مَدحُ الإنسانِ والثَّناءُ عليه بجَميلِ صِفاتِه قد يكونُ في حُضورِ المَمدوحِ، وقد يكونُ بغَيرِ حُضورِه؛ فأمَّا الذي في غَيرِ حُضورِه فلا مَنعَ مِنه إلَّا أن يُجازِفَ المادِحُ ويدخُلَ في الكذِبِ، فيَحرُمَ عليه بسَبَبِ الكذِبِ، لا لكونِه مَدحًا، ويُستحَبُّ هذا المدحُ الذي لا كَذِبَ فيه إذا ترتَّب عليه مصلحةٌ، ولم يجُرَّ إلى مفسدةٍ.
وأمَّا المَدحُ في وَجهِ المَمدوحِ فتَحرُمُ المُبالَغةُ فيه والغُلوُّ في إطرائِه ووصفِه بما لا يستَحِقُّ، فهذا مِن الكَذِبِ، وفيه ضَرَرٌ على المَمدوحِ، وكذلك يحرُمُ مَدحُه بما هو فيه إذا خشِيَ أن يغتَرَّ المَمدوحُ بنَفسِه ويزهوَ ويتَرَفَّعَ على غَيرِه ويفتَتِنُ ويَغتَرُ، وقيل: يُكرَهُ كَراهةً شَديدةً [529] ينظر:((الأذكار)) (ص276)، ((شرح رياض الصالحين)) (6/ 564). وقال البَغَويُّ: (المدحُ والثَّناءُ على الرَّجُلِ مكروهٌ؛ لأنَّه قلَّما يَسلَمُ المادِحُ مِن كَذِبٍ يقولُه في مَدحِه، وقلَّما يَسلَمُ الممدوحُ من عُجبٍ يَدخُلُه). ((شرح السنة )) (13/ 151). .
إن سَلِمَ المَدحُ عن هذه الآفاتِ وعن الفرَحِ به وفُتورِ النَّفسِ بسَبَبِه، لم يكُنْ به بَأسٌ، بل رُبَّما كان مَندوبًا إليه؛ ولذلك أثنى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم أجمَعينَ [530] ينظر ((مجموعة رسائل الإمام الغزالي))  (1/139). .
فالمدحُ الجائزُ له خَمسةُ ضوابِطَ:
الأوَّلُ: أن يوصَفَ الإنسانُ بما فيه من غيرِ مُبالغةٍ.
فإذا غلا في إطرائِه ووصفِه بما لا يستحِقُّ، فهذا  كَذِبٌ وخِداعٌ.
الثَّاني: إن كان يحصُلُ بالمدحِ مَصلَحةٌ، فيُستحَبُّ.
ومن ذلك أن يكونَ في المدحِ تشجيعٌ للممدوحِ على الخيرِ وتثبيتٌ له؛ حتَّى يستمِرَّ على ما هو عليه، فهذا حَسَنٌ، وهو داخِلٌ في قولِه تعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى [المائدة: 2] [531] يُنظر: ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (6/563، 565). . وكذلك إذا كان تحريضًا للنَّاسِ على الاقتداءِ به في أشباهِه، وهذا راجِعٌ إلى النِّيَّاتِ [532] ((الجامع لأحكام القرآن)) للقرطبي (5/ 247). .
الثَّالِثُ: أن لا يُفضِيَ إلى فسادٍ، كأن يُمدَحَ في وجهِه، ويُخافُ عليه الفتنةُ.
الرَّابعُ: إذا كان المادِحُ مُكرَهًا أو ابتُليَ به لدَفعِ شَرٍّ، فهذا من بابِ المداراةِ، ويُذكَرُ عن أبي الدَّرداءِ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: (إنَّا لنَكشِرُ في وجوهِ أقوامٍ، وإنَّ قُلوبَنا لتلعَنُهم) [533] ((الحلية)) لأبي نعيم الأصبهاني (1/ 222). .
الخامِسُ: ألَّا يكونَ المدحُ لنَفسِه؛ لأنَّ تزكيةَ النَّفسِ لا تجوزُ؛ لقَولِه تعالى: فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى [النجم: 32] ، وهذا النَّهيُ يقتضي الغَضَّ من المزكِّي لنَفسِه بلسانِه، والإعلامَ بأنَّ الزَّاكيَ المزكَّى من حَسُنَت أفعالُه وزكَّاه اللهُ عزَّ وجَلَّ [534] ((الجامع لأحكام القرآن)) للقرطبي (5/ 246). ، وقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا تزكُّوا أنفُسَكم، اللهُ أعلَمُ بأهلِ البِرِّ منكم)) [535] أخرجه مسلم (2142) من حديثِ زينبَ بِنتِ أبي سَلَمةَ رَضِيَ اللهُ عنها. ، وقال عُتبةُ بنُ غَزوانَ رَضِيَ اللهُ عنه: (وإنِّي أعوذُ باللهِ أن أكونَ في نفسي عظيمًا، وعندَ اللهِ صَغيرًا) [536] أخرجه مسلم (2967). .
وفي حُكمِ مَدحِ النَّفسِ مدحُ ما يتعلَّقُ بها من الأبناءِ والآباءِ والتَّواليفِ والأصحابِ، ونحوِ ذلك ممَّا هو مدحٌ للنَّفسِ على الحقيقةِ؛ قال العِزُّ بنُ عبدِ السَّلامِ: (ومَدحُك نفسَك أقبحُ من مدحِك غيرَك؛ فإنَّ غَلَط الإنسانِ في حَقِّ نَفسِه أكثَرُ من غلَطِه في حقِّ غيرِه، فإنَّ حُبَّك الشَّيءَ يُعمي ويُصِمُّ، ولا شيءَ أحَبُّ إلى الإنسانِ من نَفسِه) [537] ((قواعد الأحكام)) للعز بن عبد السلام (2/ 210). ؛ ولهذا قد يمدَحُ الإنسانُ نفسَه بباطلٍ، أو يبالِغُ في وصفِ بعضِ ما يتعلَّقُ بها، وهذا غِشٌّ وتدليسٌ وكَذِبٌ.
أمَّا إذا قصد التَّعريفَ بنَفسِه وبما عندَه من العِلمِ، فلا بأسَ؛ قال يوسفُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف: 55] ، وفي هذا دَلالةٌ على أنَّه جائزٌ للإنسانِ أن يَصِفَ نَفسَه بالفَضلِ عندَ من لا يَعرِفُه [538] ((أحكام القرآن)) للجصاص (4/ 389). ، قال ابنُ الجوزيِّ: (إذا خلا مَدحُه لنَفسِه من بَغيٍ وتكبُّرٍ، وكان مرادُه به الوصولَ إلى حَقٍّ يقيمُه، وعَدلٍ يُحييه، وجَورٍ يُبطِلُه؛ كان ذلك جميلًا جائزًا) [539] ((زاد المسير)) لابن الجوزي (2/ 451). .
ويدخُلُ في هذا القِسمِ ما إذا تحدَّث المرءُ بنِعَمِ اللهِ عنده، قال الطَّحاويُّ: (فهذا نرجو ألَّا يَضُرَّ) [540] ((أحكام القرآن)) للجصاص (3/ 163). ، ومنه قولُ ابنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه: (واللهِ الذي لا إلهَ غيرُه، ما أُنزِلَت سورةٌ من كتابِ اللهِ إلَّا أنا أعلَمُ أين أُنزِلَت، ولا أُنزِلَت آيةٌ من كتابِ اللهِ إلَّا أنا أعلَمُ فيمَ أُنزِلَت، ولو أعلَمُ أحدًا أعلَمَ منِّي بكتابِ اللهِ تبلُغُه الإبِلُ، لركِبتُ إليه) [541] أخرجه البخاري (5002) واللفظ له، ومسلم (2463). ، فخرج هذا الكلامُ مخرجَ الشُّكرِ للهِ وتعريفِ المستفيدِ ما عندَ المفيدِ [542] ((زاد المسير)) لابن الجوزي (2/ 451). . ومنه ما رُوِيَ عن أبي الدَّرداءِ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: (سَلُوني، فواللهِ لَئِن فقَدْتُموني لتفقِدُنَّ رَجُلًا عظيمًا من أمَّةِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) [543] ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (2/ 342). .
ودلَّ على إباحةِ المدحِ بهذه الشُّروطِ عِدَّةُ أحاديثَ؛ منها: قولُ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما: ((قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنَّه ليس من النَّاسِ أحَدٌ أمَنَّ عليَّ في نَفسِه ومالِه من أبي بكرِ بنِ أبي قُحافةَ)) [544] أخرجه البخاري (467). ، وقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لعُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنه: ((والذي نفسي بيَدِه، ما لَقِيَك الشَّيطانُ قَطُّ سالِكًا فَجًّا إلَّا سلك فجًّا غيرَ فَجِّك)) [545] أخرجه البخاري (3294)، ومسلم (2396) مطوَّلًا من حديثِ سَعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عنه. ، وقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يومَ خيبَرَ: ((لأعطِيَنَّ الرَّايةَ غَدًا رجلًا يفتَحُ على يَدَيه، يحِبُّ اللهَ ورسولَه، ويحبُّه اللهُ ورسولُه)) [546] أخرجه البخاري (3009) واللفظ له، ومسلم (2406) من حديثِ سَهلِ بنِ سَعدٍ رَضِيَ اللهُ عنه. ، فأعطاها عليًّا رَضِيَ اللهُ عنه، وقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ لكُلِّ أمَّةٍ أمينًا، وإنَّ أمينَنا -أيَّتُها الأمَّةُ- أبو عُبَيدةَ بنُ الجَرَّاحِ)) [547] أخرجه البخاري (3744)، ومسلم (2419) من حديثِ أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه. ، ونظائِرُ ذلك كثيرٌ ممَّا هو مبسوطٌ في مظانِّه، وقد مُدِح صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الشِّعرِ والخُطَبِ والمخاطَبةِ، ولم يَحْثُ في وُجوهِ مدَّاحيه التُّرابَ، ولا أمَرَ بذلك [548] ((الجامع لأحكام القرآن)) للقرطبي (5/ 247). ويُنظر: ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (6/ 563). .
أمَّا النَّهيُ عن المدحِ فمحمولٌ على المجازفةِ فيه والزِّيادةِ في الأوصافِ، أو على من يُخافُ عليه فِتنةٌ [549] ((شرح مسلم)) للنووي (18/ 126). ، قال عبدُ اللهِ بنُ أحمدَ: (جاء رجلٌ إلى أبي، فذَكَر أنَّه كان عند بِشرٍ فذَكَروه، فأثنى عليه بِشرٌ، وقال: لا ينسى اللهُ لأحمدَ صنيعَه، ثبَت وثَبَّتَنا، ولولاه لهلَكْنا. قال عبدُ اللهِ: ووَجهُ أبي يتهَلَّلُ، فقُلتُ: يا أبتِ، أليس تكرَهُ المدحَ في الوَجهِ، فقال: يا بُنَيَّ، إنَّما ذُكِرْتُ عند رجلٍ من عبادِ اللهِ الصَّالحينَ، وما كان منِّي فحَمِد صنيعي، وقد قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: المؤمِنُ مِرآةُ المؤمِنِ [550] أخرجه أبو داود (4918)، والبزار (8109)، والبيهقي (17126) مطوَّلًا من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، وفيه كثيرُ بنُ زيدٍ، ضَعيفٌ. ورُوي بسندٍ حسنٍ عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّه قال: (المؤمنُ مرآةُ المؤمِنِ، إذا رأى فيه عيبًا أصلَحَه). أخرجه ابنُ وَهبٍ في ((الجامع)) (203)، والبخاري في ((الأدب المفرد)) (238)، وأبو الشيخ في ((التوبيخ والتنبيه)) (57). حسَّن إسنادَه الألبانيُّ في ((صحيح الأدب المفرد)) (177). [551] ((الآداب الشرعية)) لابن مفلح (3/ 437). قال النووي: (قال العُلماءُ: ... إن كان الممدوح عنده كمالُ إيمانٍ، وحسنُ يقينٍ، ورياضةُ نفسٍ، ومعرفةٌ تامَّةٌ، بحيث لا يفتتنُ، ولا يغترُّ بذلك، ولا تلعَبُ به نفسُه؛ فليس بحرامٍ ولا مكروهٍ، وإن خيف عليه شيءٌ من هذه الأمورِ، كُرِه مدحُه كراهةً شديدةً). الأذكار (ص: 276). .