موسوعة الأخلاق والسلوك

تاسِعًا: مَسائِلُ مُتفَرِّقةٌ


طائفةٌ لا يَضُرُّها مَن خذَلَها:
عن مُعاويةَ بنِ قُرَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عنه قال: سمِعتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((لا يزالُ مِن أمَّتي أمَّةٌ قائمةٌ بأمرِ اللهِ، لا يضرُّهم مَن خذَلَهم ولا مَن خالفَهم، حتَّى يأتيَهم أمرُ اللَّهِ وهم على ذلك)) .
قال مُلَّا علي القاري: (... ((مَن خذَلَهم))، أي: مَن تَرَك عَونَهم ونَصْرَهم، بل ضَرَّ نفسَه وظَلَم عليها بإساءتِها) .
خِذْلانُ اللَّهِ للعَبدِ:
قال ابنُ القَيِّمِ: (أجمع العارِفون على أنَّ كُلَّ خَيرٍ فأصلُه بتوفيقِ اللَّهِ للعَبدِ، وكُلَّ شَرٍّ فأصلُه خِذْلانُه لعَبدِه، وأجمَعوا أنَّ التَّوفيقَ ألَّا يَكِلَك اللَّهُ إلى نَفسِك، وأنَّ الخِذْلانَ أن يخَلِّي بينَك وبينَ نفسِك، فإذا كان كُلُّ خيرٍ فأصلُه التَّوفيقُ، وهو بيدِ اللَّهِ لا بيَدِ العَبدِ، فمِفتاحُه الدُّعاءُ والافتِقارُ، وصِدقُ اللَّجَأِ والرَّغبةِ والرَّهبةِ إليه، فمتى أعطى العبدَ هذا المفتاحَ فقد أراد أن يفتَحَ له، ومتى أضلَّه عن المفتاحِ بَقِيَ بابُ الخيرِ مُرْتَجًا دونَه؛ قال أميرُ المُؤمِنينَ عُمَرُ بنُ الخطَّابِ: إنِّي لا أحمِلُ همَّ الإجابةِ ولكِنْ هَمَّ الدُّعاءِ، فإذا أُلهِمتُ الدُّعاءَ فإنَّ الإجابةَ معه. وعلى قَدرِ نِيَّةِ العَبدِ وهِمَّتِه ومُرادِه ورغبتِه في ذلك يكونُ توفيقُه سُبحانَه وإعانتُه؛ فالمعونةُ من اللَّهِ تَنزِلُ على العبادِ على قَدْرِ هِمَمِهم وثباتِهم ورَغبتِهم ورهبتِهم، والخِذْلانُ يَنزِلُ عليهم على حَسَبِ ذلك؛ فاللَّهُ سُبحانَه أحكَمُ الحاكِمين وأعلَمُ العالِمين يَضَعُ التَّوفيقَ في مواضِعِه اللَّائقةِ به، والخِذْلانَ في مواضِعِه اللَّائقةِ به، هو العليمُ الحَكيمُ) .
وقال أيضًا: (والخِذْلانُ: أن يخَلِّيَ اللَّهُ تعالى بَيْنَ العبدِ وبينَ نَفسِه ويَكِلَه إليها، والتَّوفيقُ ضِدُّه: ألَّا يَدَعَه ونَفسَه ولا يَكِلَه إليها، بل يَصنَعُ له ويَلطُفُ به ويُعينُه، ويدفَعُ عنه، ويَكلَؤُه كِلاءةَ الوالِدِ الشَّفيقِ للوَلَدِ العاجِزِ عن نفسِه، فمَن خُلِّي بينَه وبينَ نَفسِه هلَك كُلَّ الهلاكِ) .
قال تعالى: لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا [الإسراء: 22] .
قال ابنُ كثيرٍ: (مَخْذُولًا لأنَّ الرَّبَّ تعالى لا يَنصُرُك، بل يَكِلُك إلى الذي عَبَدْتَ معه، وهو لا يملِكُ لك ضَرًّا ولا نفعًا؛ لأنَّ مالِكَ الضُّرِّ والنَّفعِ هو اللَّهُ وَحْدَه لا شريكَ لهـ) .
ومن علاماتِ هذا الخِذْلانِ ما قاله ذو النُّونِ المِصريُّ: (ثلاثةٌ من علاماتِ الخِذْلانِ: الوقوعُ في الذَّنبِ مع الهَرَبِ منه، والامتِناعُ من الخيرِ مع الاستعدادِ له، وانغِلاقُ بابِ الدُّعاءِ والتَّضَرُّعِ) .
وقال الغَزاليُّ: (فمهما وقَع العبدُ في ذنبٍ، فصار الذَّنبُ نَقدًا، والتَّوبةُ نَسيئةً، كان هذا من علاماتِ الخِذْلانِ) .
ومنها: التَّعلُّقُ بغيرِ اللَّهِ؛ قال ابنُ القَيِّمِ: (فأعظَمُ النَّاسِ خِذْلانًا من تعَلَّق بغيرِ اللَّهِ؛ فإنَّ ما فاته من مصالحِه وسعادتِه وفلاحِه أعظَمُ ممَّا حَصَل له ممَّن تعَلَّقَ به، وهو مُعَرَّضٌ للزَّوالِ والفواتِ. ومَثَلُ المتعَلِّقِ بغيرِ اللَّهِ كمَثَلِ المُستَظِلِّ من الحَرِّ والبَردِ ببَيتِ العَنكبوتِ وأوهَنِ البُيوتِ!) .
ومنها: ما قاله محمَّدُ بنُ كَعبٍ القُرَظيُّ لَمَّا سُئِل: ما علامةُ الخِذْلانِ؟ قال: (أن يَستقبِحَ الرَّجُلُ ما كان عندَه حَسَنًا، ويَستحسِنَ ما كان عندَه قَبيحًا) .

انظر أيضا:

  1. (1) رواه البخاري (3641) واللفظ له، ومسلم (1037).
  2. (2) ((مرقاة المفاتيح)) (9/4047).
  3. (3) أي: مُغلَقًا: يقالُ: رَتَج البابَ رَتجًا: أغلَقَه، كأَرْتَجَ: أوثَقَ إغلاقَه. يُنظَر: ((تاج العروس)) للزبيدي (5/ 588).
  4. (4) ((الفوائد)) (ص: 97).
  5. (5) ((شفاء العليل)) (ص: 100).
  6. (6) ((تفسير القرآن العظيم)) (5/64).
  7. (7) ((شعب الإيمان)) للبيهقي (1/ 370).
  8. (8) ((إحياء علوم الدين)) (4/45).
  9. (9) ((مدارج السالكين)) (1/455).
  10. (10) ((البيان والتبيين)) للجاحظ (2/199).