موسوعة الأخلاق والسلوك

خامِسًا: مَظاهِرُ وصُوَرُ التَّعَصُّبِ


1-التَّعَصُّبُ القَبَليُّ؛ ففي حديثِ الإفكِ قالت عائشةُ رَضِيَ اللهُ عنها: فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن يَعذِرُني [1806] أي: من يقوم بعُذري إن كافَأْتُه على قبيحِ فِعالِه ولا يلومُني، وقيل: معناه: من ينصُرُني، والعذيرُ: النَّاصِرُ. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (17/ 109). من رَجُلٍ بلغني أذاه في أهلي، فواللهِ ما عَلِمتُ على أهلي إلَّا خيرًا، وقد ذكَروا رجُلًا ما عَلِمتُ عليه إلَّا خيرًا، وما كان يدخُلُ على أهلي إلَّا معي، فقام سَعدُ بنُ مُعاذٍ، فقال: يا رَسولَ اللهِ، أنا واللهِ أعذِرُك منه؛ إن كان من الأوسِ ضَرَبْنا عُنُقَه، وإن كان من إخوانِنا من الخَزرَجِ أمَرْتَنا، ففعَلْنا فيه أمْرَك، فقام سَعدُ بنُ عُبادةَ -وهو سَيِّدُ الخَزرَجِ، وكان قَبلَ ذلك رجُلًا صالًحا، ولكِنِ احتمَلَتْه الحَمِيَّةُ- فقال: كذَبْتَ! لعَمَرُ اللهِ لا تقتُلُه، ولا تَقدِرُ على ذلك...)) [1807] أخرجه البخاري (2661) واللَّفظُ له، ومسلم (2770). .
احتمَلَتْه، أي: أغضَبَتْه، وفي روايةٍ: اجتَهَلَتْه، أي: استخَفَّتْه وأغضَبَتْه وحَمَلَتْه على الجَهلِ [1808] يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (17/ 110). .
قال القاضي عِياضٌ: (فيه أنَّ التَّعَصُّبَ في الباطِلِ يقدَحُ في العَدالةِ، ويُخرِجُ عن اسمِ الصَّلاحِ؛ لقولِ عائِشةَ: فاجتهَلَتْه الحَمِيَّةُ، وكان قَبلَ ذلك رجُلًا صالِحًا) [1809] ((إكمال المعلم)) (8/290). .
2-التَّعَصُّبُ للمُعتَقَدِ بالباطِلِ وجَعلُه ذريعةً لقَتلِ الأنفُسِ ونَهبِ الأموالِ:
قال تعالى في وَصفِ فسادِ مُعتَقَدِ اليَهودِ: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ [آل عمران: 75] .
(والمعنى: أنَّ ذلك الاستِحلالَ والخيانةَ هو بسَبَبِ أنَّهم يقولون: ليس علينا فيما أصَبْنا من أموالِ العَرَبِ سبَيلٌ؛ فإنَّهم مُبالِغون في التَّعَصُّبِ لدينِهم، فلا جَرَمَ يقولون: يَحِلُّ قَتلُ المخالِفِ ويَحِلُّ أخذُ مالِه بأيِّ طريقٍ كان) [1810] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (8/264). .
3- التَّعَصُّبُ لشَخصٍ مُعَيَّنٍ والمُوالاةُ والمعاداةُ عليه؛ قال ابنُ تيميَّةَ: (ومن نَصَب شخصًا كائنًا من كان فوالى وعادى على موافَقتِه في القَولِ والفِعلِ، فهو من الذين فَرَّقوا دِينَهم وكانوا شِيَعًا، وإذا تفَقَّه الرَّجُلُ وتأدَّب بطريقةِ قَومٍ من المُؤمِنين، مِثلُ اتِّباعِ الأئمَّةِ والمشايِخِ؛ فليس له أن يجعَلَ قُدوتَه وأصحابَه هم العيارَ، فيُوالي مَن وافقَهم، ويُعادي مَن خالفَهم) [1811] ((مجموع الفتاوى)) (20/9). .
4- التَّعَصُّبُ للآباءِ والأجدادِ، وتقليدُهم في الباطِلِ، قال تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ [الشعراء: 69 - 74] .
قال الألوسيُّ: (أضرَبوا عن أن يكونَ لهم سَمعٌ أو نَفعٌ أو ضُرٌّ اعترافًا بما لا سَبيلَ لهم إلى إنكارِه، واضطُرُّوا إلى إظهارِ أنْ لا سَنَدَ لهم سِوى التَّقليدِ، فكأنَّهم قالوا: لا يَسمَعون ولا يَنفَعوننا ولا يَضُرُّون، وإنَّما وجَدْنا آباءَنا يَفعَلون مِثلَ فِعْلِنا ويَعبُدونهم مِثلَ عِبادتِنا، فاقتَدينا بهم) [1812] ((تفسير الألوسي)) (24/510). .
5- التَّعَصُّبُ في بابِ المُفاضَلةِ:
عن أبي سعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((لا تُخَيِّروا بَينَ الأنبياءِ)) [1813] أخرجه البخاري (2412)، ومسلم (2374) مُطَوَّلًا. .
قال ابنُ كثيرٍ: (المرادُ من ذاك هو التَّفضيلُ بمُجَرَّدِ التَّشَهِّي والعصَبيَّةِ لا بمُقتضى الدَّليلِ، فإذا دلَّ الدَّليلُ على شيءٍ وَجَب اتِّباعُه) [1814] ((تفسير ابن كثير)) (3/65). .
6-التَّعَصُّبُ في تقليدِ مَذهَبٍ من المذاهِبِ الفِقهيَّةِ، والمبالَغةُ في الدِّفاعِ عنه، حتَّى فيما ظهَر ضَعفُه أو خالَف الدَّليلَ؛ قال ابنُ القَيِّمِ: (فمن عَرَض أقوالَ العُلَماءِ على النُّصوصِ ووَزَنها بها وخالَف منها ما خالَف النَّصَّ، لم يُهدِرْ أقوالَهم، ولم يَهضِمْ جانِبَهم، بل اقتدى؛ فإنَّهم كُلَّهم أمَروا بذلك، فمُتَّبِعُهم حقًّا مَن امتثل ما أوصَوا به لا من خالفَهم في القَولِ الذي جاء النَّصُّ بخِلافِه) [1815] ((الروح)) لابن القيم (1/360). .
7- التَّعَصُّب في اتِّخاذِ طريقةٍ مُعَيَّنةٍ للتعَبُّدِ، وزِيٍّ مُعَيَّنٍ، والمُوالاةُ والمُعاداةُ على ذلك؛ قال ابنُ القَيِّمِ: (ومِن كَيدِه أي: الشَّيطانِ: أمْرُهم بلُزومِ زِيٍّ واحدٍ، ولِبسةٍ واحِدةٍ، وهَيئةٍ ومِشيةٍ مُعَيَّنةٍ، وشَيخٍ مُعَيَّنٍ، وطريقةٍ مُختَرَعةٍ، ويَفرِضُ عليهم لُزومَ ذلك بحيثُ يَلزَمونَه كلُزومِ الفرائِضِ، فلا يَخرُجون عنه، ويَقدَحون فيمَن خَرَج عنه ويَذُمُّونه) [1816] ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (1/125). .
8- التَّعَصُّبُ لشِعاراتِ القَوميَّةِ والعُروبةِ والوَطَنيَّةِ والاشتِراكيةِ ونَحوِ ذلك.
9- التَّعَصُّبُ الرِّياضيُّ الذي يَظهَرُ عِندَ بَعضِ مُشَجِّعي كُرةِ القدَمِ أو غيرِها؛ قال ابنُ عُثَيمين: (يجِبُ أن نَعلَمَ أنَّ المباحَ إذا تضمَّن ضَرَرًا صار مُحَرَّمًا؛ فلو أدَّى ذلك إلى العداوةِ والبَغضاءِ والتَّحَيُّزِ والتَّعَصُّبِ، كان ذلك حرامًا، كُرةُ القَدَمِ من هذا النَّوعِ لا يجِبُ أن يَدخُلَها التَّحَزُّبُ المَشينُ، كما يحصُلُ مِن بعضِ النَّاسِ، يتحَزَّبون لنادٍ مُعَيَّنٍ، حتَّى تحصُلَ فِتنةٌ تَصِلُ إلى حَدِّ الضَّربِ بالأيدي والعِصِيِّ والحِجارةِ) [1817] ((الشرح الممتع)) (10/94) بتصرف. .
10- التَّكفيرُ والتَّبديعُ للمُخالِفِ؛ قال الشَّوكانيُّ: (هاهنا تُسكَبُ العَبَراتُ ويُناحُ على الإسلامِ وأهلِه بما جناه التَّعَصُّبُ في الدِّينِ على غالِبِ المُسلِمين؛ من التَّرامي بالكُفرِ لا لسُنَّةٍ ولا لقُرآنٍ ولا لبيانٍ من اللهِ ولا لبُرهانٍ، بل لَمَّا غَلَت مَراجِلُ العَصَبيَّةِ في الدِّينِ، وتمكَّن الشَّيطانُ الرَّجيمُ من تفريقِ كَلِمةِ المُسلِمين، لقَّنَهم إلزاماتٍ بعضَهم لبعضٍ بما هو شَبيهُ الهباءِ في الهَواءِ والسَّرابِ بالقِيعةِ، فيا لَلهِ ولِلمُسلِمين من هذه الفاقِرةِ التي هي من أعظَمِ فواقِرِ الدِّينِ والرَّزيَّةِ التي ما رُزِئَ بمِثلِها سبيلُ المُؤمِنين!) [1818] ((السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار)) (ص: 981). .

انظر أيضا: