موسوعة الأخلاق والسلوك

ج- نماذِجُ من الشَّفَقةِ عندَ الصَّحابةِ


أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عنه:
- عن أبي الدَّرداء رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((كُنتُ جالِسًا عِندَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذ أقبَلَ أبو بَكْرٍ آخِذًا بطَرَفِ ثَوبِه حَتَّى أبدى عن رُكبَتِه! فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أمَّا صاحِبُكم فقد غامَرَ [5249] غامَر: أي خاصَم، والمعنى: دَخَل في غَمرةِ الخُصومةِ، والغامِرُ: الذي يرمي بنفسِه في الأمرِ العظيمِ كالحربِ وغيرِه. وقيل: هو من الغِمْرِ -بكسرِ المُعجَمةِ- وهو الحِقدُ، أي: صنع أمرًا اقتضى له أن يحقِدَ على من صنَعَه معه ويحقِدَ الآخَرُ عليه. يُنظَر: ((فتح الباري)) لابن حجر (7/25). ! فسلَّم وقال: إنِّي كانَ بَيني وبَينَ ابنِ الخَطَّابِ شَيءٌ فأسرَعْتُ إلَيه ثُمَّ نَدِمتُ، فسألْتُه أن يَغفِرَ لي فأبى عَليَّ، فأقبَلْتُ إليك. فقال: يَغفِرُ اللهُ لكَ يا أبا بَكرٍ «ثَلاثًا»، ثُمَّ إنَّ عُمرَ نَدِمَ فأتى مَنزِلَ أبي بَكْرٍ فسألَ: أثَمَّ أبو بَكْرٍ؟ فقالوا: لا، فأتى إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فسَلَّمَ عليه، فجَعلَ وَجْهُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَتَمَعَّرُ حَتَّى أشفَقَ أبو بَكْرٍ فجثَا عَلى رُكبَتيه، فقال: يا رَسولَ اللهِ، واللَّهِ أنا كُنتُ أظلَمَ. مَرَّتينِ. فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنَّ اللهَ بَعَثني إليكم، فقَلتُم: كذَبْتَ، وقال أبو بَكرٍ: صَدَقَ، وواساني بنَفسِه ومالِه، فهل أنتُم تارِكو لي صاحِبي؟! مَرَّتينِ. فما أوذِيَ بَعدَها)) [5250] رواه البخاري (3661). .
قال العَينيُّ: («حتَّى أشفَقَ أبو بكرٍ» أي: حتى خاف أبو بكرٍ أن يكونَ من رسولِ اللهِ إلى عُمَرَ ما يكرَهُ) [5251] ((عمدة القاري)) (16/180). .
عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه:
- عن الأصمَعيِّ قال: (كلَّم النَّاسُ عبدَ الرَّحمنِ بنَ عوفٍ أن يكَلِّمَ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه في أن يُلينَ لهم؛ فإنَّه قد أخاف الأبكارَ في خُدورِهنَّ [5252] خُدورِهنَّ: الخِدْرُ سِترٌ يكونُ للجاريةِ البِكرِ في ناحيةِ البيتِ، وقيل: الخُدورُ: البيوتُ. ((فتح الباري)) لابن حجر (1/110). ؛ فكَلَّمه عبدُ الرَّحمنِ، فالتَفَت عمرُ إلى عبدِ الرَّحمنِ -رَضِيَ اللهُ عنهما- فقال له: يا عبدَ الرَّحمنِ، إنِّي لا أجِدُ لهم إلَّا ذلك، واللهِ لو أنَّهم يَعلَمون ما لهم عندي من الرَّأفةِ والرَّحمةِ والشَّفَقةِ؛ لأخَذوا ثوبي عن عاتقي) [5253] رواه أبو بكر الدِّينَوَري في ((المجالسة وجواهر العلم)) (1199). .
أبو هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه وشفَقَتُه على أمِّه:
عن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((كنتُ أدعو أمِّي إلى الإسلامِ وهي مُشرِكةٌ، فدعوتُها يومًا، فأسمعَتْني في رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما أكرَهُ! فأتيتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأنا أبكي، قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ إنِّي كنتُ أدعو أمِّي إلى الإسلامِ، فتأبى عليَّ، فدعوتُها اليومَ فأسمعَتْني فيك ما أكره، فادْعُ اللهَ أن يهدِيَ أمَّ أبي هُرَيرةَ، فقال: اللهمَّ اهْدِ أمَّ أبي هُرَيرةَ، فخرجتُ مُستبشِرًا بدعوةِ نَبيِّ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلمَّا جِئتُ فصِرْتُ إلى البابِ، فإذا هو مُجافٌ، فسمعَتْ أمِّي خَشْفَ قَدَميَّ، فقالت: مكانَك يا أبا هُرَيرةَ، وسمعتُ خَضخَضةَ الماءِ، قال: فاغتسلَتْ، ولبسَتْ دِرْعَها، وعَجِلَت عن خمارِها، ففتَحَت البابَ، ثُمَّ قالت: يا أبا هُرَيرةَ: أشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأشهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبدُه ورَسولُه! فرجعتُ إلى رَسولِ اللهِ فأتيتُه وأنا أبكي من الفَرَحِ! قال: قُلتُ: يا رسولَ اللهِ، أبشِرْ، قد استجاب اللهُ دعْوَتَك، وهدى أمَّ أبي هُرَيرةَ، فحَمِدَ اللهَ، وأثنى عليه، وقال خَيرًا)) [5254] أخرجه مسلم (2491). .
جابرُ بنُ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما وشفَقتُه على أخَواتِه:
عن جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما: ((أنَّ عبدَ اللهِ هَلَك، وتَرَك تِسعَ بَناتٍ -أو قال: سَبْعَ- فتزَوَّجْتُ امرأةً ثَيِّبًا، فقال لي رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: يا جابِرُ، تزوَّجْتَ؟ قال: قُلتُ: نعمْ، قال: فبِكرٌ أم ثَيِّبٌ؟ قال: قُلتُ: بل ثَيِّبٌ يا رسولَ اللَّهِ، قال: فهَلَّا جاريةٌ تُلاعِبُها وتُلاعِبُك!، أو قال: تُضاحِكُها وتُضاحِكُك، قال: قُلتُ له: إنَّ عبدَ اللهِ هَلَك، وتَرَك تِسعَ بناتٍ -أو سَبعَ- وإنِّي كَرِهْتُ أن آتيَهنَّ أو أجيئَهنَّ بمِثْلِهنَّ، فأحبَبْتُ أن أجيءَ بامرأةٍ تقومُ عليهنَّ وتُصلِحُهنَّ، قال: فبارَكَ اللهُ لك، أو قال لي خيرًا)) [5255] أخرجه البخاري (4052)، ومسلم (715) واللفظ له. .

انظر أيضا: