلعتَه بالحَلِفِ الكاذِبِ)) أي: الذي يرَوِّجُ متاعَه بالحَلِفِ الكاذِبِ، مثلُ أن يقولَ البائِعُ للمُشتري: اشتريتُ هذا بمئةِ دينارٍ واللهِ، ولم يشتَرِها بمئةٍ، بل بأقَلَّ من مئةٍ
.
6- وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((ثلاثةٌ لا يَنظُرُ اللهُ إليهم يومَ القيامةِ ولا يُزَكِّيهم ولهم عذابٌ أليمٌ... وفيه: ورجلٌ أقام سِلعتَه بعد العَصرِ فقال: واللهِ الذي لا إلهَ غيرُه لقد أُعطيتُ بها كذا وكذا، فصَدَّقه رجلٌ، ثمَّ قرأ هذه الآيةَ: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا [آل عمران: 77] ))
.
7- وعن
عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رَضِيَ اللهُ عنهما قال:
((جاءَ أعرابِيٌّ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: يا رَسولَ اللَّهِ، ما الكَبائِرُ؟ قالَ: الإشراكُ باللَّهِ. قلَ: ثُمَّ ماذا؟ قال: ثُمَّ عُقوقُ الوالِدَينِ. قال: ثُمَّ ماذا؟ قال: اليَمينُ الغَموسُ. قُلتُ: وما اليَمينُ الغَموسُ؟ قال: الذي يَقتَطِعُ مالَ امرِئٍ مُسلِمٍ هو فيها كاذِبٌ))
.