موسوعة الأخلاق والسلوك

نماذِجُ مِن عَفوِ المُلوكِ والأُمَراءِ


قال المُهَلَّبُ بنُ أبي صُفرةَ: (خَيرُ مَناقِبِ الملوكِ العَفْوُ) .
وقال بعضُهم: (أبلَغُ الأشياءِ في تشييدِ المُلْكِ تدبيرُه بالعَدلِ، وحِفظُه بالعَفْوِ) . وفيما يلي نماذِجُ مِن عَفوِ المُلوكِ والأمراءِ:
 - (طَلَب عبدُ المَلِكِ بنُ مَروانَ رَجُلًا فأعجَزَه، ثمَّ ظَفِر به، فقال رجاءُ بنُ حَيوةَ: يا أميرَ المُؤمِنين، قد صَنَع اللَّهُ ما أحبَبْتَ مِن ظَفَرِك به، فاصنَعْ ما أحَبَّ اللَّهُ من عَفوِك عنهـ) .
- وفي روايةٍ أُخرى: (أُتيَ عبدُ المَلِكِ بنُ مَروانَ بأُسارى ابنِ الأشعَثِ، فقال لرَجاءِ بنِ حَيوةَ: ماذا ترى؟ قال: إنَّ اللَّهَ تعالى قد أعطاك ما تحِبُّ من الظَّفَرِ، فأعْطِ اللَّهَ ما يحِبُّ من العَفْوِ؛ فعفا عنهم) .
- و(غَضِبَ سُلَيمانُ بنُ عبدِ المَلِكِ على خالدٍ القَسريِّ، فلمَّا أُدخِل عليه قال: يا أميرَ المُؤمِنين، إنَّ القُدرةَ تُذهِبُ الحفيظةَ ، وإنَّك تَجِلُّ عن العقوبةِ، فإن تَعْفُ فأهلٌ لذلك أنت، وإن تعاقِبْ فأهلٌ لذلك أنا؛ فعفا عنهـ) .
- (واحتال يزيدُ بنُ راشِدٍ في الدُّخولِ على سُلَيمانَ متنَكِّرًا بعد أن وَلِيَ الخلافةَ، فقعَد في السِّماطِ وكان سليمانُ قد نذَرَ أنَّه إن أفضَت إليه الخِلافةُ قَطَع لسانَه؛ لأنَّه كان ممَّن دعا إلى خَلعِ سُلَيمانَ، والبيعةِ لعبدِ العزيزِ، فقال: يا أميرَ المُؤمِنين، كُنْ كنَبيِّ اللَّهِ أيُّوبَ عليه السَّلامُ، ابتُلِيَ فصَبَر، وأُعطِيَ فشَكَر، وقدَرَ فغَفَر. قال: ومَن أنت؟ قال: يزيدُ بنُ راشدٍ؛ فعفا عنهـ) .
- ويُذكَرُ أنَّ أبا بكرٍ الهُذَليَّ قال للمنصورِ، وأراد أن يعاقِبَ أهلَ البَصرةِ: يا أميرَ المُؤمِنين بلغَني أنَّه ينادي منادٍ يومَ القيامةِ: ألا ليَقُمْ مَن كانت له على اللَّهِ دالَّةٌ ، فلا يقومُ إلَّا أهلُ العَفْوِ، قال: فإنِّي أُشهِدُك أنِّي قد عفوتُ عنهم .
- وعن الأصمَعيِّ قال: (أُتِيَ المنصورُ برجُلٍ يعاقِبُه، فقال: يا أميرَ المُؤمِنين، الانتقامُ عَدلٌ، والتَّجاوُزُ فَضلٌ، ونحن نعيذُ أميرَ المُؤمِنين باللَّهِ أن يرضى لنَفسِه بأوكَسِ النَّصيبَينِ دونَ أن يبلُغَ أرفَعَ الدَّرجتَينِ، فعفا عنهـ) .
- و(أُتِيَ المنصورُ برجُلٍ أذنَبَ فقال: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ [النحل: 90] ، فإن أخذْتَ في غيري بالعَدْلِ، فخُذْ فيَّ بالإحسانِ، فعفا عنهـ) .
- و(أُتِيَ المأمونُ برَجُلٍ يريدُ أن يقتُلَه، وعليُّ بنُ موسى الرِّضا جالِسٌ، فقال: ما تقولُ يا أبا الحَسَنِ؟ فقال: أقولُ: إنَّ اللَّهَ تعالى لا يزيدُك بحُسنِ العَفْوِ إلَّا عِزًّا، فعفا عنه. وكان المأمونُ مؤثِرًا للعفوِ كأنَّه غريزةٌ له، وهو الذي يقولُ: لقد حُبِّبَ إليَّ العَفْوُ حتَّى إنِّي أظُنُّ أنِّي لا أُثابُ عليه !
- وأُحضِرَ إلى المأمونِ رجُلٌ قد أذنَب، فقال له المأمونُ: أنت الذي فعَلْتَ كذا وكذا؟ قال: نَعَمْ يا أميرَ المُؤمِنين، أنا الذي أسرَفَ على نفسِه، واتَّكَل على عَفوِك؛ فعفا عنه .
- ولمَّا ظَفِر المأمونُ بإبراهيمَ بنِ المَهديِّ أمَر بإدخالِه عليه، فلمَّا مَثَلَ بَيْنَ يَدَيه، قال: وَليُّ الثَّأرِ مُحكَّمٌ في القِصاصِ، والعَفْوُ أقرَبُ للتَّقوى، والقُدرةُ تُذهِبُ الحفيظةَ، ومَن مَدَّ له الاعتذارُ في الأمَلِ هجَمَت به الأناةُ على التَّلَفِ، وقد جَعَل اللَّهُ كُلَّ ذنبٍ دونَ عَفوِك، فإن صفَحْتَ فبكَرَمِك، وإن أخَذْتَ فبحَقِّك! قال المأمونُ: إنِّي شاوَرْتُ أبا إسحاقَ والعبَّاسَ في قتلِك فأشارا عليَّ به، قال: أمَّا أن يكونا قد نصحاك في عِظَمِ قَدرِ المُلكِ، ولِما جَرَت عليه السِّياسةُ، فقد فَعَلا، ولكِنْ أبيتَ أن تَستجلِبَ النَّصرَ إلَّا من حيثُ عَوَّدك اللَّهُ، ثمَّ استعبَرَ باكيًا، فقال له المأمونُ: ما يُبكيك؟ قال: جَذَلًا إذ كان ذنبي إلى مَن هذه صِفَتُه! ثمَّ قال: إنَّه وإن كان جُرمي بلَغَ سَفْكَ دَمي فحِلمُ أميرِ المُؤمِنين وفَضلُه يُبَلِّغاني عَفوَه، ولي بعدَ هذا شُفعةُ الإقرارِ بالذَّنبِ، وحُرمةُ الأبِ بعدَ الأبِ. قال المأمونُ: لو لم يكُنْ في حَقِّ نَسَبِك ما يَبلُغُ الصَّفحَ عن جُرْمِك، لبَلَّغَك إليه حُسنُ تنَصُّلِك!) .
وفي روايةٍ أُخرى: قال المأمونُ لإبراهيمَ بنِ المَهديِّ: إنِّي شاوَرْتُ في أمرِك فأشاروا عليَّ بقَتلِك، إلَّا أنِّي وجَدْتُ قَدْرَك فوقَ ذَنبِك، فكَرِهتُ القَتلَ للازِمِ حُرمتِك! فقال: يا أميرَ المُؤمِنين، إنَّ المشارَ أشار ممَّا جرت به العادةُ في السِّياسةِ، إلَّا أنَّك أبيتَ أن تَطلُبَ النَّصرَ إلَّا من حيثُ عُوِّدْتَه من العَفْوِ، فإن قتَلْتَ فلك نظيرٌ، وإن عفَوْتَ فلا نظيرَ لك! وأنشأ يقولُ:
البِرُّ بي منكَ وَطَّا العُذرَ عِندَك لي
فيما فعَلْتُ فلم تَعذِلْ ولم تَلُمِ
وقام عِلمُك بي فاحتَجَّ عندَك لي
وقام شاهِدَ عَدلٍ غَيرَ متَّهَمِ
لئِنْ جَحَدْتُك مَعروفًا مَنَنْتَ به
إنِّي لفي اللُّؤمِ أحظى منكَ بالكَرَمِ
تعفو بعَدلٍ وتَسْطو -إن سطَوْتَ- به
فلا عَدِمتُكَ من عافٍ ومُنتَقِمِ
- وعن مجاهدٍ قال: قال لي عُمَرُ بنُ عبدِ العزيزِ: يا مجاهِدُ، ما يقولُ النَّاسُ فيَّ؟ قُلتُ: يقولون: مسحورٌ، قال: ما أنا بمسحورٍ، ثمَّ دعا غُلامًا له فقال له: وَيْحَك! ما حمَلَك على أن تسقِيَني السُّمَّ؟ قال: ألفُ دينارٍ أُعطِيتُها وعلى أن أُعتَقَ! قال: هاتِها، فجاء بها، فألقاها في بيتِ المالِ، وقال: اذهَبْ حيثُ لا يراك أحَدٌ .
- و(أمَرَ الحَجَّاجُ بقَتلِ رجُلٍ فقال: أسألُك بالذي أنت غدًا بَيْنَ يدَيه أذَلُّ مَوقِفًا منِّي بَيْنَ يَدَيك اليومَ إلَّا عفَوتَ عَنِّي! فعفا عنهـ) .
- ولمَّا ضَرَب الحجَّاجُ أعناقَ أصحابِ الأشعَثِ أُتِيَ برَجُلٍ من بني تميمٍ بآخِرَتِهم، فقال: واللَّهِ يا حَجَّاجُ لئِنْ كُنَّا أسَأْنا في الذَّنبِ فما أحسَنْتَ في العَفْوِ، فقال: أُفٍّ لهذه الجِيَفِ! أمَّا كان فيهم من يحسِنُ مِثلَ هذا؟! وعفا عنه .
- وجلَسَ الحَجَّاجُ يقتُلُ أصحابَ عبدِ الرَّحمنِ، فقام إليه رجُلٌ منهم فقال: أيُّها الأميرُ، إنَّ لي عليك حَقًّا. قال: وما حَقُّك علَيَّ؟ قال: سَبَّك عبدُ الرَّحمنِ يومًا فردَدْتُ عنك. قال: ومَن يعلَمُ ذاك؟ فقال الرَّجُلُ: أَنشُدُ اللَّهَ رجُلًا سمع ذاك إلَّا شَهِد به. فقام رجُلٌ من الأسرى فقال: قد كان ذاك أيُّها الأميرُ. فقال: خَلُّوا عنه. ثمَّ قال للشَّاهِدِ: فما منعك أن تُنكِرَ كما أنكَرَ؟ قال: لقديمِ بُغضي إيَّاك. قال: ويُخَلَّى هذا لصِدقِه .
- وقد (اعتَذَر رجُلٌ إلى الهادي، فقال: يا أميرَ المُؤمِنين، إقراري بما ذكَرْتَ يُوجِبُ عليَّ ذنبًا لم أَجْنِه، وردِّي عليك لا أُقدِمُ عليه؛ لِما فيه من التَّكذيبِ لك، ولكِنِّي أقولُ:
فإنْ كنتَ ترجو في العُقوبةِ راحةً
فلا تَزهَدَنْ عِندَ المعافاةِ في الأجرِ
فعفا عنهـ) .
- وخَرَج محمَّدُ بنُ البعيثِ الرَّبعيِّ على المتوكِّلِ، فأخَذه وحَبَسه، فهَرَب من الحبسِ وعاد إلى ما كان عليه، فجيءَ به وقُدِّم لتُضرَبَ عُنُقُه، فقال له المتوكِّلُ: يا محمَّدُ، ما حمَلَك على ما صنَعْتَ؟ قال: الشِّقوةُ يا أميرَ المُؤمِنينَ! وأنت الحبلُ الممدودُ بَيْنَ اللَّهِ وبينَ خَلقِه، وإنَّ لي بك لظَنَّينِ أسبَقُهما إلى قلبي أَوْلاهما بك، وهو العَفْوُ:
تضاءَل ذنبي عِندَ عَفوِك قِلَّةً
فمُنَّ بعَفوٍ منكَ فالعَفْوُ أفضَلُ
ولم أتوسَّمْ غيرَ ما أنت أهلُهُ
وأنَّك بي خيرَ الفَعَالَينِ تَفعَلُ
فعفا عنه .
- و(كلَّم الأحنَفُ مُصعَبَ بنَ الزُّبَيرِ في قومٍ حَبَسَهم، فقال: أصلَح اللَّهُ الأميرَ، إن كانوا حُبِسوا في باطلٍ فالحَقُّ يُخرِجُهم، وإن كانوا حُبِسوا في حَقٍّ فالعَفْوُ يَسَعُهم؛ فخَلَّاهم) .
- وقال مالِكُ بنُ دينارٍ: (أتَينا مَنزِلَ الحكَمِ بنِ أيُّوبَ ليلًا وهو على البصرةِ أميرٌ، وجاء الحَسَنُ، وهو خائفٌ فدخَلْنا معه عليه، فما كُنَّا مع الحَسَنِ إلَّا بمنزلةِ الفراريجِ ، فذَكَر الحَسَنُ قِصَّةَ يوسُفَ عليه السَّلامُ وما صنع به إخوتُه، فقال: باعوا أخاهم وأحزَنوا أباهم، وذَكَر ما لَقِيَ من كَيدِ النِّساءِ ومن الحَبسِ، ثمَّ قال: أيُّها الأميرُ، ماذا صنع اللَّهُ به؟ أداله منهم، ورفَعَ ذِكرَه، وأعلى كَلِمتَه، وجعَلَه على خزائنِ الأرضِ، فماذا صنَع يوسُفُ حينَ أكمَل اللَّهُ له أمْرَه وجمَعَ له أهلَه؟ قال: لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [يوسف: 92] ، يُعَرِّضُ للحَكَمِ بالعَفْوِ عن أصحابِه، قال الحَكَمُ: فأنا أقولُ: لا تثريبَ عليكم اليومَ، ولو لم أجِدْ إلَّا ثوبي هذا لوارَيتُكم تحتَه!) .
- ولمَّا ضَرَب الرَّشيدُ أبا العتاهيةِ وحَبَسه، وكَّل به صاحِبَ خَبَرٍ يكتُبُ إليه بكُلِّ ما يسمَعُه. فكتَبَ إليه أنَّه سَمِعَه يُنشِدُ:
أمَا واللَّهِ إنَّ الظُّلمَ لُومٌ
وما زال المُسيءُ هو الظَّلومُ
إلى دَيَّانِ يومِ الدِّينِ نَمضي
وعندَ اللَّهِ تجتَمِعُ الخُصومُ
قال: فبكى الرَّشيدُ، وأمَر بإحضارِ أبي العتاهيةِ وإطلاقِه، وأمَر له بألفَي دينارٍ .

انظر أيضا:

  1. (1) ((بهجة المجالس)) لابن عبد البر (1/ 371).
  2. (2) ((ربيع الأبرار)) للزمخشري (5/ 183).
  3. (3) ((بهجة المجالس)) لابن عبد البر (1/ 371).
  4. (4) ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (260).
  5. (5) الحفيظةُ: الحَمِيَّةُ والغَضَبُ. يُنظَر: ((تاج العروس)) للزبيدي (20/219).
  6. (6) ((وفيات الأعيان)) لابن خلكان (2/425).
  7. (7) السِّماطُ: الجماعةُ من النَّاسِ والنَّحلِ. يُنظَر: ((لسان العرب)) لابن منظور (7/325).
  8. (8) ((وفيات الأعيان)) لابن خلكان (2/425).
  9. (9) يقال: الدَّالَّةُ: من يَدِلُّ على مَن له عندَه مَنزلةٌ، شِبهُ جراءةٍ منه. يُنظَر: ((لسان العرب)) لابن منظور (11/ 248).
  10. (10) يُنظَر: ((ربيع الأبرار)) للزمخشري (2/ 116).
  11. (11) الوَكْسُ: النَّقصُ. يُنظَر: ((لسان العرب)) لابن منظور (6/257).
  12. (12) رواه أبو بكر الدينوري في ((المجالسة وجواهر العلم)) (829)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (11/449).
  13. (13) ((محاضرات الأدباء)) للراغب الأصفهاني (1/ 285).
  14. (14) ((نهاية الأرب في فنون الأدب)) للنويري (6/60).
  15. (15) ((نهاية الأرب في فنون الأدب)) للنويري (6/60).
  16. (16) جَذَلًا: أي: فَرَحًا. يُنظَر: ((لسان العرب)) لابن منظور (11/107).
  17. (17) ((نهاية الأرب في فنون الأدب)) للنويري (6/60).
  18. (18) ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (ص: 260).
  19. (19) ((تاريخ دمشق)) لابن عساكر (57/ 19).
  20. (20) ((ربيع الأبرار)) للزمخشري (2/ 96).
  21. (21) يُنظَر: ((بهجة المجالس)) لابن عبد البر (1/99)، ((ربيع الأبرار)) للزمخشري (2/ 96، 97).
  22. (22) ((عيون الأخبار)) لابن قتيبة (1/ 173).
  23. (23) ((بهجة المجالس)) لابن عبد البر (1/ 371، 372).
  24. (24) ((ربيع الأبرار)) للزمخشري (2/ 109).
  25. (25) ((ربيع الأبرار)) للزمخشري (3/ 82).
  26. (26) الفراريجُ جمعُ فَرُّوجٍ: وهو الفتيُّ من وَلَدِ الدَّجاجِ. يُنظَر: ((لسان العرب)) لابن منظور (10/383).
  27. (27) ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (3/184).
  28. (28) ((الأغاني)) لأبي الفرج الأصفهاني (4/ 294).